صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

{ ق } من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه . وقيل : اسم من أسمائه تعالى أقسم به . أو اسم من أسماء القرآن . أو اسم للسورة . { والقرآن المجيد } أي أقسم بالقرآن المجيد إنا أنزلناه إليك لتنذر به الناس . وحذف جواب القسم للدلالة عليه بقوله : " بل جاءهم منذر منهم " . و " المجيد " : الكريم على الله ، الكثير الخير . فكل من طلب منه مقصودا وجده فيه ، وكل من لاذ به استغنى به ن غيره ؛ وإغناء

المحتاج غاية الكرم . مأخوذ من المجد ، وهو السعة في الكرم . وأصله من مجدت الإبل وأمجدت إذا وقعت في مرعى كثير واسع .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ق مكية وآياتها خمس وأربعون ، نزلت بعد سورة المرسلات . وهي وسورة ص تشتركان في افتتاح أولهما بحرف من حروف المعجم ، والقسم بالقرآن والتعجب ففي ص : { ص ، والقرآن ذي الذكر ، بل الذين كفروا في عزة وشقاق } وهنا { ق ، والقرآن المجيد ، بل عجِبوا أن جاءهم منذر منهم . . . }

وتشتركان في الختام في نفس المعنى : فقال تعالى في ختام ص { إن هو إلا ذكر للعالمين } ، وقال آخر ق { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } . وتسمى أيضا : الباسقات .

وتشتمل السورة على أشياء كثيرة : أولها القسَم بالقرآن الكريم وتمجيده ، وتعجّب المشركين أن جاءهم رسول منهم ينذرهم ، وإنكارهم للنبوة والبعث ، ثم الحث على النظر في هذا الكون ، في السماء وزينتها وبهجة بنائها ، وفي الأرض وجبالها الشامخات ، وزروعها البهيجة ، ومطرها الغزير كيف يحيي الأرض بعد موتها ، ونخلها الباسقات ، ودولها من عاد إلى أصحاب الأيكة وقوم تبّع ، وما استحقوا من وعيد وعذاب ، وما فيها من تقريع للإنسان على سوء أعماله ، إنه مسئول عن دخائل نفسه ، ومحاط بالكرام الكاتبين ، يُحصون أعماله ، ويرقُبون أقواله ، حتى إذا جاءت سكرة الموت بالحق-كُشف له الغطاء ، ووقع الخصام ، وتعادى المحبّون ، وملئت جهنم بأهلها ، وأنعم الله على المؤمنين بالجنة ونعيمها غير المحدود { لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد } .

ثم خُتمت السورة بأمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى الكافرين الذين لم يعتبروا بمصير المكذبين من الأمم قبلهم ، وتوجيهه إلى الثبات على عبادة الله وتأكيد أمر البعث ، وأن مهمته الإرشاد وتذكير المؤمنين ، ودعوة الناس إلى القرآن الكريم ، وأنه ليس عليهم بمسيطر ، { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار ، فذكّرْ بالقرآن من يخاف وعيد } .

ولهذه السورة شأن كبير ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يخطب بها في العيد والجمعة . قالت أم هشام ابنة حارثة الأنصارية : " ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من رسول الله ، كان يقرأ بها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس " رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي وابن أبي شيبة . وفي القرطبي : في صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة ابن النعمان قالت : لقد كان تنوّرنا وتنوّر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض السنة وما أخذت ق والقرآن المجيد إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس .

مجيد : وافر المجد ، واسمٌ من أسماء الله الحسنى ، يقال : مجُد بضم الجيم مَجادة فهو مجيد . ويقال : مجَد بفتح الجيم يمجُد بضمها فهو ماجد . والمجد : المروءة والسخاء والكرم والشرف .

{ ق } : حرفٌ من حروف الهجاء افتتحت السورة به على طريقة القرآنِ الكريم في افتتاح بعض السور ببعض هذه الحروف للتحدّي وتنبيه الأذهان .

أُقسِم بالقرآن ذي المجد والشرف : إنا أرسلناك يا محمد ، لتنذرَ الناس به فلم يؤمنْ به أهلُ مكة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة ق وهي مكية

{ 1-4 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }

يقسم تعالى بالقرآن المجيد أي : وسيع المعاني عظيمها ، كثير الوجوه كثير البركات ، جزيل المبرات . والمجد : سعة الأوصاف وعظمتها ، وأحق كلام يوصف بهذا ، هذا القرآن ، الذي قد احتوى على علوم الأولين والآخرين ، الذي حوى من الفصاحة أكملها ، ومن الألفاظ أجزلها ، ومن المعاني أعمها وأحسنها ، وهذا موجب لكمال اتباعه ، و [ سرعة ] الانقياد له ، وشكر الله على المنة به .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

سورة" ق "كلها مكية...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

مكية بإجماع من المتأولين.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وقبل التفسير نقول ما يتعلق بالسورة وهي أمور:

