السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (10)

{ وأنفقوا } أي : ما أمرتم به من واجب أو مندوب كما قاله بعض المفسرين ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يريد زكاة الأموال ، وهو ظاهر الأمر .

ثم إنّ الله تعالى زاد في الترغيب بالرضا منهم باليسير بقوله تعالى : { مما رزقناكم } أي : بعظمتنا . قال الزمخشري : من في { مما رزقناكم } للتبعيض ، والمراد الإنفاق الواجب ا . ه . ثم قال تعالى محذراً من الاغترار بالتسويف في أوقات السلامة : { من قبل أن يأتي أحدكم الموت } أي : يرى دلائله وأماراته وكل لحظة مرّت فهي دلائله وأماراته . قال القرطبي : وهذا دليل على وجوب تعجيل إخراج الزكاة ، ولا يجوز تأخيرها أصلاً ، أي : بلا عذر ، وكذا سائر العبادات إذا دخل وقتها . وقال الرازي : وبالجملة فقوله تعالى : { لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله } تنبيه على المحافظة على الذكر قبل الموت ، وقوله تعالى : { وأنفقوا مما رزقناكم } تنبيه على الشكر كذلك .

ولما كانت الشدّة تقتضي الإقبال إلى الله تعالى سبب عن ذلك قوله تعالى : { فيقول } أي : سائلاً في الرجعة ، وأشار إلى ترقيقها للقلوب بقوله : { رب لولا } أي : هلا ولم لا { أخرتني } أي : أخرت موتي إمهالاً { إلى أجل } أي : زمان ، وقوله { قريب } بين به أن مراده استدراك ما فات ليس إلا ، وقيل : لا زائدة ولو للتمني أي : لو أخرتني إلى أجل قريب { فأصدّق } أي : للتزوّد في سفري هذا الطويل الذي أنا مستقبله .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت ، فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل . وعنه : ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي ، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت ، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها . وعنه : أنها نزلت في مانعي الزكاة ، ووالله لو رأى خيراً ما سأل الرجعة ، فقيل له : أما تتقي الله يسأل المؤمنون الكرّة ، قال : نعم أنا أقرأ عليكم قرآناً يعني : أنها نزلت في المؤمنين ، وهم المخاطبون بها . وكذا عن الحسن : ما من أحد لم يزك ، ولم يصم ، ولم يحج إلا سأل الرجعة . وقال الضحاك : لا ينزل بأحد لم يحج ولم يؤدّ الزكاة الموت إلا وسأل الرجعة ، وعن عكرمة : نزلت في أهل القبلة .

وقيل : نزلت في المنافقين ، ولهذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هذه الآية تدل على أنّ القوم لم يكونوا من أهل التوحيد ، لأنه لا يتمنى الرجوع إلى الدنيا والتأخير فيها أحد له عند الله تعالى خير في الآخرة ، أي : إذا لم يكن بالصفة المتقدمة . قال القرطبي : إلا الشهيد فإنه يتمنى الرجوع حتى يقتل لما يرى من الكرامة . وقرأ { وأكون من الصالحين } أي : العريقين في هذا الوصف بالتدارك أبو عمرو بواو بعد الكاف ونصب النون عطفاً على فأصدّق ، والباقون بحذف الواو لالتقاء الساكنين وجزم النون .

واختلفت عبارات الناس في ذلك ، فقال الزمخشري : عطفاً على محل فأصدّق ، كأنه قيل : إن أخرتني أصدق وأكن . وقال ابن عطية : عطفاً على الموضع لأنّ التقدير : إن أخرتني أصدّق وأكن ، هذا مذهب أبي عليّ الفارسي . وقال القرطبي : عطفاً على موضع الفاء لأنّ قوله : { فأصدّق } لو لم تكن الفاء لكان مجزوماً ، أي : أصدّق .