{ غافر الذنب . . . } هو وما بعده صفات للاسم الجليل . وكلها للترغيب إلا الثالثة فإنها للترهيب . ومجموعها للحث على ما هو مقصود من إنزال الكتاب ، وهو المذكور بعد : من التوحيد والإيمان البعث المستلزم للإيمان سواهما ، الإقبال على الله تعالى . و " غافر " أي ساتر ؛ من الغفر وهو الستر والتغطية . يقال : غفر الله ذنبه يغفره غفرا ومغفرة وغفرانا وغفيرا ، غطى عليه وعفا عنه . والذنب : كل فعل تستوخم عقباه ؛ أخذا من ذنب الشيء . وجمعه ذنوب . والله تعالى غافر وغفار وغفور وذو مغفرة
للذنوب . { وقابل التوب } أي الرجوع عن الذنب والتوبة منه . مصدر كالأوب بمعنى الرجوع . أو اسم جمع لتوبة . { ذي الطول } ذي الفضل بالثواب والإنعام . أو بهما وبترك العقاب . والطول : السعة والغنى . أو القدرة أو الإنعام .
التوب والتوبة : معناهما واحد .
وهو الذي يغفر الذنبَ مهما جلّ ، ويقبل التوبة من عباده في كل آن ، فبابُه مفتوح دائما وأبدا ، فلا يقنط أحدٌ من ذلك . وهو شديد العقاب ، ومع هذا فهو صاحبُ الإنعام والفضل ، لا معبودَ بحقٍّ إلا هو ، إليه وحده المرجع والمآل .
وقد كثر في القرآن الكريم الجمع بين الوصفين كقوله تعالى : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } [ الحجر : 49-50 ] ليبقى الناسُ بين الرجاء والخوف ، ولكن الرحمة دائماً مقدَّمة على العذاب .
قوله تعالى : " غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب " قال الفراء : جعلها كالنعت للمعرفة وهي نكرة . وقال الزجاج : هي خفض على البدل . النحاس : وتحقيق الكلام في هذا وتلخيصه أن " غافر الذنب وقابل التوب " يجوز أن يكونا معرفتين على أنهما لما مضى فيكونا نعتين ، ويجوز أن يكونا للمستقبل والحال فيكونا نكرتين ، ولا يجوز أن يكونا نعتين على هذا ولكن يكون خفضهما على البدل ، ويجوز النصب على الحال ، فأما " شديد العقاب " فهو نكره ويكون خفضه على البدل . قال ابن عباس : " غافر الذنب " لمن قال : " لا إله إلا الله " " وقابل التوب " ممن قال : " لا إله إلا الله " " شديد العقاب " لمن لم يقل : " لا إله إلا الله " . وقال ثابت البناني : كنت إلى سرادق مصعب بن الزبير في مكان لا تمر فيه الدواب ، قال : فاستفتحت " حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " فمر علي رجل على دابة فلما قلت " غافر الذنب " قال : قل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي ، فلما قلت : " قابل التوب " قال : قل يا قابل التوب تقبل توبتي ، فلما قلت : " شديد العقاب " قال : قل يا شديد العقاب اعف عني ، فلما قلت : " ذي الطول " قال : قل يا ذا الطول طل علي بخير ، فقمت إليه فأخذ ببصري ، فالتفت يمينا وشمالا فلم أر شيئا . وقال أهل الإشارة : " غافر الذنب " فضلا " وقابل التوب " وعدا " شديد العقاب " عدلا " لا إله إلا هو إليه المصير " فردا . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام ، فقيل له : تتابع في هذا الشراب ، فقال عمر لكاتبه : اكتب من عمر إلى فلان ، سلام عليك ، وأنا أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو : " بسم الله الرحمن . حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير " ثم ختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة ، فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لي ، وحذرني عقابه ، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع فأحسن النزع وحسنت توبته . فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم قد زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه . و " التوب " يجوز أن يكون مصدر تاب يتوب توبا ، ويحتمل أن يكون جمع توبة نحو دَوْمة ودَوْم وعَزْمة وعَزْم ، ومنه قوله{[13355]} :
ويجوز أن يكون التوب بمعنى التوبة . قال أبو العباس : والذي يسبق إلى قلبي أن يكون مصدرا ، أي يقبل هذا الفعل ، كما تقول قالا قولا ، وإذا كان جمعا فمعناه يقبل التوبات . " ذي الطول لا إله إلا هو " على البدل وعلى النعت ؛ لأنه معرفة . وأصل الطول الإنعام والفضل يقال منه : اللهم طل علينا أي أنعم وتفضل . قال ابن عباس : " ذي الطول " ذي النعم . وقال مجاهد : ذي الغنى والسعة ، ومنه قوله تعالى : " ومن لم يستطع منكم طولا " [ النساء : 25 ] أي غنى وسعة . وعن ابن عباس أيضا : " ذي الطول " ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله . وقال عكرمة : " ذي الطول " ذي المن . قال الجوهري : والطول بالفتح المن ، يقال منه طال عليه وتطول عليه إذا امتن عليه . وقال محمد بن كعب : " ذي الطول " ذي التفضل . قال الماوردي : والفرق بين المن والتفضل أن المن عفو عن ذنب . والتفضل إحسان غير مستحق . والطول مأخوذ من الطول كأنه طال بإنعامه على غيره . وقيل : لأنه طالت مدة إنعامه . " إليه المصير " أي المرجع .