الأول: أن هذه السورة تقرأ في صلاة العيد، لقوله تعالى فيها {ذلك يوم الخروج} وقوله تعالى: {كذلك الخروج}، وقوله تعالى: {ذلك حشر علينا يسير} فإن العيد يوم الزينة، فينبغي أن لا ينسى الإنسان خروجه إلى عرصات الحساب، ولا يكون في ذلك اليوم فرحا فخورا، ولا يرتكب فسقا ولا فجورا، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتذكير بقوله في آخر السورة {فذكر بالقرءان من يخاف وعيد} ذكرهم بما يناسب حالهم في يومهم بقوله {ق والقرءان}. الثاني: هذه السورة، وسورة {ص} تشتركان في افتتاح أولهما بالحرف المعجم والقسم بالقرآن وقوله {بل} والتعجب، ويشتركان في شيء آخر، وهو أن أول السورتين وآخرهما متناسبان، وذلك لأن في {ص} قال في أولها {ص والقرءان ذي الذكر} وقال في آخرها {إن هو إلا ذكر للعالمين} وفي {ق} قال في أولها {ق والقرءان} وقال في آخرها {فذكر بالقرءان من يخاف وعيد} فافتتح بما اختتم به.

والثالث: وهو أن في تلك السورة صرف العناية إلى تقرير الأصل الأول وهو التوحيد، بقوله تعالى: {أجعل الآلهة إلها واحدا} وقوله تعالى: {أن امشوا واصبروا على آلهتكم} وفي هذه السورة إلى تقرير الأصل الآخر وهو الحشر، بقوله تعالى: {أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} ولما كان افتتاح السورة في {ص} في تقرير المبدأ، قال في آخرها {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين} وختمه بحكاية بدء (خلق) آدم، لأنه دليل الوحدانية. ولما كان افتتاح هذه لبيان الحشر، قال في آخرها {يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير}...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

مكية كلها في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. قال ابن عباس وقتادة: إلا آية، وهي قوله تعالى: "ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب " [ق: 38].

وفي صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: لقد كان تَنُّورُنا وتَنُّورُ رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين -أو سنة وبعض سنة- وما أخذت " ق والقرآن المجيد " إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما ب " ق والقرآن المجيد " و " اقتربت الساعة وانشق القمر".

وعن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر ب " ق والقرآن المجيد " وكانت صلاته بعد تخفيفا.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة؛ فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها، في الجماعات الحافلة.. وإن لها لشأنا..

إنها سورة رهيبة، شديدة الوقع بحقائقها، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري، وصورها وظلالها وجرس فواصلها. تأخذ على النفس أقطارها، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها، وتتعقبها في سرها وجهرها، وفي باطنها وظاهرها. تتعقبها برقابة الله، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد، إلى الممات، إلى البعث، إلى الحشر، إلى الحساب. وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة. تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا. فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا. كل نفس معدود. وكل هاجسة معلومة. وكل لفظ مكتوب. وكل حركة محسوبة. والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة، في كل وقت وفي كل حال.

وكل هذه حقائق معلومة. ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة، تروع الحس روعة المفاجأة؛ وتهز النفس هزا، وترجها رجا، وتثير فيها رعشة الخوف، وروعة الإعجاب، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب!

وذلك كله إلى صور الحياة، وصور الموت، وصور البلى، وصور البعث، وصور الحشر. وإلى إرهاص الساعة في النفس وتوقعها في الحس. وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض، وفي الماء والنبت، وفي الثمر والطلع.. (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب)..

وإنه ليصعب في مثل هذه السورة التلخيص والتعريف، وحكاية الحقائق والمعاني والصور والظلال، في غير أسلوبها القرآني الذي وردت فيه؛ وفي غير عبارتها القرآنية التي تشع بذاتها تلك الحقائق والمعاني والصور والظلال، إشعاعا مباشرا للحس والضمير.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هي من السور التي سميت بأسماء الحروف الواقعة في ابتدائها مثل" طه "و"ص" و "ق" و"يس" لانفراد كل سورة منها بعدد الحروف الواقعة في أوائلها بحيث إذا دعيت بها لا تلتبس بسورة أخرى.

وفي الإتقان أنها تسمى سورة {الباسقات}. هكذا بلام التعريف، ولم يعزه لقائل والوجه، أن تكون تسميتها هذه على اعتبار وصف لموصوف محذوف، أي سورة النخل الباسقات إشارة إلى قوله {والنخل باسقات لها طلع نضيد}.

وفي تفسير القرطبي والإتقان عن ابن عباس وقتادة والضحاك: استثناء آية {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب} أنها نزلت في اليهود، يعني في الرد عليهم إذ قالوا: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت، يعني أن مقالة اليهود سمعت بالمدينة، يعني: وألحقت بهذه السورة لمناسبة موقعها.

وهذا المعنى وإن كان معنى دقيقا في الآية فليس بالذي يقتضي أن يكون نزول الآية في المدينة، فإن الله علم ذلك فأوحى به الى رسوله صلى الله عليه وسلم على أن بعض آراء اليهود كان مما يتحدث به أهل مكة قبل الإسلام يتلقونه تلقي القصص والأخبار. وكانوا بعد البعثة يسألون اليهود عن أمر النبوة والأنبياء، على أن إرادة الله إبطال أوهام اليهود لا تقتضي أن يؤخر إبطالها الى سماعها بل قد يجيء ما يبطلها قبل فشوها في الناس كما في قوله تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات ومطويات بيمينه} فإنها نزلت بمكة.

وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعض أحبار اليهود فقال: إن الله يضع السماوات على أصبع والأرضين على إصبع والبحار على أصبع والجبال على إصبع ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض فتلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية. والمقصود من تلاوتها هو قوله {وما قدروا الله حق قدره}. والإيماء إلى سوء فهم اليهود صفات الله...

أغراض هاته السورة:

أولها: التنويه بشأن القرآن.

ثانيها: أنهم كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر،

وثالثها: الاستدلال على إثبات البعث وأنه ليس بأعظم من ابتداء خلق السماوات وما فيها وخلق الأرض وما عليها، ونشأة النبات والثمار من ماء السماء وأن ذلك مثل للإحياء بعد الموت.

الرابع: تنظير المشركين في تكذيبهم بالرسالة والبعث ببعض الأمم الخالية المعلومة لديهم، ووعيد هؤلاء أن يحل بهم ما حل بأولئك.

الخامس: الوعيد بعذاب الآخرة ابتداء من وقت احتضار الواحد، وذكر هول يوم الحساب.

السادس: وعد المؤمنين بنعيم الآخرة.

السابع: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم إياه وأمره بالإقبال على طاعة ربه وإرجاء أمر المكذبين إلى يوم القيامة وأن الله لو شاء لأخذهم من الآن ولكن حكمة الله قضت بإرجائهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلف بأن يكرههم على الإسلام وإنما أمر بالتذكير بالقرآن.

الثامن: الثناء على المؤمنين بالبعث بأنهم الذين يتذكرون بالقرآن.

التاسع: إحاطة علم الله تعالى بخفيات الأشياء وخواطر النفوس.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في السورة توكيد للبعث الأخروي وتبشير وإنذار به، وتدليل على قدرة الله عليه، وحكاية لبعض مشاهده، وتنديد بالكافرين المكذبين وتنويه بالمتقين، وبيان مصير هؤلاء وأولئك في الآخرة، وفيها تذكير بمصير الأقوام السابقة المكذبين، وتسلية للنبي وتطمين له من مواقف قومه، وموضوعها عام ليس فيه مشاهد ومواقف شخصية ومعينة، وانسجام فصولها وترابطها واتساق وزنها يسوغ القول إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولا متلاحقة، وقد روي أن الآية [38] مدنية، وأسلوبها وانسجامها مع بقية الآيات يحملان على الشك في ذلك...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

هذه السورة من سور الدعوة التي تطل على مجتمعها الوثني الذي وقف بوجهها معلناً تعجّبه من مجيء النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالنبوّة، وهو جزءٌ من هذا المجتمع الذي لا يرى نفسه جديراً بأن يكون أحد أفراده رسولاً لله، كما أنه يثير استغرابهم من مقولة المعاد التي يرونها شيئاً غير معقول، لرفضهم إعادة الحياة بعد الموت، ولكنهم يغفلون في ذلك عن قدرة الله التي لا تقف عند حدّ، أفلا ينظرون إلى السماء من فوقهم وإلى الأرض من تحتهم وإلى إحياء الأرض الميتة بالمطر النازل من السماء؟ فكيف يستغربون عودة الحياة إلى الإنسان الميت بقدرة الله؟ وهكذا ينطلق الحديث عن بداية خلق الإنسان من موقع القدرة، وعن إحاطة الله بكل وسوسات نفسه، فهو أقرب إليه من حبل الوريد، وهناك ملكان يحيطان به من اليمين والشمال، ويحصيان عليه كل أقواله وأفعاله، وسيقف غداً في يوم الحساب لتأتي كل نفس ومعها سائق وشهيد، وسيرتفع عنه غطاء الغفلة الذي كان يغطي روحه وقلبه، فلا يدع الوعي ينفذ إليهما لينفتح على آفاق المسؤولية في اليوم الآخر. ويقف الجميع أمام المصير المحتوم، فيلقى في جهنم كل كفّار عنيد مناع للخير معتد مريب مشرك بالله، وتُقرَّبُ الجنةُ لكل أوّاب حفيظ ممن خشي الله بالغيب. ويلتفت، من ثم، الله سبحانه وتعالى إلى النبي، ليدعوه إلى الصبر وإلى الثقة به وبانتصار الرسالة إن عاجلاً أو آجلاً، فقد أهلك الله جبابرة العصور السالفة، فهل يعجزه إهلاك هؤلاء؟ فلينتظر يوم القيامة، يوم ينادي المنادي من مكانٍ قريب ليوم الخروج، كما يدعوه إلى مواصلة دعوته القرآنية ليذكّر من يفتحون قلوبهم خوفاً من يوم الوعيد، فتلك هي مهمته الرسالية التي تفتح العقول على الله، وليس هو الجبار المسيطر بالقوّة التي تقهر الآخرين بالتعسف والقسوة والشدّة غير العقلانية. وفي ضوء ذلك، فإن هذه السورة تطرق بدقائقها المتواصلة، وبأسلوبها المثير، وبإيقاعها المتوازن الهادر القلوب والأرواح، وتثير المشاعر، ليتذكر من خلالها من يتذكر، وليتحرك فيها الرساليون...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إنّ محور بحوث هذه السورة هو موضوع «المعاد» وجميع هذه الآيات تقريباً تدور حول هذا المحور وبعض المسائل الأخرى التي لها تعلّق به أيضاً. ومن المسائل المرتبطة بالمعاد تمت الإشارة في هذه السورة إلى الاُمور التالية:

إنكار الكافرين مسألة المعاد وتعجّبهم منها. 2 الاستدلال على مسألة المعاد عن طريق الالتفات إلى مطلق التكوين والخلق وخاصّة إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث.

