تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡبَحۡرَانِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ سَآئِغٞ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞۖ وَمِن كُلّٖ تَأۡكُلُونَ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (12)

يقول تعالى منبها على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة : وخلق البحرين العذب الزلال ، وهو هذه الأنهار السارحة بين الناس ، من كبار وصغار ، بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار ، والعمران والبراري والقفار ، وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد ذلك ، { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } ، وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار ، وإنما تكون مالحة زُعَاقًا مُرَّة ، ولهذا قال : { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } ، أي : مُرّ .

ثم قال : { وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا } يعني : السمك ، { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } ، كما قال تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 22 ، 23 ] .

وقوله : { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ }{[24498]} أي : تمخره وتشقه بحيزومها ، وهو مقدمها المُسَنَّم الذي يشبه جؤجؤ الطير - وهو : صدره .

وقال مجاهد : تمخر الريح السفن ، ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام .

وقوله : { لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } أي : بأسفاركم بالتجارة ، من قطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم ، وهو البحر ، تتصرفون فيه كيف شئتم ، وتذهبون أين أردتم ، ولا يمتنع عليكم شيء منه ، بل بقدرته قد سخر لكم ما في السموات وما في الأرض ، الجميع من فضله ومن رحمته .


[24498]:- في ت، س : "وترى الفلك مواخر فيه". ولعلهما أرادا الآية : 14 من سورة النحل.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡبَحۡرَانِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ سَآئِغٞ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞۖ وَمِن كُلّٖ تَأۡكُلُونَ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (12)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هََذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهََذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } .

يقول تعالى ذكره : وما يعتدل البحران فيستويان ، أحدهما عَذْب فُرات والفرات : هو أعذب العذب ، وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ يقول : والاَخر منهما ملح أجاج ، وذلك هو ماء البحر الأخضر والأُجاج : المرّ ، وهو أشدّ المياه مُلوحة ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَهَذَا مِلْحٌ أُجاجٌ والأُجاج : المرّ .

وقوله : وَمِنْ كُل تَأْكُلُونَ لَحْما طَرِيّا يقول : ومن كلّ البحار تأكلون لحما طَرِيا ، وذلك السمك من عذبهما الفرات ، وملحهما الأجاج وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يعني : الدرّ والمرجان تستخرجونها من الملح الأجاج . وقد بيّنا قبل وجه تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً ، وإنما يستخرج من الملح فيما مضى بما أغنى عن إعادته وَتَرَى الفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ يقول تعالى ذكره : وترى السفن في كل تلك البحار مواخر ، تمخُر الماء بصدورها ، وذلك خرقها إياه إذا مرّت واحدتها ماخرة . يقال منه : مَخَرت تمخُر ، وتمخَر مَخْرا ، وذلك إذا شقّت الماء بصدورها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمِنْ كُلّ تَأكُلُونَ لَحْما طَرِيّا : أي منهما جميعا وتَسْتَخْرِجونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها هذا اللؤلؤ ، وترى الفُلك فيه مواخر : فيه السفن مُقبلةً ومدبرة بريح واحدة .

حدثنا عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَتَرَى الفُلْكَ فِيه مَوَاخِرَ يقول : جَوارِي .

وقوله : لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يقول : لتطلبوا بركوبكم في هذه البحار في الفلك من معايشكم ، ولتتصرّفوا فيها في تجاراتكم ، وتشكروا الله على تسخيره ذلك لكم ، وما رزقكم منه من طيبات الرزق ، وفاخر الحليّ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡبَحۡرَانِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ سَآئِغٞ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞۖ وَمِن كُلّٖ تَأۡكُلُونَ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (12)

{ وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } ضرب مثل للمؤمن والكافر ، والفرات الذي يكسر العطش والسائغ الذي يسهل انحداره ، والأجاج الذي يحرق بملوحته . وقرئ " سيغ " بالتشديد و " سيغ " بالتخفيف و { ملح } على فعل . { ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسوها } استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم ، أو تمام التمثيل والمعنى : كما أنهما وان اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء ، فإنه خالط أحدهما ما أفسده وغيره عن كمال فطرته لا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصية العظمى وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر ، أو تفضل للأجاج على الكافر بما يشارك فيه العذب من المنافع . والمراد ب { الحلية } اللآلئ واليواقيت . { وترى الفلك فيه } في كل . { مواخر } تشق الماء بجريها { لتبتغوا من فضله } من فضل الله بالنقلة فيها ، واللام متعلقة ب { مواخر } ، ويجوز أن تتعلق بما دل عليه الأفعال المذكورة . { ولعلكم تشكرون } على ذلك وحرف الترجي باعتبار ما يقتضيه ظاهر الحال .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡبَحۡرَانِ هَٰذَا عَذۡبٞ فُرَاتٞ سَآئِغٞ شَرَابُهُۥ وَهَٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجٞۖ وَمِن كُلّٖ تَأۡكُلُونَ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (12)

