سورة ( ق ) سورة مكية ، وآياتها 45 آية ، نزلت بعد سورة المرسلات .
كان صلى الله عليه وسلم يخطب خطبة الجمعة بسورة ( ق ) ، حتى قالت النساء : ما حفظنا سورة ( ق ) إلا من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بها ، وهي سورة تحمل أصول التوحيد ، وتلفت النظر إلى دلائل القدرة في خلق السماء والأرض ، وآثار الله الملموسة في إنزال المطر وإنبات النبات ، وترشد إلى سنن الله في إهلاك الظالمين ، واستحقاق الوعيد للمكذبين ، وتجول بالإنسان داخل نفسه ، وتستعرض مشاهد القيامة ، وجزاء المتقين في الجنة وجزاء العصاة في النار .
وقد سلكت السورة في عرض معانيها أسلوبا رائعا أخاذا ، له سيطرته على النفس والحس ، وطريقته الفذة في هز أوتار القلوب .
سورة ( ق ) سورة رهيبة ، شديدة الوقع بحقائقها ، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري ، وصورها وظلالها وجرس فواصلها ، تأخذ على النفس أقطارها ، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها ، وتتعقبها في سرها وجهرها ، وفي باطنها وظاهرها ، تتعقبها برقابة الله التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد إلى الممات ، إلى البعث إلى الحشر إلى الحساب ، وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة ، تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا ، فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا ، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا ، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا ، كل نفس معدود ، وكل هاجسة معلومة ، وكل لفظ مكتوب ، وكل حركة محسوبة ، والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة في وساوس القلب ، كما هي مضروبة على حركة الجوارح ، ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة ، في كل وقت وفي كل حال .
وكل هذه حقائق معلومة ، ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة ، تروع الحس روعة المفاجأة ، وتهز النفس هزا ، وترجها رجا ، وتثير فيها رعشة الخوف ، وروعة الإعجاب ، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب .
وذلك كله إلى صور الحياة ، وصور الموت ، وصور البلى ، وصور البعث ، وصور الحشر ، وإلى إرهاص الساعة في النفس ، وتوقعها في الحس ، وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض ، وفي الماء والنبات ، وفي التمر والطلع . 1
{ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } . ( ق : 8 ) .
تبدأ سورة ( ق ) بهذا الحرف المفرد : ق .
وقد بدأت بعض سور القرآن بهذه الأحرف المقطعة ، فمنها ما بدأ بحرف واحد مثل : { ص والقرآن ذي الذكر } . ومثل : { ق والقرآن المجيد } . ومثل : { ن والقلم وما يسطرون } .
ومنها ما بدأ بحرفين مثل : { طه } . ومثل : { يس } . ومثل : { حم } .
ومنها ما بدأ بثلاثة أحرف مثل : { ألر } . { ألم } . { طسم } .
ومنها ما بدأ بأربعة أحرف مثل : { المص } . { المر } .
ومنها ما بدأ بخمسة أحرف مثل : { كهيعص } . ومثل : { حم * عسق } .
هناك رأيان في معنى هذه الفواتح :
الرأي الأول : إنها مما استأثر الله تعالى بعلمه ، ولذلك نجد في تفسير الجلالين ، وهو تفسير مختصر : ق : الله أعلم بمراده به .
الرأي الثاني : أن لها معنى ، وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى :
1- فمنهم من قال : هي أسماء للسور التي بدئت بها .
2- ومنهم من قال : هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، وروى عن الضحاك في معنى ( ألر ) : أنا الله أرفع .
4- ومنهم من قال : هي حروف للتنبيه ، كالجرس الذي يقرع فينبه التلاميذ لدخول المدرسة .
5- ومنهم من قال : هي حروف للتحدي وبيان إعجاز القرآن .
