سورة ق مكية{[1]} وهي خمس وأربعون آية ، وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة ، وألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا{[2]} .
قوله تعالى : { ق } قال ابن عباس - ( رضي الله عنهما ){[52218]} - هو قَسَمٌ . وقيل : اسم السورة . وقيل اسم من أسماء القرآن . وقال القرطبي{[52219]} : هو مفتاح اسمه قدير ، وقادر ، وقاهر وقريب وقابض . وقال عكرمة والضحاك : هو جبل محيط بالأرض من زُمُرَّدَةٍ خَضْراءَ ومنه : خُضْرَةُ السماء . والسماء مَقْبِيَّةٌ عليه ، وعليه كتفاها ويقال : هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنةٍ . وقيل : معناه قضِي الأمر وقضي ما هو كائن ، كما قالوا في حم{[52220]} ( حم الأمر ) ، وفي ص : صدق الله ، وقيل هو اسم فاعل من قَفَا يَقْفُوهُ{[52221]} .
قال ابن الخطيب ، لما حكى القول بأن «ق » اسم جبل محيط بالأرض عليه أطواق السماء قال : وهذا ضعيف لوجوه :
أحدها : أن أكثر القراء يقف عليها ، ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج لأنَّ من قال ذلك قال بأن الله تعالى أقسم به .
وثانيها : لو كان كذلك لذكر بحرف القسم كقوله تعالى : { والطّور } [ الطور : 1 ] ، ونحوه ؛ لأن حرف القسم يحذف حيث يكون المقسم به مستحقاً لأنْ يُقْسَمَ بِهِ ، كقولنا : «اللَّه لأَفْعَلَنَّ كَذَا » فاستحقاقه له يغني عن الدلالة عليه باللفظ ولا يحسن أن يقال : زَيْد لأَفْعَلَنَّ كَذَا .
ثالثها : أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب : { عَيْنٌ جَارِيَةٌ } [ الغاشية : 12 ] ، ويكتب { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] وفي جميع المصاحف يكتب حرف «ق » .
رابعها : أن الظاهر كون الأمر فيه كالأمر في «ص » و«ن » و«حم » وهي حروف لا كلمات فكذلك في «ق » .
فإن قيل : هو منقول عن ابن عباس - ( رضي الله عنهما ){[52222]}- .
نقول : المنقول عنه : أن قاف اسم جبل ، وأما أن المراد ههنا ذلك فَلاَ .
قال ابن الخطيب : هذه السورة وسورة ص يشتركان في افتتاح أولهما بالحرف المعجم والقسم بالقرآن بعده وقوله بعد القسم : بل والتعجب . ويشتركان أيضاً في أن أول السورتين وآخرهما متناسبات لأنّه تعالى قال في أول السورة : { ص والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 ] وفي آخرها : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ ص : 87 ] وقال في أولِ ق : «وَالقُرْآنِ المَجِيدِ » ، وقال في آخرها : { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } ، فافتتح بما اختتم به{[52223]} . وأيضاً في أول ص صرف العناية إلى تقرير الأصل الأول وهو التوحيد لقوله تعالى : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً } [ ص : 5 ] وفي هذه السورة صرف العناية إلى تقرير الأصل الآخر وهو الحشر فقال تعالى : { أَئذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } ، فلما كان افتتاح سورة «ص » في تقرير المبدأ قال في آخرها : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] . وختمه بحكاية بَدْء آدمَ ، لأنَّه دليل الوحدانية ، ولما كان افتتاح «ق » لبيان الحشر قال في آخرها : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ }{[52224]} .
قال ابن الخطيب : قد ذكرنا أن الحروف تنبيهات قدمت على القرآن ليكون السامع بسببها يقبل على استماع ما يرد على الأسماع ، فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق ، وذكر أيضاً أن العبادة منها قلبية ومنها لسانية ، ومنها خارجية ظاهرة ووجد في الخارجية ما عقل معناه ووجد فيها ما لم يعْقَلْ معناه كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما ، ووجد في القلبية ما عقل بالدليل وعلم كالتوحيد وإمكان الحشر ، وصفات الله تعالى ، وصدق الرسل ، ووجد فيها مَا لَمْ يُعْقَلْ ولا يمكن التصديق به لولا السمعُ كالصِّراط الممدود الأَحَدّ حَدًّا من السيف ، الأرقّ من الشعر ، والميزان الذي توزن به الأعمال ، فكذلك ينبغي أن يكون الأذْكار التي هي العبادة اللسانية فيها{[52225]} ما يعْقَلُ معناه ، كجميع القرآن إلاّ قليلاً منه ، وفيها ما لا يعقل ولا يفهم كحروف التهجي ليكون التلفظ به لمحض الانقياد والأمر ، لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض كقولنا : «رَبَّنا اغفرْ لنا وارحمنا » بل يكون النطق به تعبداً محضاً . ويؤيد هذا وجه آخر ، وهو أن هذه الحروف مقسم بها لأن الله تعالى لما أقسم بالتِّين والزَّيْتُون تشريفاً لهما ، فإذا أقسم بالحروف التي هي أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة وآلة التعريف كان أولى .
