ولهذا قال : { فَلَمَّا رَأَوْهُ } أي : العذاب { عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي : معترضا كالسحاب قد أقبل على أوديتهم التي تسيل فتسقي نوابتهم ويشربون من آبارها وغدرانها .
{ قَالُوا } مستبشرين : { هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } أي : هذا السحاب سيمطرنا .
قال تعالى : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ } أي : هذا الذي جنيتم به على أنفسكم حيث قلتم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله تعالى : { فلما رأوه } يعني ما يوعدون به من العذاب ، { عارضاً } سحاباً يعرض أي : يبدو في ناحية من السماء ثم يطبق السماء ، { مستقبل أوديتهم } فخرجت عليهم سحابة سوداء من واد لهم يقال له : المغيث ، وكانوا قد حبس عنهم المطر ، فلما رأوها استبشروا ، { قالوا هذا عارض ممطرنا } يقول الله تعالى : { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم } فجعلت الريح تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة .
" فلما رأوه عارضا " قال المبرد : الضمير في " رأوه " يعود إلى غير مذكور ، وبينه قوله : " عارضا " فالضمير يعود إلى السحاب ، أي فلما رأوا السحاب عارضا . ف " عارضا " نصب على التكرير ، سمي بذلك لأنه يبدو في عرض السماء . وقيل : نصب على الحال . وقيل : يرجع الضمير إلى قوله : " فأتنا بما تعدنا " فلما رأوه حسبوه سحابا يمطرهم ، وكان المطر قد أبطأ عنهم ، فلما رأوه " مستقبل أوديتهم " استبشروا . وكان قد جاءهم من واد جرت العادة أن ما جاء منه يكون غيثا ، قاله ابن عباس وغيره . " قالوا هذا عارض ممطرنا " قال الجوهري : والعارض السحاب يعترض في الأفق ، ومنه قوله تعالى : " هذا عارض ممطرنا " أي ممطر لنا ، لأنه معرفة لا يجوز أن يكون صفة لعارض وهو نكرة . والعرب إنما تفعل مثل هذا في الأسماء المشتقة من الأفعال دون غيرها . قال جرير :
يا رُبَّ غابِطنا لو كان يطلبكم *** لاقى مباعدةً منكم وحرمانا
ولا يجوز أن يقال : هذا رجل غلامنا . وقال أعرابي بعد الفطر : رب صائمة لن تصومه ، وقائمة لن تقومه ، فجعله نعتا للنكرة وأضافه إلى المعرفة .
قلت : قوله : ( لا يجوز أن يكون صفة لعارض ) خلاف قول النحويين ، والإضافة في تقدير الانفصال ، فهي إضافة لفظية لا حقيقية ، لأنها لم تفد الأول تعريفا ، بل الاسم نكرة على حاله ، فلذلك جرى نعتا على النكرة . هذا قول النحويين في الآية والبيت . ونعت النكرة نكرة . و " رب " لا تدخل إلا على النكرة . " بل هو " أي قال هود لهم . والدليل عليه قراءة من قرأ " قال هود بل هو " وقرئ " قل بل ما استعجلتم به هي ريح " أي قال الله : قل بل هو ما استعجلتم به ، ويعني قولهم : " فأتنا بما تعدنا " ثم بين ما هو فقال : " ريح فيها عذاب أليم " والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه ، وخرج هود من بين أظهرهم ، فجعلت تحمل الفساطيط وتحمل الظعينة{[13861]} فترفعها كأنها جرادة ، ثم تضرب بها الصخور . قال ابن عباس : أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم ، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريش ، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم ، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم ، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام حسوما{[13862]} ، ولهم أنين ، ثم أمر الله الريح فكشف عنهم الرمال واحتملتهم فرمتهم في البحر ، فهي التي قال الله تعالى فيها : " تدمر كل شيء بأمر ربها " أي كل شيء مرت عليه من رجال عاد وأموالها . قال ابن عباس : أي كل شيء بعثت إليه .
ولما تسبب{[58959]} عن قولهم هذا إتيان العذاب فأتاهم-{[58960]} في سحاب أسود{[58961]} ، {[58962]}استمروا على جهلهم{[58963]} وعادتهم في الأمن وعدم تجويز الانتقام ، وكأن إتيانه كان قريباً من استعجالهم به ، فلذلك أتى بالفاء في قوله مسبباً {[58964]}عن تكذيبهم{[58965]} مبيناً لعظيم جهلهم بجهلهم في المحسوسات ، مفصلاً لما كان من حالهم عند رؤية البأس : { فلما رأوه } أي العذاب الذي يعدهم به { عارضاً } أي سحاباً أسود بارزاً في الأفق ظاهر الأمر عند من له أهلية النظر ، حال كونه قاصداً إليهم-{[58966]} { مستقبل أوديتهم } أي طالباً لأن يكون مقابلاً لها وموجداً لذلك ، وهو وصف لعارضاً{[58967]} فهو نكرة إضافته{[58968]} لفظية وإن كان مضافاً{[58969]} إلى معرفة ، وكذا " ممطرنا " { قالوا } على عادة جهلهم مشيرين إليه بأداة القرب الدالة على أنهم في غاية{[58970]} الجهل ، لأن جهلهم به استمر حتى كاد أن يواقعهم{[58971]} : { هذا عارض } أي سحاب معترض في عرض السماء أي ناحيتها { ممطرنا } لكونهم{[58972]} رأوه أسود مرتاداً فظنوه ممتلئاً ماء يغاثون{[58973]} به بعد طول القحط وإرسال رسلهم إلى مكة المشرفة ليدعوا لهم هنالك الله الذي استخفوا به بالقدح في ملكه بأن أشركوا به من هو دونهم ، علماً منهم بأن شركاءهم لا تغني عنهم في الإمطار شيئاً ، غافلين عن ذنوبهم الموجبة لعذابهم ، فلذلك قال الله تعالى مضرباً{[58974]} عن كلامهم ، والظاهر أنه حكاية لقول هود عليه الصلاة والسلام في جواب كلامهم : { بل هو } أي هذا العارض الذي ترونه { ما استعجلتم به } أي طلبتم العجلة في إتيانه إليكم من العذاب .
ولما اشتد تشوف السامع {[58975]}إلى معرفته{[58976]} قال{[58977]} : { ريح } أي ركمت هذا السحاب الذي رأيتموه { فيها عذاب أليم * } أي شديد الإيلام ، كانت تحمل الظعينة في الجو تحملها وهودجها حتى ترى كأنها جرادة ، وكانوا يرون ما كان خارجاً عن منازلهم من الناس والمواشي تطير بهم الريح بين السماء والأرض ثم تقذف بهم