الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (10)

قوله : { وَأَكُن } : قرأ أبو عمروٍ " وأكونَ " بنصب الفعل عطفاً على " فأصَّدَّقَ " و " فأصَّدَّقَ " منصوبٌ على جوابِ التمني في قوله : " لولا أَخَّرتني " والباقون " وأكُنْ " مجزوماً ، وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين . واختلفت عبارات الناس في ذلك ، فقال الزمخشري : " عطفاً على محلِّ " فأصَّدَّقَ " كأنه قيل : إنْ أخَّرْتَني أصَّدَّقْ وأكنْ " . وقال ابنُ عطية : " عطفاً على الموضع ؛ لأنَّ التقديرَ : إنْ أخَّرتني أصَّدَّقْ وأكن ، هذا مذهب أبي علي الفارسي : فأمَّا ما حكاه سيبويه عن الخليلِ فهو غيرُ هذا وهو أنه جزمٌ على توهُّمِ الشرطِ الذي يَدُلُّ عليه التمني ، ولا موضعَ هنا لأن الشرطَ ليسَ بظاهرٍ ، وإنما يُعْطَفُ على الموضع حيث يَظْهَرُ الشرطُ كقولِه : { مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] فمَنْ جَزَمَ عَطَفه على موضع { فَلاَ هَادِيَ لَهُ } لأنه لو وقع موقعَه فِعْلٌ لانجزم " انتهى . وهذا الذي نَقَله عن سيبويهِ هو المشهورُ عند النَّحويين . ونَظَّر سيبويه ذلك بقول زهير :

بَداليَ أني لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى *** ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا

فخفضَ " ولا سابقٍ " عطفاً على " مُدْرِكَ " الذي هو خبر ليس على توهُّمِ زيادةِ الباء فيه ؛ لأنه قد كَثُرَ جَرُّ خبرِها بالباء المزيدة ، وهو عكسُ الآيةِ الكريمةِ ؛ لأنه في الآية جُزِمَ على توهُّمِ سقوط الفاء ، وهنا خُفِضَ على تَوَهُّمِ وجودِ الباءِ ، ولكنَّ الجامعَ توهُّمُ ما يَقْتضي جوازَ ذلك ، ولكني لا أُحِبُّ هذا اللفظَ مستعملاً في القرآن ، فلا يُقال : جُزم على التوهُّم ، لقُبْحه لفظاً . وقال أبو عبيد : " رأيتهُ في مصحف عثمان " وأكُنْ " بغير واوٍ . وقد فَرَّق الشيخ بين العطفِ على الموضعِ والعطفِ على التوهُّمِ بشيءٍ فقال : " الفرقُ بينهما : أنَّ العاملَ في العطف على الموضع موجودٌ ، وأثرُه مفقودٌ ، والعاملُ في العطفِ على التوهُّمِ مفقودٌ ، وأثرُه موجودٌ " انتهى . قلت : مثالُ الأول : " هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً " فهذا من العطفِ على الموضع ، فالعاملُ وهو " ضارب " موجودٌ ، وأثرُه وهو النصبُ مفقودٌ . ومثالُ الثاني ما نحن فيه ؛ فإنَّ العاملَ للجزمِ مفقودٌ ، وأثُره موجودٌ . وأَصْرَحُ منه بيتُ زهير فإنَّ الباءَ مفقودةٌ وأثُرها موجودٌ ، ولكن أثرَها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه ، وكذلك في الآية الكريمة . ومن ذلك بيتُ امرىء القيس :

فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِنْ بينِ مُنْضِجٍ *** صَفيفِ شِواءٍ قَديرٍ مُعَجَّلِ

فإنهم جعلوه مِن العطفِ على التوهُّم ؛ وذلك : أنه توهَّم أنه أضاف " منضج " إلى " صَفيف " ، وهو لو أضافَه إليه لَجَرَّه فعطفَ " قدير " على " صفيف " بالجرِّ تَوَهماً لجرِّه بالإِضافة . /

وقرأ عبيد بن عمير " وأكونُ " برفع الفعل على الاستئناف ، أي : وأنا أكونُ ، وهذا عِدَةٌ منه بالصَّلاح .