هذه آية أخرى يستدل بها كل عاقل ويقطع أنها مما لا مدخل لصنم فيه ، و { البحران } يريد بهما جميع الماء الملح وجميع الماء العذب حيث كان ، فهو يعني به جملة هذا وجملة هذا ، و «الفرات » الشديد العذوبة ، و «الأجاج » الشديد الملوحة الذي يميل إلى المرارة من ملوحته ، قال الرماني هو من أججت النار كأنه يحرق من حرارته ، وقرأ عيسى الثقفي «سيّغ شرابه » بغير ألف وبشد الياء ، وقرأ طلحة «مَلِح » بفتح الميم وكسر اللام ، و «اللحم الطري » الحوت وهو موجود في البحرين ، وكذلك { الفلك } تجري في البحرين ، وبقيت «الحلية » وهي اللؤلؤ والمرجان ، فقال الزجاج وغيره هذه عبارة تقتضي أن الحلية تخرج منهما ، وهي إنما تخرج من الملح وذلك تجوز كما قال في آية أخرى { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }{[9701]} [ الرحمن : 22 ] ، وكما قال { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم }{[9702]} [ الأنعام : 128 ] ، والرسل إنما هي من الإنس ، وقال بعض الناس بل الحلية تخرج من البحرين ، وذلك أن صدف اللؤلؤ إنما يلحقه فيما يزعمون ماء النيسان ، فمنه ما يخرج ويوجد الجوهر فيه ، ومنه ما ينشق في البحر عند موته وتقطعه ، فيخرج جوهرة بالعطش وغير ذلك من الحيل ، فهذا هو من الماء الفرات ، فنسب إليه الإخراج لما كان من الحلية بسبب ، وأيضاً فإن المرجان يزعم طلابه في البحر أنه إنما يوجد وينبت في موضع بإزائها انصباب ماء أنهار في البحر وأيضاً فإن البحر الفرات كل ينصب في البحر الأجاج فيجيء الإخراج منهما جميعاً .

قال القاضي أبو محمد : وقد خطىء أبو ذؤيب في قوله في صفة الجوهر : [ الطويل ]

فجاء بها ما شئت من لطمية . . . على وجهها ماء الفرات يموج{[9703]}

وليس ذلك بخطإ على ما ذكرنا من تأويل هذه الفرقة ، و { الفلك } في هذا الموضع جمع بدليل صفته بجمع ، و { مواخر } جمع ماخرة وهي التي تمخر الماء أي تشقه ، وقيل الماخرة التي تشق الريح ، وحينئذ يحدث الصوت ، والمخر الصوت الذي يحدث من جري السفينة بالريح ، وعبر المفسرون عن هذا بعبارات لا تختص باللفظة ، فقال بعضهم «المواخر » التي تجيء وتذهب بريح واحدة ، وقال مجاهد الريح تمخر السفن ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام .

قال القاضي أبو محمد : هكذا وقع لفظه في البخاري ، والصواب أن تكون { الفلك } هي الماخرة لا الممخورة وقوله تعالى : { لتبتغوا } يريد بالتجارات والحج والغزو وكل سفر له وجه شرعي .


[9701]:الآية(22) من سورة (الرحمن).
[9702]:من الآية(130) من سورة(الأنعام).
[9703]:البيت من قصيدة تطرق فيها أبو ذؤيؤ الهذلي إلى وصف ابنة السهمي، وشبهها بأنها درة عثر عليها غواص بعد أن اجتاز إليها لجة بعد لجة، وبعد أن أصابه التعب والإعياء فالضمير في (بها) يعود على الدرة، ورواية البيت في الديوان:(تدوم البحار فوقها وتموج)، وقال شارحه: ويروى:(يدوم الفرات)، يقول: إن هذه الدرة قد جاء بها التاجر في اللطائم، واللطيمة: عير تحمل التجارة والعطر، فإن لم يكن فيها عطر فليست بلطيمة، ومعنى(تدوم البحار): تسكن فوقها، وتموج: تتحرك، أي: تذهب وتجيء. قال الأصمعي: "الفرات: العذب، ولا يجيء منه الدر؛ إلا أنه غلط، وظن أن الدرة إذا كانت في الماء العذب فليس لها شبه، ولم يعلم أنها لا تكون في العذب"، وابن عطية هنا يدفع ما قيل من خطئه على التأويل الذي ذكره.