{ وأنفقوا مما رزقناكم } قال ابن عباس : يريد زكاة الأموال ، { من قبل أن يأتي أحدكم الموت } فيسأل الرجعة ، { فيقول رب لولا أخرتني }هلا أخرتني أمهلتني . وقيل : " لا " صلة ، فيكون الكلام بمعنى التمني ، أي : لو أخرتني ، { إلى أجل قريب فأصدق } فأتصدق وأزكي مالي ، { وأكن من الصالحين } أي من المؤمنين . نظيره قوله تعالى : { ومن صلح من آبائهم }( الرعد- 23 ) ( غافر- 8 ) ، هذا قول مقاتل وجماعة . وقالوا : نزلت الآية في المنافقين . وقيل : نزلت الآية في المؤمنين . والمراد بالصلاح هنا : الحج . وروى الضحاك ، وعطية عن ابن عباس قال : ما من أحد يموت وكان له مال لم يؤد زكاته وأطلق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت . وقرأ هذه الآية . وقال : { وأكن من الصالحين } قرأ أبو عمرو وأكون بالواو ونصب النون على جواب التمني وعلى لفظ { فأصدق } وقال : إنما حذفت الواو من المصحف اختصاراً . وقرأ الآخرون : { وأكن } بالجزم عطفاً على قوله { فأصدق } لو لم يكن فيه الفاء ، لأنه لو لم يكن فيه الفاء لكان جزماً . يعني : ( إن أخرتني أصدق وأكن ) ، ولأنه مكتوب في المصحف بحذف الواو .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأنفقوا أيها المؤمنون بالله ورسوله من الأموال التي رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول إذا نزل به الموت: يا ربّ هلا أخرتني فتُمْهِلَ لي في الأجل إلى أجل قريب." فأصدّق "يقول: فأزكي مالي "وأكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ" يقول: وأعمل بطاعتك، وأؤدّي فرائضك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وأنفقوا من ما رزقناكم} يجوز أن يكون صلة قوله: {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} فيمنعكم ذلك عن الإنفاق؛ فإنكم إذا امتنعتم عن الإنفاق ازداد حبكم، فتنسون وحدانية الله تعالى وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب} قال بعضهم: تمنى الرجعة لما رأى من الهلاك والعذاب حين ترك الحقوق. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لو كان ثم خير لم يتمن الرجعة. ولكن المعنى في ذلك عندنا، والله أعلم، أنه يتمنى الرجوع ليتصدق، ليس الإنفاق خاصة، ولكن ليتصدق، وليكون من الصالحين أي الموحدين. وذلك مستقيم أن يقال: إذا ترك التوحيد، فنزل به الموت فإنه يتمنى الرجوع لما يرى من الهلاك والعقوبة. ويجوز أن يكون المعنى في هذا إن كانت الآية في المؤمنين الموحدين أنهم يتمنون الرجوع حياء من ربهم لما... ارتكبوا من الزلات، وتركوا ما استوجبوا من الحسنات، وقصروا في فرض الله تعالى عليهم من العبادات؛ وحق على كل مؤمن أن يستحيي من ربه إذا لقيه بما ترك من حقوقه التي ألزمها عليه والأسباب الواجبة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا تَغْتَرُّوا بسلامةِ أوقاتِكم، وتَرَقَّبوا بَغَتاتِ آجالِكم، وتأهَّبوا لما بين أيديكم من الرحيل، ولا تُعَرِّجوا في أوطان التسويف...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يأتي أحدكم الموت} أي علاماته، وأوائل أمره... وسماه قريباً لأنه آت، وأيضاً فإنما يتمنى ذلك ليقضي فيه العمل الصالح فقط، وليس يتسع الأمل حينئذ لطلب العيش ونضرته...