ولما تقدم آخر تلك أن كلمة العذاب حقت على الكافرين ، فكان ذلك ربما أيأس من تلبس بكفر من الفلاح ، وأوهمه أن انسلاخه من الكفر غير ممكن ، وكان الغفران - وهو محو الذنب عيناً وأثراً - مترتباً على العلم به ، والتمكن من الغفران وما رتب عليه من الأوصاف نتيجة العزة ، دل عليهما مستعطفاً لكل عاص ومقصر بقوله : { غافر الذنب } أي بتوبة وغير توبة إن شاء ، وهذا الوصف له دائماً فهو معرفة . قال السمين : نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن تجعل محضة وتوصف بها المعارف إلا الصفة المشبهة ، ولم يستثن الكوفيون شيئاً .
ولما أفهم تقديمه على التوبة أنه غير متوقف عليها فيما عدا الشرك ، وكان المشركون يقولون : قد أشركنا وقتلنا وبالغنا في المعاصي فلا يقبل رجوعنا فلا فائدة لنا في إسلامنا ، رغبهم في التوبة بذكرها وبالعطف بالواو الدالة على تمكن الوصف إعلاماً بأنه سبحانه لا يتعاظمه ذنب فقال : { وقابل التوب } وجرد المصدر ليفهم أن أدنى ما يطلق عليه الاسم كاف وجعله اسم جنس كأخواته أنسب من جعله بينها جمعاً كتمر وتمرة . ولما كان الاقتصار على الترغيب ربما أطمع عذر المتمادي من سطوته ، فقال معرياً عن الواو لئلا يؤنس ما يشعر به كل من العطف والصفة المشبهة من التمكن ، وذلك إعلاماً بخفي لطفه في أن رحمته سبقت غضبه ، وأنه لو أبدى كل ما عنده من العزة لأهلك كل من عليها كما أشير إليه بالمفاعلة في
{ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم }[ النحل : 61 ] فإن الفعل إذا كان بين اثنين كان أبلغ : { شديد العقاب * } على أن تنكيره وإبهامه - كما قال الزمخشري - للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر ، لزيادة الإنذار وهي أخفى من دلالة الواو لو أوتي بها .
ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب من الأخذ ، أتبعه التشويق إلى الفضل ، فقال معرياً عن الواو لأن المقام لا يقتضي المبالغة ، والحذف غير مخل بالغرض فإن دليل العقل قائم على كمال صفاته سبحانه : { ذي الطول } أي سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة ، لا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه ، ثم علل تمكنه في كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال : { لا إله إلا هو } ولما أنتج هذا كله تفرده ، أنتج قطعاً قوله : { إليه } أي وحده { المصير * } أي في المعنى في الدنيا ، وفي الحس والمعنى في الآخرة ، ليظهر كل من هذه الصفات ظهوراً تاماً ، بحيث لا يبقى في شيء من ذلك لبس ، فإنه لا يصح في الحكمة أن يبغي أحد على العباد ثم يموت في عزة من غير نقمة فيضيع ذلك المبغي عليه ، لأن هذا أمر لا يرضى أقل الناس أن يكون بين عبيده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.