الاستدلال على مسألة المعاد عن طريق الالتفات إلى الخلق الأوّل.

الإشارة إلى مسألة ثبت الأعمال والأقوال ليوم الحساب. 5 المسائل المتعلّقة بالموت والانتقال من هذه الدنيا إلى الدار الأخرى.

جانب من حوادث يوم القيامة وأوصاف الجنّة والنار. 7 إشارة إلى حوادث نهاية هذا العالم المذهلة والمثيرة التي تعتبر بدورها بداية العالم الآخر!...

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{والقرآن المجيد} يعني والقرآن الكريم، فأقسم تعالى بهما.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في قوله:"ق"؛

فقال بعضهم: هو اسم من أسماء الله تعالى أُقسم به.

وقال آخرون: هو اسم من أسماء القرآن.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

يحتمل أن يكون قوله: {ق} اسم هذه السورة، ولله سبحانه وتعالى أن يسمي السور بما شاء كما سمّى كتابه قرآنا وزبورا وتوراة وإنجيلا. أقسم بهذه السورة والقرآن جملة. ويحتمل أن يذكر {ق} كناية عن جميع الحروف المقطّعة، {والقرآن}... أقسم بالحروف المقطعة والمجموعة جميعا...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

"والقرآن المجيد": أي: الرفيع، ومعناه: رفيع القدر والمنزلة...

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

{والقرآن المجيد} الشريف الكريم على الله الكثير الخير...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمجيد: ذو المجد والشرف على غيره من الكتب، ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل بما فيه: مجد عند الله وعند الناس، وهو بسبب من الله المجيد، فجاز اتصافه بصفته...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

وقد ذكرنا أن الحروف تنبيهات قدمت على القرآن، ليبقى السامع مقبلا على استماع ما يرد عليه، فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق. وذكرنا أيضا أن العبادة منها قلبية، ومنها لسانية، ومنها خارجية ظاهرة، ووجد في الخارجية ما عقل معناه، ووجد منها ما لم يعقل معناه، كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما، ووجد في القلبية ما عقل بدليل، كعلم التوحيد، وإمكان الحشر، وصفات الله تعالى، وصدق الرسل، ووجد فيها ما يبعدها عن كونها معقولة المعنى أمور لا يمكن التصديق، والجزم بما لولا السمع كالصراط الممدود الأحد من السيف الأرق من الشعر، والميزان الذي يوزن به الأعمال، فكذلك كان ينبغي أن تكون الأذكار التي هي العبادة اللسانية منها ما يعقل معناه كجميع القرآن إلا قليلا منه، ومنها ما لا يعقل ولا يفهم كحرف التهجي لكون التلفظ به محض الانقياد للأمر، لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض، كقولنا ربنا اغفر لنا وارحمنا، بل يكون النطق به تعبدا محضا، ويؤيد هذا وجه آخر، وهو أن هذه الحروف مقسم بها، وذلك لأن الله تعالى لما أقسم بالتين والزيتون كان تشريفا لهما، فإذا أقسم بالحروف التي هي أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة، وآلة التعريف كان أولى...

.

والمجيد: العظيم، وقيل المجيد هو كثير الكرم، وعلى الوجهين القرآن مجيد، أما على قولنا المجيد هو العظيم، فلأن القرآن عظيم الفائدة، ولأنه ذكر الله العظيم، وذكر العظيم عظيم، ولأنه لم يقدر عليه أحد من الخلق، وهو آية العظمة، يقال ملك عظيم إذا لم يكن يغلب ويدل عليه قوله تعالى: {ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم} أي الذي لا يقدر على مثله أحد ليكون معجزة دالة على نبوتك وقوله تعالى: {بل هو قرءان مجيد * في لوح محفوظ} أي محفوظ من أن يطلع عليه أحد إلا باطلاعه تعالى فلا يبدل ولا يغير و {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} فهو غير مقدور عليه فهو عظيم، وأما على قولنا المجيد هو كثير الكرم، فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصوده وجده، وإنه مغن كل من لاذ به، وإغناء المحتاج غاية الكرم ويدل عليه هو أن المجيد مقرون بالحميد في قولنا إنك حميد مجيد، فالحميد هو المشكور والشكر على الإنعام والمنعم كريم فالمجيد هو الكريم البالغ في الكرم. وفيه مباحث:

الأول: القرآن مقسم به فالمقسم عليه ماذا؟ نقول فيه وجوه وضبطها بأن نقول، ذلك إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مقالية، والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة، فإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متقدمة فلا متقدم هناك لفظا إلا {ق} فيكون التقدير: هذا {ق والقرءان المجيد} أو {ق} أنزلها الله تعالى: {والقرآن} كما يقول هذا حاتم والله أي هو المشهور بالسخاء ويقول الهلال رأيته والله، وإن قلنا بأنه مفهوم من قرينة مقالية متأخرة، فنقول ذلك أمران: (أحدهما) المنذر (والثاني) الرجع، فيكون التقدير: والقرآن المجيد إنك المنذر، أو: والقرآن المجيد إن الرجع لكائن، لأن الأمرين ورد القسم عليهما ظاهرا، أما (الأول) فيدل عليه قوله تعالى: {يس * والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين} إلى أن قال: {لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم}.