وإذا عرف هذا نقول : القسم من الله تعالى وقع بأمر واحد كما في قوله تعالى : { والعصر } [ العصر : 1 ] وقوله : { والنجم } [ النجم : 1 ] وبحرف واحد كما في { ص } [ ص : 1 ] و{ ق } [ ق : 1 ] ووقع بأمرين كما في قوله تعالى : { والضحى والليل } [ الضحى : 1 و2 ] وفي قوله : { والسماء والطارق } [ الطارق : 1 ] وبحرفين كما في قوله : { طه } [ طه : 1 ] و{ طس } [ النمل : 1 ] و{ حم } [ غافر : 1 ] ، ووقع بثلاثة أمور كما في قوله تعالى : { والصافات صَفَّا فالزاجرات زَجْراً فالتاليات ذِكْراً } [ الصافات : 1 - 3 ] . وقوله : { والسماء ذَاتِ البروج واليوم الموعود وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } [ البروج : 1 - 3 ] وبثلاثة أحرف كما في قوله : { الم } [ البقرة : 1 ] ، و{ طسم } [ الشعراء والقصص : 1 ] و{ الر } [ هود : 11 ] ووقع بأربعة أمور ، كما في قوله تعالى : { والذاريات ذَرْواً فالحاملات وِقْراً فالجاريات يُسْراً فالمقسّمات أَمْراً } [ الذاريات : 1 - 4 ] وفي قوله : { والتين والزيتون وَطُورِ سِينِينَ وهذا البلد الأمين } [ التين : 1 - 3 ] ، وبأربعة أحرف كما في قوله : { المص } [ الأعراف : 1 ] و{ المر } [ الرعد : 1 ] ووقع بخمسة أمور كما في قوله تعالى : { والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور } [ الطور : 1 - 6 ] وفي قوله : { والمرسلات عُرْفاً فالعاصفات عَصْفاً والناشرات نَشْراً فالفارقات فَرْقاً فالملقيات ذِكْراً } [ المرسلات : 1 - 5 ] وفي النَّازِعاتِ{[52226]} وفي الفَجْر{[52227]} ، وبخمسة أحرف كما في : { كهيعص } [ مريم : 1 ] و{ حم عسق } [ الشورى : 1 و2 ] ، ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي الشَّمس : { والشمس وَضُحَاهَا والقمر إِذَا تَلاَهَا والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا والسماء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا } [ الشمس : 1 - 6 ] . ولما أقسم بالأشياء المعهودة ذكر حرف القسم وهو الواو فقال : «والطُّورِ » «والنَّجْمِ » «والشَّمْسِ » وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم فلم يقل : وق وحم ؛ لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسماً فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحروف ولم يدخل القسم بالحروف في أثناء السورة لأنه يخلُّ بالنظم .
أقسم الله بالأشياء المركبة العناصر كالتِّينِ والطُّورِ ، ولم يقسم بأصولها وهي الجواهر المفردة كالماء والتراب ، وأقسم بالحروف من غير تركيب ، لأن الأشياء عند تركيبها تكون على أحسن حالها ، وأما الحروف إن ركبت لمعنى يقع الحَلِفُ بمعناه لا باللفظ ، كقولنا والسماء والأرض وإن ركبت لا لمعنى فكأن المفرد أشرف فأقسم بمفردات الحرف .
هذه السورة تقرأ في صلاة العيد ، لقوله تعالى فيها : { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } وقوله : { كَذَلِكَ الخروج } وقوله : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } ، فإن العيد يوم الزينة فينبغي أن لا ينسى الإنسان خروجَه إلى عَرْصَاتِ الحِسَابِ . ولا يكون في ذلك اليوم فرحاً فخوراً ولا يرتكب فسقاً ولا فجوراً{[52228]} . والعامة على سكون الفاء من قاف{[52229]} . وقد تقدم . وفتحها عيسى{[52230]} ، وكسرها الحسن ، وابن أبي إسحاق ، وضمها هارون وابن السميقع{[52231]} وقد مضى توجيه ذلك ، وهو أن الفتح يحتمل البناء على الفتح للتخفيف ، أو يكون منصوباً بفعل مقدر ومنع الصرف أو مجروراً بحرف قسم مقدر وإنَّما مُنعَ الصرف أيضاً . والضم على أنه مبتدأ وخبره منع الصرف أيضاً .
قال ابن الخطيب : فأما القراءة فيها فإن قلنا : هي مبنية على ما بينا فحقّها الوقف ؛ إذ لا عامل فيها ويجوز الكسر حذراً من التقاء الساكنين ، ويجوز الفتح اختياراً للأخَفِّ .
فإن قيل : كيف جاز اختيار الفتح هَهُنَا ولم يَجُزْ عند التقاء الساكنين إذا كان أحدهما آخر كلمة والآخر أول كلمة أخرى ، كقوله : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ } [ البينة : 1 ] { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ } [ الأنعام : 52 ] ؟ ! .