6- وقيل : إن هذه الأحرف قد اشتملت على جميع المعاني التي ذكرها العلماء في تفسيرها ، فهي أسماء للسور ، وهي إشارة إلى أسماء الله تعالى وصفاته ، وهي للقسم ، وهي أدوات للتنبيه ، وهي حروف للتحدي والإعجاز ، وهي أيضا مما استأثر الله بعلمه .
هذه سورة مكية عنيت بسوق الحجج والأدلة على قدرة الله وعلى تأكيد البعث والجزاء .
وقد بدأت السورة بمواجهة المشركين ، وعرض أفكارهم وعجبهم أن يكون الرسول بشرا مثلهم ، كما أنهم أنكروا البعث والحشر بعد الموت ، واستدلوا بدليل ساذج هو تفسخ الأجسام وصيرورتها ترابا .
والقرآن يوضح قدرة الله وعلمه الشامل بما تأكله الأرض من أجسامهم ، فهم لا يذهبون ضياعا إذا ماتوا وكانوا ترابا ، أما إعادة الحياة إلى هذا التراب فقد حدثت من قبل ، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي . ( الآيات : 1-5 ) .
ويلفت القرآن نظر الناس إلى آثار قدرة الله ، فالسماء سقف مرفوع ، والأرض بساط تحفظه الجبال ، وتجري فيه الأنهار ، وتنمو فيه صنوف النبات ، والمطر ينزل فيبعث البركة والنماء ، وينبت الحب والنخيل والأعناب ، ويبعث الحياة في الزرع والأرض ، وبمثل هذه القدرة العالية يحيي الله الموتى ويبعثهم من قبورهم ، بعد جمع ما تفرق من أجزائهم الأصلية . ( الآيات : 6-11 ) .
ويلفت القرآن النظر إلى عبرة التاريخ ويذكر الناس بما أصاب قوم نوح من الغرق ، وما أصاب المكذبين من الوعيد والهلاك ، ومنهم أصحاب الرس ( والرس هي البئر ) وأصحاب الرس بقية من ثمود ، كانت لهم بئر فكذبوا نبيهم ودسوه في البئر . وأصحاب الأيكة : وهم قوم شعيب ، والأيكة : الغيضة ، وهي الشجر الملتف الكثيف . وقوم تبع ، وتبع لقب لملوك حمير باليمن .
إن هؤلاء الأقوام أنكروا الرسالة الإلهية ، وكذبوا رسل الله إليهم ، فاستحقوا عذاب السماء ، وهذا العذاب يصيب كل مكذب بالله وأنبيائه . ( الآيات : 12-15 ) .
خلق الله الإنسان بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها ، فهو سبحانه عليم بخفايا الصدور ، مطلع على هواجس النفوس ، قريب من عباده لا يغيب عنهم أينما كانوا ، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، وهناك ملائكة تسجل أعمال العباد ، نؤمن بها ونفوض حقيقة المراد منها إلى الله تعالى ، ولقد عرفنا نحن البشر وسائل للتسجيل ، تسجل الحركة والنبرة ، كالأشرطة الناطقة وأشرطة السينما والتليفزيون ، فليس ببعيد على الله أن يجعل من ملائكته شهود عيان يحصون على الإنسان أقواله وأفعاله بالحق والعدل . ( الآيات : 16-18 ) .
قال تعالى : { كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون } . ( الانفطار : 11 ، 12 ) .
تحدثت السورة عن البعث والحشر ، ولفتت الأنظار إلى آثار الله في الآفاق ، وإلى سنته في التاريخ ، وإلى عجيب صنعه في حنايا البشرية . ومن إعجاز القرآن أنه ينتقل بالمشاهد من الماضي إلى الحاضر ، ويلون في أسلوب العرض ، ويعرض النفس الإنسانية لسائر المؤثرات ، رغبة في الهداية والإصلاح . قال تعالى : { وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا } . ( طه : 113 ) .