وأما (الثاني) فدل عليه قوله تعالى: {والطور * وكتاب مسطور} إلى أن قال: {إن عذاب ربك لواقع}... فإن قيل أي الوجهين منهما أظهر عندك؟ قلت (الأول) لأن المنذر أقرب من الرجع، ولأن الحروف رأيناها مع القرآن والمقسم كونه مرسلا ومنذرا، وما رأينا الحروف ذكرت وبعدها الحشر...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يقسم تعالى بالقرآن المجيد أي: وسيع المعاني عظيمها، كثير الوجوه كثير البركات، جزيل المبرات. والمجد: سعة الأوصاف وعظمتها، وأحق كلام يوصف بهذا، هذا القرآن، الذي قد احتوى على علوم الأولين والآخرين، الذي حوى من الفصاحة أكملها، ومن الألفاظ أجزلها، ومن المعاني أعمها وأحسنها، وهذا موجب لكمال اتباعه، و [سرعة] الانقياد له، وشكر الله على المنة به...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(ق. والقرآن المجيد. بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم،...

بل هم في لبس من خلق جديد).. هذا هو المقطع الأول في السورة. وهو يعالج قضية البعث، وإنكار المشركين له، وعجبهم من ذكره والقول به. ولكن القرآن لا يواجه إنكارهم لهذه القضية فيعالجه وحده. إنما هو يواجه قلوبهم المنحرفة ليردها أصلا إلى الحق، ويقوم ما فيها من عوج؛ ويحاول قبل كل شيء إيقاظ هذه القلوب وهزها لتتفتح على الحقائق الكبيرة في صلب هذا الوجود. ومن ثم لا يدخل معهم في جدل ذهني لإثبات البعث. وإنما يحيي قلوبهم لتتفكر هي وتتدبر، ويلمس وجدانهم ليتأثر بالحقائق المباشرة من حوله فيستجيب.. وهو درس يحسن أن ينتفع به من يحاولون علاج القلوب! وتبدأ السورة بالقسم. القسم بالحرف: (قاف) وبالقرآن المجيد، المؤلف من مثل هذا الحرف. بل إنه هو أول حرف في لفظ "قرآن"..

ولا يذكر المقسم عليه. فهو قسم في ابتداء الكلام، يوحي بذاته باليقظة والاهتمام. فالأمر جلل، والله يبدأ الحديث بالقسم، فهو أمر إذن له خطر. ولعل هذا هو المقصود بهذا الابتداء. إذ يضرب بعده بحرف (بل) عن المقسم عليه -بعد أن أحدث القسم أثره في الحس والقلب- ليبدأ حديثا كأنه جديد عن عجبهم واستنكارهم لما جاءهم به رسولهم في القرآن المجيد من أمر البعث والخروج.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... قَسَم بالقرآن، والقسم به كناية عن التنويه بشأنه لأن القسم لا يكون إلا بعظيم عند المقسِم فكان التعظيم من لوازم القسَم. وأتبع هذا التنويه الكنائي بتنويه صريح بوصف {القرآن} ب {المجيد} فالمجيد المتصف بقوة المجْد. والمجدُ ويقال المجادة: الشرف الكامل وكرم النوع.

وشرف القرآن من بين أنواع الكلام أنه مشتمل على أعلى المعاني النافعة لصلاح الناس فذلك مجده. وأما كمال مجده الذي دلت عليه صيغة المبالغة بوصف مجيد فذلك بأنه يفوق أفضل ما أبلغَه الله للناس من أنواع الكلام الدالّ على مراد الله تعالى إذْ أوْجدَ ألفاظَه وتراكيبه وصورةَ نظمه بقدرته دون واسطة، فإن أكثر الكلام الدال على مراد الله تعالى أوجده الرسل والأنبياء المتكلمون به يعبّرون بكلامهم عما يُلقَى إليهم من الوحي.

ويدخل في كمال مجده أنه يفوق كل كلام أوجده الله تعالى بقدرته على سبيل خرق العادة مثل الكلام الذي كلم الله به موسى عليه السلام بدون واسطة الملائكة، ومثل ما أُوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم من أقوال الله تعالى المعبر عنه في اصطلاح علمائنا بالحديث القُدُسيّ، فإن القرآن يفوق ذلك كله لمّا جعله الله بأفصح اللغات وجعله معجزاً لبلغاء أهل تلك اللغة عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه.