نقول : لأن هناك إنما وجب التحريك لأن الكسرة في الفعل تشبه حركة الإعراب ، لأن الفعل إنما كان محلاً للرفع والنصب ولا يوجد فيه الجر اختير الكسرة التي لا يخفى على أحد أنها ليست بجر ؛ لأن الفعل لا يجوز فيه الجر ، ولو فتح لاشتبه بالنصب ، وأما في أواخر الأسماء فالاشتباه لازم ، لأن الاسم محِلّ يرد عليه الحركات الثلاث فلم يمكن الاحتراز فاختاروا الأخَفَّ .
وإن قلنا : إنها حرف مقسم به فحقها الجر ، ويجوز النصب على أنه مفعول به ب «أُقْسِمُ » على وجه الاتصال وتقدير الباء كأن لم يوجد .
وإن قلنا : هي اسم السورة{[52232]} ، فإن قلنا : مقسم بها مع ذلك فحقها الفتح لأنها لا تنصرف حينئذ فتفتح في موضع الجر كما تقول : «وإِبْرَاهِيمَ وأَحْمَدَ » ، إذا أقسمت بهما{[52233]} وإن قلنا : ( إنه ){[52234]} ليس مقسماً بها فإن قلنا : هي اسم السورة فحقها الرفع إذا جعلناها خبراً تقديره : «هَذِهِ ق » وإن قلنا : هو من قَفَا يَقْفُو فحقه التنوين كقولنا : هَذَا دَاعٍ ورَاعٍ .
وإن قلنا : اسم جبل فالجر والتنوين وإِن كان قسماً{[52235]} .
قوله : «وَالقُرْآنِ المَجِيدِ » قسم ، وفي جوابه أوجه :
أحدها : أنه قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض }{[52236]} .
الثاني : { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ }{[52237]} .
الثالث : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ }{[52238]} .
الرابع : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى }{[52239]} .
الخامس : «بَلْ عَجِبُوا » . وهو قول كوفي ، قالوا : لأنه بمعنى قَدْ عجبُوا{[52218]} .
السادس : أنه محذوف ، فقدّره الزجاج{[52219]} والأخفش{[52220]} والمبرد : لَتُبْعَثُنَّ ، وغيرهم : لَقَدْ جِئْتَهُمْ مُنْذِراً .
واعلم أن جوابات القسم سبعة ، إنَّ المشددة كقوله : { والعصر إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ } [ العصر : 1 و2 ] ، و«مَا » النافية كقوله : { والضحى والليل إِذَا سجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } [ الضحى : 1 - 3 ] واللام المفتوحة كقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ } [ الحجر : 92 ] وإنْ الخفيفة كقوله : { تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 97 ] ولا النافية كقوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] ، و «قَدْ » كقوله : { والشمس وَضُحَاهَا والقمر إِذَا تَلاَهَا والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا والسماء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 1 - 9 ] ، وبَلْ كقوله : { والقرآن المجيد بَلْ عجبوا }{[52221]} . والمجيدُ : العظيم . وقيل : المجيدُ : الكثير الكرم .
فإن قلنا : المجيد العظيم ، فلأن القرآن عظيم الفائدة ولأنه ذكر الله العظيم ، وذكر العظيم عظيم ولأنه لم يقدر عليه أحدٌ من الخلق ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] . ولا يبدل ولا يغير ولا يأتيهِ الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وإن قلنا : المجيد هو الكثير الكفر فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصوداً وَجَدَهُ ، ويغني كل من لاَذَ به وإِغناء المحتاج غاية الكرم .
فإن قيل : القرآن مقسم به فما المقسم عليه ؟ .
فالجواب : أن المقسم عليه إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مَقَالِيَّة ، والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة ، فإن فهم من قرينة مقالية متقدمة ، فلا يتقدم هنا لفظاً إلا «ق » فيكون التقدير : هذَا ق والقرآنِ ، أو ق أنزلها الله تعالى والقرآنِ ، كقولك : هذَا حَاتِمٌ واللَّهِ ؛ أي هو المشهور بالسخاء ، وتقول : الهلالُ واللَّهِ أيْ رأيته واللَّهِ . وإن فهم من قرينة مقالية متأخرة فذلك أمران :
أحدهما : أن التقدير : والقرآن المجيد إنك المنذر ، أو والقرآن المجيد إن الرجع لكائن ، لأن كلام الأمرين ورد طاهراً ، أما الأوّل فقوله تعالى : { يس والقرآن الحكيم } إلى أن قال : { لِتُنذِرَ قَوْماً } [ يس : 1 - 6 ] .
وأما الثاني : فقوله تعالى : { والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } [ الطور : 1 - 7 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا الوجه يظهر غاية الظهور على قال من قال : «ق » اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن ، وهناك أقسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن وإن فهم بقرينة حالية فهو كون محمد - صلى الله عليه وسلم - على الحق فإِن الكفار كانوا ينكرون ذلك{[52222]} .