وقد عرضت سورة ( ق ) لمشاهد القيامة ، وفي مقدمتها حضور سكرة الموت فجأة بلا مقدمات ، والموت طالب لا يمل الطلب ، ولا يبطئ الخطأ ولا يخلف الميعاد ، { ذلك ما كنت منه تحيد } . ( ق : 19 ) . أي : تهرب وتفزع ، والآن تعلم أنه حق لا مهرب منه ولا مفر ، وتنتقل الآيات من سكرة الموت إلى وهلة الحشر وهول الحساب ، وهي مشاهد تزلزل الكبرياء الجامح ، وتحارب الغرور والطغيان ، وتدعو للتقي والإيمان ، فملك الموت ينفخ في الصور ، فيقوم الناس من القبور ويهرع الجميع إلى الحساب ، وتأتي كل نفس ومعها سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها ، وقد يكونان الملكين الكاتبين الحافظين لها في الدنيا ، وقد يكونان غيرهما ، والأول أرجح ، عندئذ يتقين المنكر ، ويرى البعث والحشر والجزاء مشاهدا أمامه ، ينظر إليه ببصر حديد نافذ لا يحجبه حجاب من الغفلة أو التهاون . ( الآيات : 19-22 ) .
ويشتد غضب الجبار على العصاة المعاندين ، فيأمر الله الملكين -السائق والشهيد- أن يلقيا في النار كل كفور عنيد ، مناع للخير متجاوز للحدود شاك في الدين ، الذي جعل مع الله إلها آخر ، فاستحق العذاب الشديد .
ويشتد الخصام بين الشيطان وأتباعه من العصاة ، يحاول كل أن يتنصل من تبعة جرائمه ، وينتهي الحوار بين المجرمين بظهور جهنم تتلمظ غيظا على من عصا الله ، ويلقى فيها العصاة ، ولكنها تزداد نهما وشوقا لعقاب المخالفين ، وتقول في كظة الأكول النهم : { هل من مزيد } . ( الآيات : 24-30 ) .
وعلى الضفة الأخرى من هذا الهول مشهد آخر وديع أليف رضّى جميل ، إنه مشهد الجنة تقرب من المتقين حتى تتراءى لهم من قريب ، مع الترحيب والتكريم . ( الآيات : 31-35 ) .
في الآيات الأخيرة من السورة ( الآيات : 38-45 ) نجد ختاما مؤكدا للمعاني السابقة ، كأنه الإيقاع الأخير في اللحن ، يعيد أقوى نغماته في لمس سريع ، فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين ، وفيه لمسة الكون المفتوح وكتابه المبين ، وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد ، ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي للمشاعر والقلوب : { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } . ( ق : 39 ) . وطلوع الشمس وغروبها ومشهد الليل الذي يعقب الغروب كلها ظواهر مرتبطة بالسماوات والأرض ، والقرآن يربط إليها التسبيح والحمد والسجود ، ويضم إليها الصبر والأمل في الله القوي القادر ، فعليك يا محمد أن تبلغ القرآن للناس علهم يتعظون أو يخافون : { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } . ( ق : 45 ) . وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتثبيت لفؤاده ، وتهديد ووعيد للعصاة والكافرين .
مقصود سورة ( ق ) : إثبات النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبيان حجة التوحيد ، والإخبار عن إهلاك القرون الماضية ، وعلم الحق تعالى بضمائر الخلق وأسرارهم ، وذكر الملائكة الموكلين على الخلق المشرفين على أقوالهم ، وذكر بعث القيامة ، وذل العصاة يومئذ ، ومناظرة المنكرين بعضهم بعضا في ذلك اليوم ، وتغيظ الجحيم على أهلها ، وتشرف الجنة بأهلها ، والخبر عن تخليق السماء والأرض ، وذكر نداء إسرافيل بنفخه في الصور ، وتكليف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعظ الخلق بالقرآن المجيد2 .
ق : حروف افتتح الله بها بعض السور للتحدي والإعجاز ، وجذب الانتباه ، كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة .
والقرآن المجيد : المجيد ذي المجد والشرف على سائر الكتب ، لكثرة ما فيه من الخير الدنيوي والأخروي .
