اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (10)

وقوله : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ } : تنبيه على الشكر كذلك .

قوله : { فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني } .

أي : هلاَّ أخَّرتَنِي .

وقيل : «لا » صلة ، فيكونُ الكلامُ بمعنى التَّمنِّي .

أي لو أخرتني إلى أجل قريب فنسأل الرجعة إلى الدنيا لنعمل صالحاً .

روى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : «مَنْ كَانَ لَهُ مالٌ يُبلِّغهُ حَجَّ بَيْتِ ربِّهِ أو يَجبُ عليهِ فِيهِ زكاةٌ فَلمْ يَفْعَلْ ، سَألَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الموْتِ ، فقال رجُلٌ : يا ابْنَ عبَّاسٍ ، اتَّق اللَّهِ ، إنَّما سأل الرَّجعة الكُفَّارُ ، فقال : سأتلُو عليْكَ بذلك قرآناً { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله } إلى قوله { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قال : فما يوجبُ الزَّكاة ؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعداً ، قال : فما يوجبُ الحجَّ ؟ قال : الزادُ والراحلةُ »{[56811]} .

قال القرطبيُّ : ذكره الحليمي في كتاب «منهاج الدين » مرفوعاً ، فقال : وقال ابن عبَّاس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَ عِنْدهُ مالٌ يُبلِّغهُ الحَجَّ » الحديث{[56812]} .

قال ابنُ العربيِّ : «أخذ ابنُ عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفلِ ، فأما تفسيره بالزَّكاةِ فصحيح كلُّه عموماً وتقديراً بالمائتين .

وأما القولُ بالحج ففيه إشكالٌ ؛ لأننا إن قلنا : الحج على التراخي ففي المعصية بالموتِ قبل الحج خلافٌ بين العلماءِ ، فلا تخرج الآية عليه .

وإن قلنا : الحج على الفور فالعمومُ في الآية صحيحٌ لأنَّ من وجب عليه الحج فلم يؤده لقي من الله ما يودُّ لو أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات .

وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء ، وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل ، لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها ، وإنما تدخلُ في المتفقِ عليه .

والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق بالإجماع أو بنصّ القرآن ؛ لأن ما عدا ذلك لا يتحقق فيه الوعيدُ " .

قوله : { فَأَصَّدَّقَ } .

نصب على جواب [ التمني ]{[56813]} في قوله : { لولا أخرتني } .

وقرأ أبي وعبد الله وابن جبير{[56814]} : " فأتَصَدَّقَ " ، وهي أصل قراءة العامة ولكن أدغمت الفاء في الصاد .

قوله : " وأكُنْ " .

قرأ أبو عمرو : " وأكونَ " {[56815]} بنصب الفعل عطفاً على " فأصَّدَّقَ " .

والباقون : " وأكُنْ " مجزوماً ، وحذفت الواوُ لالتقاءِ الساكنين .

واختلف عباراتُ الناس في ذلك{[56816]} .

فقال الزمخشري{[56817]} : " عطفاً على محل «فأصَّدَّقَ » كأنَّه قيل : إنْ أخَّرتني أصَّدقْ وأكُنْ " .

وقال ابن عطية{[56818]} : عطفاً على الموضع : لأنَّ التقدير : إن أخرتني أصَدقْ وأكُنْ ، وهذا مذهب أبي علي الفارسي " .

وقال القرطبي{[56819]} : " عطفٌ على موضع الفاء ، لأن قوله : «فأصدق » لو لم تكن الفاء لكان مجزوماً ، أي «أصَّدَّقْ » ، ومثله : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] فيمن جزم .

فأما ما حكاه سيبويه{[56820]} عن الخليل فهو غيرُ هذا ، وهو أنه جزمٌ على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني ، ولا موضع له هنا لأنَّ الشرط ليس بظاهر ، وإنما يعطف على الموضع بحيث يظهرُ الشرطُ ، كقوله : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } فمن جزم عطفه على موضع { فلا هَادِي لَه } ؛ لأنه لو وقع موقعه فعل لانجزم " انتهى .

وهذا الذي نقله سيبويه هو المشهور عند النحويين .

