تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (27)

يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وجلاله ، وأسمائه الحسنى وصفاته العلا وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد ، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها ، كما قال سيد البشر وخاتم الرسل : «لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك » ، فقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } [ أي : ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما ، وجعل البحر مدادًا ومَده سبعة أبحر ]{[22978]} معه ، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام ، ونَفدَ ماء البحر ، ولو جاء أمثالها مَدَدا .

وإنما ذكرت " السبعة " على وجه المبالغة ، ولم يرد الحصر ولا [ أن ]{[22979]} ثم سبعة أبحر موجودة تحيط بالعالم ، كما يقوله من تلقاه من كلام الإسرائيليين التي لا تصدق ولا تكذب ، بل كما قال تعالى في الآية الأخرى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [ الكهف : 109 ] ، فليس المراد بقوله : { بِمِثْلِهِ } آخر فقط ، بل بمثله ثم بمثله ثم بمثله ، ثم هلم جرا ؛ لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته .

وقال الحسن البصري : لو جعل شجر الأرض أقلاما ، وجعل البحر مدادا ، وقال الله : " إن من أمري كذا ، ومن أمري كذا " لنفد ما في البحور ، وتكسرت الأقلام .

وقال قتادة : قال المشركون : إنما هذا كلام يوشك أن ينفد ، فقال الله تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ } أي : لو كان شجر الأرض أقلاما ، ومع البحر سبعة أبحر ، ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه .

وقال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ، وقد أنزل الله ذلك : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ } الآية .

يقول : لو كان البحر مدادا لكلمات الله والأشجار كلها أقلاما ، لانكسرت الأقلام ، وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره ، ولا يثني عليه كما ينبغي ، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه . إن ربنا كما يقول ، وفوق ما نقول .

وقد روي أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود ، قال ابن إسحاق : حدثني ابن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة : يا محمد ، أرأيت قولك : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلا قَلِيلا } ؟ [ الإسراء : 85 ] ، إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلا " . فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنها في علم الله قليل ، وعندكم من ذلك ما يكفيكم » . وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ } الآية .

وهكذا روي عن عكرمة ، وعطاء بن يَسَار . وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية لا مكية ، والمشهور أنها مكية ، والله{[22980]} أعلم .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز قد عَز كلَّ شيء وقهره وغلبه ، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه ، { حَكِيمٌ } في خلقه وأمره ، وأقواله وأفعاله ، وشرعه وجميع شؤونه .


[22978]:- زيادة من ت، ف، أ.
[22979]:- زيادة من ت، ف، أ.
[22980]:- في ت، ف: "فالله".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (27)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنّمَا فِي الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : ولو أن شجر الأرض كلها بريت أقلاما والبَحْرُ يَمُدّهُ يقول : والبحر له مداد ، والهاء في قوله يَمُدّهُ عائدة على البحر . وقوله منْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ وفي هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة الظاهر عليه منه ، وهو يكتب كلام الله بتلك الأقلام وبذلك المداد ، لتكسرت تلك الأقلام ، ولنفد ذلك المداد ، ولم تنفد كلمات الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سألت الحسن عن هذه الاَية وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ قال : لو جعل شجر الأرض أقلاما ، وجعل البحور مدادا ، وقال الله : إن من أمري كذا ، ومن أمري كذا ، لنفد ماء البحور ، وتكسّرت الأقلام .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم ، قال : حدثنا عمرو ، في قوله وَلَوْ أنّ ما في الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ قال : لو بريت أقلاما والبحر مدادا ، فكتب بتلك الأقلام منه ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ ولو مدّه سبعة أبحر .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ ، والبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ قال : قال المشركون : إنما هذا كلام يوشك أن ينفد ، قال : لو كان شجر البرّ أقلاما ، ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه .

وذُكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب مجادلة كانت من اليهود له . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : ثني رجل من أهل مكة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، أن أخبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة : يا محمد أرأيت قوله وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كُلاّ » ، فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك : أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كلّ شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّها في عِلْمِ اللّهِ قَلِيلٌ وَعِنْدَكُمْ مِنْ ذلكَ ما يكْفِيكُمْ » ، فأنزل الله عليه فيما سألوه عنه من ذلك : وَلَوْ أنّ ما في الأرْض مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ : أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ ، قُلِ الرّوحُ مِنْ أمْرِ رَبّي ، وَما أُتِيتُمْ مِنَ العِلْم إلاّ قَلِيلاً فقالوا : تزعم أنا لم نؤت من العلم إلاّ قليلاً ، وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرا كَثِيرا قال : فنزلت وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ من شَجَرَةٍ أقْلامٌ والبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ قال : ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار وأدخلكم الجنة ، فهو كثير طيب ، وهو في علم الله قليل .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : لما نزلت بمكة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً يعني اليهود فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أتاه أحبار يهود ، فقالوا : يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاّ قَلِيلاً أفتعنينا أم قومك ؟ قال : «كُلاّ قَدْ عَنَيتُ » ، قالوا : فإنك تتلو : أنا قد أوتينا التوراة ، وفيها تبيان كلّ شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هِيَ فِي عِلمِ اللّهِ قَلِيلٌ ، وَقَدْ آتاكُمُ اللّهُ ما إنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ » ، فأنزل الله وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أقْلامٌ ، والبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ . . . إلى قوله إنّ اللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله والبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ فقرأته عامّة قرّاء المدينة والكوفة والبحر رفعا على الابتداء ، وقرأته قرّاء البصرة نصبا ، عطفا به على «ما » في قوله : وَلَوْ أنّ ما فِي الأرْضِ وبأيتهما قرأ القارىء فمصيب عندي . وقوله : إنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يقول : إن الله ذو عزّة في انتقامه ممن أشرك به ، وادّعى معه إلها غيره ، حكيم في تدبيره خلقه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (27)

{ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام } ولو ثبت كون الأشجار أقلاما ، وتوحيد { شجرة } لأن المراد تفصيل الآحاد . { والبحر يمده من بعده سبعة أبحر } والبحر المحيط بسعته مدادا ممدودا بسبعة أبحر ، فأغنى عن ذكر المداد بمده لأنه من مد الدواة وأمدها ، ورفعه للعطف على محل أن ومعموليها وبمده حال أو للابتداء على أنه مستأنف أو الواو للحال ، ونصبه البصريان بالعطف على اسم { أن } أو إضمار فعل يفسره { يمده } ، وقرئ " تمده " " ويمده " بالياء والتاء . { ما نفذت من كلمات الله } بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد وإيثار جمع القلة للإشعار بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير . { إن الله عزيز } لا يعجزه شيء . { حكيم } لا يخرج عن علمه وحكمته أمر ، والآية جواب لليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } وقد أنزل التوراة وفيها علم كل شيء .