سورة ق وتسمى الباسقات{[1]}
مقصودها تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة التي معظمها الإنذار وأعظمه{[2]} الإعلام{[3]} بيوم الخروج بالدلالة على ذلك بعد الآيات المسموعة الغنية بإعجازها عن تأييد بالآيات المرئية الدالة قطعا على الإحاطة بجميع صفات الكمال ، وأحسن من هذا أن يقال : مقصودها الدلالة على إحاطة القدرة التي هي نتيجة ما ختمت به الحجرات من إحاطة العلم{[4]} لبيان أنه لا بد من البعث ليوم الوعيد ، فتكتنف هذه الإحاطة بما يحصل من الفضل بين العباد بالعدل لأن ذلك هو سر الملك الذي هو سر الوجود وذلك هو نتيجة مقصود البقرة ، والذي تكفل بالدلالة على هذا كله ما شوهد من إحاطة [ مجد-{[5]} ] القرآن بإعجازه في بلوغه في كل من جميع المعاني وعلو التراكيب وجلالة المفردات وتلازم الحروف وتناسب النظم ورشاقة الجمع وحلاوة التفصيل إلى حد لا تطيقه القوى ، ومن إحاطة أوصاف الرسول الذي اختاره سبحانه لإبلاغ هذا الكتاب في الخلق ، وما شوهد من إحاطة القدرة بما هدى إليه القرآن من آيات{[6]} الإيجاد والإعدام ، وعلى كل من الاحتمالين دل اسمها " ق " لما في آياته{[7]} من إثبات المجد بهذا الكتاب ، والمجد هو الشرف والكرم{[8]} والرفعة والعلو ، وذلك لا يكون إلا والآتي به كذلك ، وهو ملازم لصدقه في جميع ما أتى به ، وللقاف وحدها أتم دلالة على ذلك ، أولا بمخرجها فإنه من أصل{[9]} اللسان مما يلي الحلق ويحاذيه من الحنك الأعلى ، فإن ذلك إشارة إلى أن مقصود السورة الأصل والعلو ، وكل منها دال على الصدق دلالة قوية ، فإن الأصل في وضع الخبر الصدق ، ودلالته على الكذب وضعية لا عقلية ، وهي أيضا محيطة باسمها أو مسماها بالمخارج الثلاث ، والإحاطة بالحق لا تكون إلا مع العلو ، وهو لا يكون إلا مع الصدق ، ولإحاطتها سمى بها الجبل المحيط بالأرض ، هذا بمخرجها ، وأما صفتها فإنها عظيمة في ذلك فإن لها الجهر والشدة والانفتاح والاستعلاء والقلقلة ، وكل منها ظاهر الدلالة على ذلك جدا ، / وأدل ما فيها من المخلوقات على هذا المقصد النخل ، لما انفردت به عما شاركها من النبات بالإحاطة بالطول وكثرة المنافع ، فإنها جامعة للتفكه بالقلب ثم الطلع ثم البسر ثم الرطب وبالاقتيات بالتمر وبالخشب والحطب والقطا والخوص النافع للافتراش والليف النافع للحبال ، ودون ذلك وأعلاه من الخلال ، هذا مع كثرة ملابسة العرب الذين هم أول مدعو بهذا الكتاب الذكر لها ومعرفتهم بخواصها ، وأدل ما فيها الطول مع أنه ليس لعروقها من الامتداد في الأرض والتمكن ما لغيرها ، ومثل ذلك غير كاف في العادة في الإمساك عن السقوط وكثرة الحمل وعظم الأقناء وتناضد الثمر ، ولذلك سميت سورة الباسقات لا النخل { بسم الله } الذي من إحاطة حمده بيانه ما لنبيه صلى الله عليه وسلم من إحاطة الحمد ، ولقدرته سبحانه من الإحاطة التي ليس لها حد { الرحمن } الذي عم خلقه برحمته حين أرسل إليهم محمدا صلى الله عليه وسلم بشرائعه ، فهو أصدق العباد ، وأظهر بعظيم معجزاته أن قدرته ما لها من نفاد { الرحيم* } الذي خص بالفوز في دار القرار أهل الرغاد .