ونظَّر ذلك سيبويه بقول زهير رحم الله المؤمنين : [ الطويل ]

4777 - بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى***ولا سَابِقٍ شَيْئاً إذَا كَانَ جَائِيَا{[56821]}

فخفض " ولا سابقٍ " عطفاً على " مدركٍ " الذي هو خبرُ " ليس " على توهم زيادة الباء فيه قد كثر جرّ خبرها بالباء المزيدةِ ، وهو عكسُ الآية الكريمة ؛ لأنه في الآيةِ جزم على توهُّم سقوطِ الفاءِ ، وهنا خفض على توهُّم وجود الباء ، ولكن الجامع توهم ما يقتضي جواز ذلك .

قال شهاب الدين{[56822]} : " ولكني لا أحب هذا اللفظ مستعملاً في القرآن الكريم ، فلا يقال : جزم على التوهم لقبحه لفظاً " .

وقال أبو عبيد : رأيت في مصحف عثمان " أكن " بغير واو .

وقد فرق أبو حيان بين العطف على الموضع والعطف على التوهم فقال{[56823]} : " الفرقُ بينهما أنَّ العامل في العطف على الموضع موجودٌ ، وأثره مفقودٌ ، والعامل في العطفِ على التوهم مفقود ، وأثره موجود " . انتهى .

قال شهاب الدين{[56824]} : " مثال الأول «هذا ضارب زيد وعمراً » فهذا من العطف على الموضع فالعامل وهو «ضارب » موجود ، وأثره وهو النصب مفقود ، ومثال الثاني ما نحن فيه ، فإن العامل للجزم مفقود وأثره موجود ، وأصرحُ منه بيتُ زهيرٍ ، فإن الباء مفقودةٌ وأثرُها موجود ، ولكن أثرها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه ، وكذلك في الآية الكريمة ، ومن ذلك أيضاً بيت امرئ القيس : [ الطويل ]

4778 - فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ***صَفِيفِ شِواءٍ أو قَدِيدٍ مُعَجَّلِ{[56825]}

فإنهم جعلوه من العطف على التوهُّم ، وذلك أنه توهّم أنه أضاف «منضج » إلى «صفيف » وهو لو أضافه إليه فجره فعطف «قديدٍ » على «ضعيفٍ » بالجر توهماً لجرّه بالإضافة " .

وقرأ عبيد{[56826]} بن عمير : " وأكُونُ " برفع الفعل على الاستئناف ، أي : " وأنَا أكُونُ " ، وهذا عدةٌ منه بالصلاح .

فصل فيما تدل عليه الآية

قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الآية تدل على أن القوم لم يكونوا من أهل التوحيد ؛ لأنه لا يتمنى الرجوع إلى الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند اللَّه خير في الآخرة{[56827]} .

قال القرطبي{[56828]} : " إلا الشَّهيد فإنه يتمنّى الرجوع حتى يقتل لما يرى من الكرامة " .


[56811]:أخرجه الترمذي (5/390) رقم (3316) والطبري في "تفسيره" (12/110) عن ابن عباس موقوفا. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/340) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.
[56812]:ينظر الحديث السابق.
[56813]:في أ: النهي.
[56814]:ينظر: الكشاف 4/544، والمحرر الوجيز 5/316، والبحر المحيط 8/270.
[56815]:ينظر: السبعة 637، والحجة 6/293، وإعراب القراءات 2/369، وحجة القراءات 710، والعنوان 191، وشرح الطيبة 6/56، وشرح شعلة 603، وإتحاف 2/540.
[56816]:ينظر: الدر المصون 6/323.
[56817]:ينظر: الكشاف 4/544.
[56818]:ينظر: المحرر الوجيز 5/315.
[56819]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/86.
[56820]:ينظر: الكتاب 1/449.
[56821]:تقدم.
[56822]:الدر المصون 6/323.
[56823]:ينظر: البحر المحيط 8/271.
[56824]:الدر المصون 6/323.
[56825]:تقدم.
[56826]:ينظر: الكشاف 4/544، والبحر المحيط 8/271، والدر المصون 6/324.
[56827]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/86).
[56828]:الجامع لأحكام القرآن 18/86.