ويفوق كل كلام من ذلك القبيل بوفرة معانيه وعدم انحصارها، وأيضاً بأنه تميز على سائر الكتب الدينية بأنه لا ينسخه كتاب يجيء بعده وما يُنسخ منه إلا شيء قليل ينسخه بعضُه.

وجواب القَسم محذوف لتذهب نفس السامع في تقديره كل طريق ممكن في المقام فيدل عليه ابتداءُ السورة بحرف {ق} المشعر بالنداء على عجزهم عنْ معارضة القرآن بعد تحدّيهم بذلك، أو يدل عليه الإضراب في قوله: {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم}.

والتقدير: والقرآنِ المجيد إنك لرسول الله بالحق، كما صرح به في قوله: {يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم} [يس: 1 -4]. أو يقدر الجواب: إنه لتنزيل من ربّ العالمين، أو نحو ذلك كما صرح به في نحو {حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} [الأحزاب: 1 -3] ونحو ذلك. والإضراب الانتقالي يقتضي كلاماً منتقلاً منه والقَسم بدون جواب لا يعتبر كلاماً تاماً فتعين أن يقدِّر السامع جواباً تتم به الفائدة يدل عليه الكلام.

وهذا من إيجاز الحذف وحسَّنه أن الانتقال مشعر بأهمية المنتقل إليه، أي عدِّ عما تريد تقديره من جواب، وانتقِلْ إلى بيان سبب إنكارهم الذي حدا بنا إلى القَسَم...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{ق والقُرْآنِ الْمَجِيدِ} أي أقسم بالقرآن، أن ما توحي به الآيات من حديثٍ عن البعث والحساب الذي يقف فيه المؤمنون وجهاً لوجهٍ أمام المسؤولية بين يدي الله، هو حقٌّ لا ريب فيه، لأنه يمثل صفاء الحقيقة الواضحة التي تفرض نفسها على العقول والقلوب...

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية وهي أربعون وخمس آيات بلا خلاف

{ ق } قضي ما هو كائن إلى يوم القيامة { والقرآن المجيد } الكبير القدر و الكثير الخير

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ق وتسمى الباسقات{[1]}

مقصودها تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة التي معظمها الإنذار وأعظمه{[2]} الإعلام{[3]} بيوم الخروج بالدلالة على ذلك بعد الآيات المسموعة الغنية بإعجازها عن تأييد بالآيات المرئية الدالة قطعا على الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وأحسن من هذا أن يقال : مقصودها الدلالة على إحاطة القدرة التي هي نتيجة ما ختمت به الحجرات من إحاطة العلم{[4]} لبيان أنه لا بد من البعث ليوم الوعيد ، فتكتنف هذه الإحاطة بما يحصل من الفضل بين العباد بالعدل لأن ذلك هو سر الملك الذي هو سر الوجود وذلك هو نتيجة مقصود البقرة ، والذي تكفل بالدلالة على هذا كله ما شوهد من إحاطة [ مجد-{[5]} ] القرآن بإعجازه في بلوغه في كل من جميع المعاني وعلو التراكيب وجلالة المفردات وتلازم الحروف وتناسب النظم ورشاقة الجمع وحلاوة التفصيل إلى حد لا تطيقه القوى ، ومن إحاطة أوصاف الرسول الذي اختاره سبحانه لإبلاغ هذا الكتاب في الخلق ، وما شوهد من إحاطة القدرة بما هدى إليه القرآن من آيات{[6]} الإيجاد والإعدام ، وعلى كل من الاحتمالين دل اسمها " ق " لما في آياته{[7]} من إثبات المجد بهذا الكتاب ، والمجد هو الشرف والكرم{[8]} والرفعة والعلو ، وذلك لا يكون إلا والآتي به كذلك ، وهو ملازم لصدقه في جميع ما أتى به ، وللقاف وحدها أتم دلالة على ذلك ، أولا بمخرجها فإنه من أصل{[9]} اللسان مما يلي الحلق ويحاذيه من الحنك الأعلى ، فإن ذلك إشارة إلى أن مقصود السورة الأصل والعلو ، وكل منها دال على الصدق دلالة قوية ، فإن الأصل في وضع الخبر الصدق ، ودلالته على الكذب وضعية لا عقلية ، وهي أيضا محيطة باسمها أو مسماها بالمخارج الثلاث ، والإحاطة بالحق لا تكون إلا مع العلو ، وهو لا يكون إلا مع الصدق ، ولإحاطتها سمى بها الجبل المحيط بالأرض ، هذا بمخرجها ، وأما صفتها فإنها عظيمة في ذلك فإن لها الجهر والشدة والانفتاح والاستعلاء والقلقلة ، وكل منها ظاهر الدلالة على ذلك جدا ، / وأدل ما فيها من المخلوقات على هذا المقصد النخل ، لما انفردت به عما شاركها من النبات بالإحاطة بالطول وكثرة المنافع ، فإنها جامعة للتفكه بالقلب ثم الطلع ثم البسر ثم الرطب وبالاقتيات بالتمر وبالخشب والحطب والقطا والخوص النافع للافتراش والليف النافع للحبال ، ودون ذلك وأعلاه من الخلال ، هذا مع كثرة ملابسة العرب الذين هم أول مدعو بهذا الكتاب الذكر لها ومعرفتهم بخواصها ، وأدل ما فيها الطول مع أنه ليس لعروقها من الامتداد في الأرض والتمكن ما لغيرها ، ومثل ذلك غير كاف في العادة في الإمساك عن السقوط وكثرة الحمل وعظم الأقناء وتناضد الثمر ، ولذلك سميت سورة الباسقات لا النخل { بسم الله } الذي من إحاطة حمده بيانه ما لنبيه صلى الله عليه وسلم من إحاطة الحمد ، ولقدرته سبحانه من الإحاطة التي ليس لها حد { الرحمن } الذي عم خلقه برحمته حين أرسل إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم بشرائعه ، فهو أصدق العباد ، وأظهر بعظيم معجزاته أن قدرته ما لها من نفاد { الرحيم* } الذي خص بالفوز في دار القرار أهل الرغاد .