حروف بدأ الله بها بعض السور للتحدي والإعجاز ، وبيان أن القرآن مكون من حروف عربية تنطقون بها ، وكثيرا ما يأتي ذكر القرآن بلفظه أو بمحتواه بعد هذه الأحرف ، مما يدل على أن من أهدافها التحدي بهذا الكتاب ، والتنبيه إلى أهميته وفضله ، وهذه الأحرف :
1- منها ما هو مكون من حرف واحد ، مثل : ق . ن . ص .
2- منها ما هو مكون من حرفين ، مثل : حم . طه . يس .
3- منها ما هو مكون من ثلاثة أحرف ، مثل : طسم . الر . الم .
4- منها ما هو مكون من أربعة أحرف ، مثل : المص ، المر .
5- منها ما هو مكون من خمسة أحرف ، مثل : كهيعص . حم * عسق .
وقد أقسم الله تعالى بأمور كثيرة لبيان فضلها ، أو لفت الأنظار إليها ، أو بيان العظمة الإلهية في خلقها وتسخيرها ، ومما أقسم الله به ما يأتي مفردا أي مرة واحدة ، وأحيانا يقسم بأمرين ، وأحيانا بثلاثة أمور ، وأحيانا بأربعة أمور ، وبخمسة أمور ، ومثل ذلك ما يأتي :
1- القسم بأمر واحد مثل : { والعصر } ( العصر : 1 ) ، ومثل : { والنجم إذا هوى } . ( النجم : 1 ) .
2- القسم بأمرين مثل : { والضحى * والليل إذا سجى } . ( الضحى : 1 ، 2 ) ، ومثل : { والسماء والطارق } . ( الطارق : 1 ) .
3- القسم بثلاثة أمور ، مثل : { والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد } . ( الصافات : 1-4 ) .
4- القسم بأربعة أمور ، مثل : { والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع } . ( الذاريات : 1-6 ) .
ومثل : { والسماء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهد ومشهود } . ( البروج : 1-3 ) .
ومثل : { والتين والزيتون * وطور سنين * وهذا البلد الأمين * لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } . ( التين : 1-4 ) .
5- القسم بخمسة أمور مثل : { والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور } . ( الطور : 1-6 ) .
وفي ( والمرسلات . . . ) ، وفي ( والنازعات ) ، وفي ( والفجر . . . ) .
ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة ، وهي : { والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها } . ( الشمس : 1-10 ) .
وأقسم بالقرآن صاحب المجد والشرف ، والكرم والسعة ، الذي يجد فيه كل طالب حاجته ، والذي هيمن على الكتب السماوية السابقة ، ووضح صوابها ، وما فيها من تحريف أو تبديل ، والذي ختم الله به الكتب ، وجعله مشتملا على أصول التشريع والآداب ، والقصص والتاريخ ، وسنن الكون ، ونواميس الوجود ، وأخبار القيامة والبعث والحشر ، والجزاء والعقاب ، والجنة والنار ، مع سلامة اللفظ ورشاقة المعنى ، وقوة السبك ، وجزالة الأداء ، مع الاشتمال على صنوف الإعجاز ، وعجز العلوم مع تقدمها عن أن تنقض أي حكم من أحكامه ، واشتماله على الإعجاز الغيبي ، والإعجاز التشريعي ، والإعجاز البلاغي ، والإعجاز اللفظي ، والإعجاز العلمي ، وموافقته لكل زمان ومكان ، وهو ناسخ لما سبقه ، غير منسوخ إلى يوم الدين .
قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } . ( الحجر : 9 ) .
ومعنى الآية : أقسم ب ق ، وأقسم بالقرآن المجيد ، وجواب القسم محذوف دل عليه ما بعده ، وتقديره : إنك أيها الرسول لصادق فيما تبلغه عن ربك من أن البعث حق ، والحساب حق ، والجزاء حق ، ولكن الجاحدين لم يؤمنوا بذلك .