لما ختم سبحانه الحجرات بإحاطة العلم قال أول هذه : { ق } إشارة إلى أنه هو سبحانه وحده المحيط علماً وقدرة بما له من العلو والشدة والقوة والقيومية والقهر ونافذ القضاء والفتح لما أراد من المغلقات ، بما أشارت إليه القاف بصفاتها وأظهرته بمخرجها المحيط بما جمعه مسماها من المخارج الثلاث : الحلق واللسان والشفاه .
وقد قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في سر افتتاح المفصل بهذا الحرف فقال في آخر كتابه في هذا الحرف : اعلم أن القرآن منزل مثاني ، ضمن ما عدا المفصل منه الذي هو من قاف إلى آخر الكتاب العزيز وفاتحة ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص ، ومتشابه الآيات ، والسور المفتتحة بالحروف الكلية للإحاطة لغيبية المتهجى المسندة إلى آحاد الأعداد ، فلعلو رتبة إيراده وطوله ثنى الحق سبحانه الخطاب وانتظمه في سور كثيرة العدد يسيرة عدد الآي قصيرة مقدارها ، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعظ والأحكام والثناء وأمر الجزاء ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم سماعه وليأخذوا بحظ مما أخذه الخاصة وليكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون لهم خلفاً مما يعولهم من مضمون سائر السور المطولات ، فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف ق الذي هو وتر الآحاد ، والظاهر منها مضمون ما يحتوي عليه مما افتتح بألف لام ميم ، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقرأ في خطبة يوم الجمعة إليهم لأنها صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص بهم ، وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية ، وشفعت بسورة المطهرة فخصوا بما فيه القهر والإنابة ، واختصرت سورة نون من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل للعالمين .
ولما كان جميع السور المفتتحة بالحروف المتضمنة للمراتب التسع ، والعاشر الجامع قواماً وإحاطة في جميع القرآن ، لذلك كانت{[61020]} سورة قاف وسورة ن قواماً خاصاً وإحاطة خاصة بما يخص العامة{[61021]} من القرآن الذين يجمعهم الأرض بما أحاط بظاهرها من صورة جبل قاف ، وما أحاط بباطنها من صورة حيوان " نون " الذي تمام أمرهم بما بين مددي إقامتهما ولهذه السورة المفتتحة بالحروف ظهر اختصاص القرآن وتميزه عن سائر الكتب لتضمنها الإحاطة التي لا تكون إلا بما للخاتم الجامع ، واقترن بها من التفضيل في سورها ما{[61022]} يليق بإحاطتها ، ولإحاطة معانيها وإتمامها كان كل ما فسرت به من معنى يرجع إلى مقتضاها ، فهو صحيح في إحاطتها ومنزلها من أسماء الله وترتبها في جميع العوالم ، فلا يخطىء فيها مفسر لذلك لأنه كلما قصد وجهاً{[61023]} من التفسير لم يخرج عن إحاطة ما تقتضيه ، ومهما فسرت به من أنها من-{[61024]} أسماء الله تعالى أو{[61025]} من أسماء الملائكة أو من أسماء الأنبياء أو من مثل الأشياء ، وصور الموجودات أو{[61026]} من أنها أقسام{[61027]} أقسم بها ، أو فواتح عرفت بها السور ، أو{[61028]} أعداد تدل على حوادث وحظوظ من ظاهر الأمر أو باطنه على اختلاف رتب وأحوال مما أعطيه محمد صلى الله عليه وسلم من مقدار أمد الخلافة والملك والسلطنة وما ينتهي إليه أمره من ظهور الهداية ونحو ذلك مما يحيط بأمد يومه إلى غير ذلك ، وكل داخل في إحاطتها ، ولذلك أيضاً لا تختص بمحل مخصوص تلزمه علامة إعراب مخصوصة فمهما قدر في مواقعها من هذه السورة جراً {[61029]}أو نصباً{[61030]} أو رفعاً ، فتداخل في إحاطة رتبتها ولم يلزمها معنى خاص ولا إعراب خاص لما لم يكن لها انتظام ، لأنها مستقلات محيطات ، وإنما ينتظم ما يتم معنى - كل واحد من المنتظمين بحصول الانتظام ، وذلك يختص من الكلم بما يقصر عن إحاطة مضمون الحروف حتى أنه متى وقع{[61031]} استقلال وإحاطة في كلمة لم يقع فيها انتظام .