وقوله: {وأكن من الصالحين} ظاهره العموم...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قال ابن عباس: هذه الآية أشد على أهل التوحيد؛ لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة. قلت: إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل، لما يرى من الكرامة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فكل مُفَرِّط يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرًا، يستعتب ويستدرك ما فاته، وهيهات! كان ما كان، وأتى ما هو آت، وكل بحسب تفريطه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأنفقوا} أي ما أمرتم به من واجب أو مندوب، وزاد في الترغيب بالرضى منهم باليسير مما هو كله له بقوله: {من ما رزقناكم} أي من عظمتنا وبلغ النهاية في ذلك بالرضا بفعل ما أمر به مع التوبة النصوح في زمن ما ولو قل بما أرشد إليه إثبات الجار، فقال مرغباً في التأهب للرحيل والمبادرة لمباغتة الأجل، محذراً من الاغترار بالتسويف في أوقات السلامة: {من قبل} وفك المصدر ليفيد "أن " مزيد القرب فقال: {أن يأتي} ولما كان تقديم المفعول كما تقدم في النساء أهول قال: {أحدكم الموت} أي برؤية دلائله وأماراته، وكل لحظة مرت فهي من دلائله وأماراته. ولما كانت الشدائد تقتضي الإقبال على الله، سبب عن ذلك بقوله: {فيقول} سائلاً في الرجعة، وأشار إلى ترقيقها للقلوب بقوله: {رب لولا} أي هل لا ولم لا {أخرتني} أي أخرت موتي إمهالاً لي {إلى أجل} أي زمان، وبين أن مراده استدراك ما فات ليس إلا بقوله: {قريب فأصدق} أي للتزود في سفري هذا الطويل الذي أنا مستقبله... ولعله أدغم تاء التفعل إشارة إلى أنه إذا أخر فعل ذلك على وجه الإخفاء ليكون أفضل، أو يكون إدغامها اختصاراً لبلوغ الأمر إلى حد محوج إلى الإيجاز في القول كما طلب في الزمن... {من الصالحين} أي العريقين في هذا الوصف العظيم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا إبطال ونقض لكيد المنافقين حين قالوا: {لا تنفقوا على من عند رسول الله} [المنافقون: 7]، وهو يعمّ الإِنفاق على الملتفين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم والإِنفاقَ على غيرهم فكانت الجملة كالتذييل. وفعل {أنفقوا} مستعمل في الطلب الشامل للواجب والمستحب فإن مدلول صيغة: افعل، مطلق الطلب، وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب. وفي قوله: {من ما رزقناكم} إشارة إلى أن الإنفاق المأمور به شكر لله على ما رزق المنفِق فإن الشكر صرف العبد ما أنعم الله به عليه فيما خُلق لأجله، ويعرف ذلك من تلقاء الشريعة. و {مِن} للتبعيض، أي بعض ما رزقناكم، وهذه توسعة من الله على عباده، وهذا البعض منه هو معيّن المقدار مثل مقادير الزكاة وصدقة الفطر. ومنه ما يتعين بسدّ الخلة الواجب سدّها مع طاقة المنفق كنفقات الحج والجهاد والرباط ونفقات العيال الواجبة ونفقات مصالح المسلمين الضرورية والحاجيّة، ومنه ما يتعين بتعين سببه كالكفارات، ومنه ما وكل للناس تعيينه مما ليس بواجب من الإِنفاق فذلك موكول إلى رغبات الناس في نوال الثواب فإن ذلك باب عظيم من القربى من رضى الله تعالى، وفي الحديث « الصدقة تُطفئ الخطايا كما يُطفئ الماءُ النارَ». وقد ذكَّر الله المؤمنين بما في الإِنفاق من الخير بأن عليهم أن يكثروا منه ما داموا مقتدرين قبل الفوت، أي قبل تعذر الإِنفاق والإِتيان بالأعمال الصالحة، وذلك حين يحسّ المرء بحالة تؤذن بقرب الموت ويُغْلَب على قواه فيسأل الله أن يؤخر مَوته ويشفيه ليأتي بكثير مما فرط فيه من الحسنات طمعاً أن يستجاب له فإن كان في أجله تأخير فلعل الله أن يستجيب له، فإن لم يكن في الأجل تأخير أو لم يقدر الله له الاستجابة فإنه خير كثير. و {لولا} حرف تحضيض، والتحضيض الطلب الحثيث المضطر إليه، ويستعمل {لولا} للعرض أيضاً والتوبيخ والتنديم والتمني على المجاز أو الكناية، وتقدم عند قوله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت} في سورة [يونس: 98]. وحق الفعل بعدها أن يكون مضارعاً وإنما جاء ماضياً هنا لتأكيد إيقاعه في دعاء الداعي حتى كأنه قد تحقق مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1] وقرينة ذلك ترتيب فعلَيْ {فأصدق وأكن من الصالحين} عليه. والمعنى: فيسأل المؤمن ربه سؤالاً حثيثاً أن يحقق تأخير موته إلى أجل يستدرك فيه ما اشتغل عنه من إنفاق وعمل صالح. ووصفُ الأجلِ ب {قريب} تمهيد لتحصيل الاستجابة بناء على متعارف الناس أن الأمر اليسير أرجى لأن يستجيبه المسؤول فيغلب ذلك على شعورهم حين يسألون الله تنساق بذلك نفوسهم إلى ما عرفوا، ولذلك ورد في الحديث « لا يقولَنَّ أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت وليعزم المسألةَ فإنه لا مُكْره له» تنبيهاً على هذا التوهم فالقرآن حكى عن الناس ما هو الغالب على أقوالهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
والأمر بالإنفاق هنا يشمل كافّة أنواع الإنفاق الواجبة والمستحبّة، رغم قول البعض بأنّها تعني التعجيل في دفع الزكاة. والطريف أنّه جاء في ذيل الآية (فأصدّق وأكن من الصالحين) لبيان تأثير الإنفاق في صلاح الإنسان، وإن فسّره البعض بأنّه أداء «مراسم الحجّ» كما عبّرت بعض الروايات عن نفس هذا المعنى فهو من قبيل ذكر المصداق البارز. وأراد القرآن أن يلفت الأنظار إلى أنّ الإنسان لا يقول هذا الكلام بعد الموت، بل عند الموت والاحتضار، إذ قال: (من قبل أن يأتي أحدكم الموت). وقال (ممّا رزقناكم) ليؤكّد أنّ جميع النعم وليس الأموال فقط هي من عند الله، وأنّها ستعود إليه عمّا قريب، فلا معنى للبخل والحرص والتقتير.