لما ختم سبحانه الحجرات بإحاطة العلم قال أول هذه : { ق } إشارة إلى أنه هو سبحانه وحده المحيط علماً وقدرة بما له من العلو والشدة والقوة والقيومية والقهر ونافذ القضاء والفتح لما أراد من المغلقات ، بما أشارت إليه القاف بصفاتها وأظهرته بمخرجها المحيط بما جمعه مسماها من المخارج الثلاث : الحلق واللسان والشفاه .

وقد قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في سر افتتاح المفصل بهذا الحرف فقال في آخر كتابه في هذا الحرف : اعلم أن القرآن منزل مثاني ، ضمن ما عدا المفصل منه الذي هو من قاف إلى آخر الكتاب العزيز وفاتحة ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص ، ومتشابه الآيات ، والسور المفتتحة بالحروف الكلية للإحاطة لغيبية المتهجى المسندة إلى آحاد الأعداد ، فلعلو رتبة إيراده وطوله ثنى الحق سبحانه الخطاب وانتظمه في سور كثيرة العدد يسيرة عدد الآي قصيرة مقدارها ، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعظ والأحكام والثناء وأمر الجزاء ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم سماعه وليأخذوا بحظ مما أخذه الخاصة وليكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون لهم خلفاً مما يعولهم من مضمون سائر السور المطولات ، فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف ق الذي هو وتر الآحاد ، والظاهر منها مضمون ما يحتوي عليه مما افتتح بألف لام ميم ، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقرأ في خطبة يوم الجمعة إليهم لأنها صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص بهم ، وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية ، وشفعت بسورة المطهرة فخصوا بما فيه القهر والإنابة ، واختصرت سورة نون من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل للعالمين .

ولما كان جميع السور المفتتحة بالحروف المتضمنة للمراتب التسع ، والعاشر الجامع قواماً وإحاطة في جميع القرآن ، لذلك كانت{[61020]} سورة قاف وسورة ن قواماً خاصاً وإحاطة خاصة بما يخص العامة{[61021]} من القرآن الذين يجمعهم الأرض بما أحاط بظاهرها من صورة جبل قاف ، وما أحاط بباطنها من صورة حيوان " نون " الذي تمام أمرهم بما بين مددي إقامتهما ولهذه السورة المفتتحة بالحروف ظهر اختصاص القرآن وتميزه عن سائر الكتب لتضمنها الإحاطة التي لا تكون إلا بما للخاتم الجامع ، واقترن بها من التفضيل في سورها ما{[61022]} يليق بإحاطتها ، ولإحاطة معانيها وإتمامها كان كل ما فسرت به من معنى يرجع إلى مقتضاها ، فهو صحيح في إحاطتها ومنزلها من أسماء الله وترتبها في جميع العوالم ، فلا يخطىء فيها مفسر لذلك لأنه كلما قصد وجهاً{[61023]} من التفسير لم يخرج عن إحاطة ما تقتضيه ، ومهما فسرت به من أنها من-{[61024]} أسماء الله تعالى أو{[61025]} من أسماء الملائكة أو من أسماء الأنبياء أو من مثل الأشياء ، وصور الموجودات أو{[61026]} من أنها أقسام{[61027]} أقسم بها ، أو فواتح عرفت بها السور ، أو{[61028]} أعداد تدل على حوادث وحظوظ من ظاهر الأمر أو باطنه على اختلاف رتب وأحوال مما أعطيه محمد صلى الله عليه وسلم من مقدار أمد الخلافة والملك والسلطنة وما ينتهي إليه أمره من ظهور الهداية ونحو ذلك مما يحيط بأمد يومه إلى غير ذلك ، وكل داخل في إحاطتها ، ولذلك أيضاً لا تختص بمحل مخصوص تلزمه علامة إعراب مخصوصة فمهما قدر في مواقعها من هذه السورة جراً {[61029]}أو نصباً{[61030]} أو رفعاً ، فتداخل في إحاطة رتبتها ولم يلزمها معنى خاص ولا إعراب خاص لما لم يكن لها انتظام ، لأنها مستقلات محيطات ، وإنما ينتظم ما يتم معنى - كل واحد من المنتظمين بحصول الانتظام ، وذلك يختص من الكلم بما يقصر عن إحاطة مضمون الحروف حتى أنه متى وقع{[61031]} استقلال وإحاطة في كلمة لم يقع فيها انتظام .