ولما أشار{[61032]} سبحانه إلى هذه الإحاطة بالقاف ، أقسم على ذلك قسماً هو في نفسه دال عليه فقال : { والقرآن } أي الكتاب الجامع الفارق{[61033]} { المجيد * } الذي له العلو والشرف والكرم والعظمة على كل كلام ، والجواب أنهم ليعلمون ما أشارت إليه القاف من قوتي وعظمتي وإحاطة علمي وقدرتي ، وما اشتمل عليه القرآن من المجد بإعجازه واشتماله على جميع العظمة ، ولم ينكروا شيئاً من ذلك بقلوبهم ، ومجيد القرآن كما تقدم في أثناء{[61034]} الفاتحة ما جربت{[61035]} أحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ما علم بعلم ما شهد ، وكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي ، وما شهد{[61036]} من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه ، وإذا تأملت السورة وجدت آيها المنزلة على جميع ذلك ، فإنه سبحانه ذكرهم فيها-{[61037]} ما يعلمون من خلق السماوات والأرض وما فيهما-{[61038]} ومن مصارع الأولين وكذا السورة الماضية ولا سيما آخرها المشير إلى أنه أدخل على الناس الإيمان برجل واحد غلبهم بمجده وإعجازه لمجد منزله{[61039]} بقدرته وإحاطة علمه - والله الهادي ، ومن أحاط علماً بمعانيه وعمل ما فيه مجد عند الله وعند الناس .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما كانت سورة الحجرات قد انطوت على جملة من الألطاف التي خص الله{[61040]} بها عباده المؤمنين كذكره تعالى أخوتهم وأمرهم بالتثبت عند غائلة معتد فاسق { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } الآية ، وأمرهم بغض الأصوات عند نبيهم وأن لا يقدموا بين يديه ولا يعاملوه في الجهر بالقول كمعاملة بعضهم بعضاً ، وأمرهم باجتناب كثير من الظن ونهيهم عن التجسس والغيبة ، وأمرهم بالتواضع في قوله { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } وأخبرهم تعالى أن{[61041]} استجابتهم وامتثالهم{[61042]} هذه الأوامر ليست{[61043]} بحولهم ، ولكن بفضله وإنعامه ، فقال : { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } الآيتين ، ثم أعقب ذلك بقوله { يمنون عليك أن أسلموا } الآية ، ليبين أن ذلك كله بيده ومن عنده ، أراهم سبحانه حال من قضى عليه الكفر ولم يحبب إليه الإيمان ولا زينه في قلبه ، بل جعله في طرف من حال من أمر و{[61044]}نهى في سورة الحجرات مع المساواة في الخلق وتماثل الأدوات فقال تعالى : { والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } الآيات ، ثم ذكر سبحانه وتعالى وضوح الأدلة { أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم } الآيات ، ثم ذكر حال غيرهم ممن كان على رأيهم { كذبت قبلهم قوم نوح-{[61045]} } ليتذكر بمجموع هذا من قدم ذكره بحاله و-{[61046]}أمره ونهيه في سورة الحجرات ، ويتأدب المؤمن بآداب الله ويعلم أن ما أصابه من الخير فإنما هو من فضل ربه وإحسانه ، ثم التحمت الآي إلى{[61047]} قوله خاتمة السورة { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم } الآيات - انتهى .