روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (10)

وكأنه لما نهى المنافقون عن الانفاق على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأريد الحث على الانفاق جعل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ } الخ تمهيداً وتوطئة للأمر بالانفاق لكن على وجه العموم في قوله سبحانه : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رزقناكم } أي بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال ادخاراً للآخرة { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت } أي أماراته ومقدماته فالكلام على تقدير مضاف ولذا فرع على ذلك قوله تعالى : { رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى } أي أمهلتني { إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي أمد قصير { فَأَصَّدَّقَ } أي فأتصدق ، وبذلك قرأ أبي . وعبد الله . وابن جبير ، ونصب الفعل في جواب التمني والجزم في قوله سبحانه : { وَأَكُن مّنَ الصالحين } بالعطف على موضع { فَأَصَّدَّقَ } كأنه قيل : إن أخرتني أصدّق وأكن ، وإلى هذا ذهب أبو علي الفارسي . والزجاج ، وحكى سيبويه عن الخليل أنه على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني لأن الشرط غير ظاهر ولا يقدر حتى يعتبر العطف على الموضع كما في قوله تعالى : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] ويذرهم فيمن قرأ بالجزم وهو حسن بيد أن التعبير بالتوهم هنا ينشأ منه توهم قبيح ، والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم أن العامل في العطف على الموضع موجود وأثره مفقود ، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود ، واستظهر أن الخلاف لفظي فمراد أبي علي . والزجاج العطف على الموضع المتوهم أي المقدر إذ لا موضع هنا في التحقيق لكنهما فرا من قبح التعبير .

وقرأ الحسن . وابن جبير . وأبو رجاء . وابن أبي إسحق . ومالك بن دينار . والأعمش . وابن محيصن . وعبد الله بن الحسن العنبري . وأبو عمرو { وأكون } بالنصب وهو ظاهر ، وقرأ عبيد بن عمير { وأكون } بالرفع على الاستئناف ، والنحويون . وأهل المعاني قدروا المبتدأ في أمثال ذلك من أفعال المستأنفة ، فيقال هنا : أي وأنا أكون ولا تراهم يهملون ذلك ، ووجه بأن ذلك لأن الفعل لا يصلح للاستئناف مع الواو الاستئنافية كما هنا ولا بدونها ، وتعقب بأنه لم يذهب إلى عدم صلاحيته لذلك أحد من النحاة وكأنه لهذا صرح العلامة التفتازاني بأن التزام التقدير مما لم يظهر له وجهه ، وقيل : وجهه أن الاستئناف بالاسمية أظهر وهو كما ترى ، وجوز كون الفعل على هذه القراءة مرفوعاً بالعطف على أصدّق على نحو القولين السابقين في الجزم ، هذا وعن الضحاك أنه قال في قوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم } يعني الزكاة والنفقة في الحج ، وعليه قول ابن عباس فيما أخرج عنه ابن المنذر : { فَأَصَّدَّقَ } أزكى { وَأَكُن مّنَ الصالحين } أحج ، وأخرج الترمذي . وابن جرير . والطبراني . وغيرهم عنه أيضاً أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه الزجاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت » فقال له رجل : يا ابن عباس اتق الله تعالى فإنما يسأل الرجعة الكفار فقال : سأتلو عليكم بذلك قرآناً { يَعْلَمُونَ يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذِكْرِ الله } [ المنافقون : 9 ] إلى آخر السورة كذا في «الدر المنثور » .

وفي «أحكام القرآن » رواية الترمذي عنه ذلك موقوفاً عليه ، وحكى عنه في البحر . وغيره أنه قال : إن الآية نزلت في مانع الزكاة ، ووالله لو رأى خيراً لما سأل الرجعة ، فقيل له : أما تتقي الله تعالى يسأل المؤمنون الكرة ؟ا فأجاب بنحو ما ذكر ، ولا يخفي أن الاعتراض عليه وكذا الجواب أوفق بكونه نفسه ادّعى سؤال الرجعة ولم يرفع الحديث بذلك ، وإذا كان قوله تعالى : { لَوْلا أَخَّرْتَنِى } الخ سؤالاً للرجعة بمعنى الرجوع إلى الدنيا بعد الموت لم يحتج قوله تعالى : { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت } إلى تقدير مضاف كما سمعت آنفاً .