ولما أشار{[61032]} سبحانه إلى هذه الإحاطة بالقاف ، أقسم على ذلك قسماً هو في نفسه دال عليه فقال : { والقرآن } أي الكتاب الجامع الفارق{[61033]} { المجيد * } الذي له العلو والشرف والكرم والعظمة على كل كلام ، والجواب أنهم ليعلمون ما أشارت إليه القاف من قوتي وعظمتي وإحاطة علمي وقدرتي ، وما اشتمل عليه القرآن من المجد بإعجازه واشتماله على جميع العظمة ، ولم ينكروا شيئاً من ذلك بقلوبهم ، ومجيد القرآن كما تقدم في أثناء{[61034]} الفاتحة ما جربت{[61035]} أحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ما علم بعلم ما شهد ، وكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي ، وما شهد{[61036]} من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه ، وإذا تأملت السورة وجدت آيها المنزلة على جميع ذلك ، فإنه سبحانه ذكرهم فيها-{[61037]} ما يعلمون من خلق السماوات والأرض وما فيهما-{[61038]} ومن مصارع الأولين وكذا السورة الماضية ولا سيما آخرها المشير إلى أنه أدخل على الناس الإيمان برجل واحد غلبهم بمجده وإعجازه لمجد منزله{[61039]} بقدرته وإحاطة علمه - والله الهادي ، ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل ما فيه مجد عند الله وعند الناس .

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما كانت سورة الحجرات قد انطوت على جملة من الألطاف التي خص الله{[61040]} بها عباده المؤمنين كذكره تعالى أخوتهم وأمرهم بالتثبت عند غائلة معتد فاسق { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } الآية ، وأمرهم بغض الأصوات عند نبيهم وأن لا يقدموا بين يديه ولا يعاملوه في الجهر بالقول كمعاملة بعضهم بعضاً ، وأمرهم باجتناب كثير من الظن ونهيهم عن التجسس والغيبة ، وأمرهم بالتواضع في قوله { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } وأخبرهم تعالى أن{[61041]} استجابتهم وامتثالهم{[61042]} هذه الأوامر ليست{[61043]} بحولهم ، ولكن بفضله وإنعامه ، فقال : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } الآيتين ، ثم أعقب ذلك بقوله { يمنون عليك أن أسلموا } الآية ، ليبين أن ذلك كله بيده ومن عنده ، أراهم سبحانه حال من قضى عليه الكفر ولم يحبب إليه الإيمان ولا زينه في قلبه ، بل جعله في طرف من حال من أمر و{[61044]}نهى في سورة الحجرات مع المساواة في الخلق وتماثل الأدوات فقال تعالى : { والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } الآيات ، ثم ذكر سبحانه وتعالى وضوح الأدلة { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم } الآيات ، ثم ذكر حال غيرهم ممن كان على رأيهم { كذبت قبلهم قوم نوح-{[61045]} } ليتذكر بمجموع هذا من قدم ذكره بحاله و-{[61046]}أمره ونهيه في سورة الحجرات ، ويتأدب المؤمن بآداب الله ويعلم أن ما أصابه من الخير فإنما هو من فضل ربه وإحسانه ، ثم التحمت الآي إلى{[61047]} قوله خاتمة السورة { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم } الآيات - انتهى .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[6]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[7]:- في م ومد وظ: برسالته.
[8]:- ليس في م ومد وظ.
[9]:- سورة 38 آية 29.
[61020]:في الأصل: كان.
[61021]:تكرر في الأصل.
[61022]:ومن هنا عادت نسخة مد واضحة.
[61023]:من مد، وفي الأصل: وجهها.
[61024]:زيد من مد.
[61025]:من مد، وفي الأصل: و.
[61026]:من مد، وفي الأصل: اختتام.
[61027]:من مد، وفي الأصل: أحد.
[61028]:في مد: كذلك.
[61029]:من مد، وفي الأصل: وبصلاة.
[61030]:من مد، وفي الأصل: وبصلاة.
[61031]:من مد، وفي الأصل: وضع.
[61032]:زيد في الأصل: إليها، ولم تكن الزيادة في مد فحذفناها.
[61033]:من مد، وفي الأصل: الفاروق.
[61034]:ليس في مد.
[61035]:من مد، وفي الأصل: جرت.
[61036]:زيد في الأصل: له، ولم تكن الزيادة في فحذفناها.
[61037]:زيد من مد.
[61038]:زيد من مد.
[61039]:من مد، وفي الأصل: منزلته.
[61040]:ليس في مد.
[61041]:زيد من مد.
[61042]:في مد: امتثال.
[61043]:من مد، وفي الأصل: ليس.
[61044]:من مد، وفي الأصل: أو.
[61045]:زيد من مد.
[61046]:زيد من مد.
[61047]:من مد، وفي الأصل: في.
 
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي - تفسير الجلالين [إخفاء]  
{قٓۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ٱلۡمَجِيدِ} (1)

{ ق والقرآن المجيد }

{ ق } الله أعلم بمراده به { والقرآن المجيد } الكريم ما آمن كفار مكة بمحمد صلى الله عليه وسلم .