الأولى- قوله تعالى : " وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت " يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة ، ولا يجوز تأخيرها أصلا . وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها .
الثانية- " فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين " سأل الرجعة إلى الدنيا ليعمل صالحا . وروى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت . فقال رجل : يا ابن عباس ، اتق الله ، إنما سأل الرجعة الكفار . فقال : سأتلو عليك بذلك قرانا : " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون . وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين إلى قوله والله خبير بما تعملون " قال : فما يوجب الزكاة ؟ قال : إذا بلغ المال{[15034]} مائتين فصاعدا . قال : فما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والراحلة .
قلت : ذكره الحليمي أبو عبدالله الحسين بن الحسن في كتاب ( منهاج الدين ) مرفوعا فقال : وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كان عنده مال يبلغه الحج . . . ) الحديث ، فذكره . وقد تقدم في " آل عمران " لفظه{[15035]} .
الثالثة- قال ابن العربي : أخذ ابن عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفل ، فأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموما وتقديرا بالمائتين . وأما القول في الحج ففيه إشكال ؛ لأنا إن قلنا : إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل الحج خلاف بين العلماء ، فلا تخرج الآية عليه . وإن قلنا : إن الحج على الفور فالآية في العموم صحيح ؛ لأن من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يود أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات . وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء . وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل ؛ لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها ، وإنما يدخل في المتفق عليه . والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق كيف تصرف بالإجماع أو بنص القرآن ؛ لأجل أن ما عدا ذلك لا يتطرق إليه تحقيق الوعيد .
الرابعة- قوله تعالى : " لولا " أي هلا ، فيكون استفهاما . وقيل : " لا " صلة ، فيكون الكلام بمعنى التمني . " فأصدق " نصب على جواب التمني بالفاء . " وأكون " عطف على " فأصدق " وهي قراءة ابن عمرو وابن محيصن ومجاهد . وقرأ الباقون " وأكن " بالجزم عطفا على موضع الفاء ؛ لأن قوله : " فأصدق " لو لم تكن الفاء لكان مجزوما ؛ أي أصدق . ومثله : " من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم{[15036]} " [ الأعراف : 186 ] فيمن جزم . قال ابن عباس : هذه الآية أشد على أهل التوحيد ؛ لأنه لا يتمنى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة .
قلت : إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل ، لما يرى من الكرامة .
قوله : { وأنفقوا من مّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت } يعني أنفقوا من مال الله الذي أتاكم وابذلوه في وجوه الخير والطاعة كأداء الزكاة والجهاد وغير ذلك من ضروب البر والمعروف ، من قبل أن ينزل الموت بأحدكم وحينئذ يغشاه من الندامة والحسرة ما يغشاه . وذلك بسبب غفلته وتفريطه في عبادة ربه { فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب } يقول حينئذ وقد عرف مصيره المخوف وأيقن أنه هالك خاسر : يا رب هلا أمهلتني فأخرت أجلي إلى أمد قريب . فهو بذلك يتمنى أن يعيده الله إلى الدنيا ليتدارك ما فاته فيها فيعمل صالحا { فأصدق وأكن من الصالحين } أي أتصدق بمالي في وجوه الخير والطاعة وأكن من أهل الصلاح والتقوى .