{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم . . . } ترخيص للمؤمنين في البر والصلة – قولا وفعلا – للكفار الذين لم يقاتلوهم لأجل الدين ، ولم يلحقوا بهم أذى ؛ فهو في المعنى تخصيص للآية أول السورة ، روي أنها نزلت في أسماء بنت أبي بكر ، وكانت لها أم في الجاهلية تدعى قتيلة بنت عبد العزى ، فأتتها في عهد قريش بهدايا فقالت لها أسماء : لا أقبل لك هدية ! ولا تدخلي علي حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فذكرت ذلك عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية . { وتقسطوا إليهم } أي تفضوا إليهم بالعدل . { إن الله يحب المقسطين } أي المنصفين الذين ينصفون الناس ، ويعطونهم العدل من أنفسهم ؛ فيبرون من برهم ، ويحسنون إلى من أحسن إليهم .
فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخل في المحرم فقال : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } أي : لا ينهاكم الله عن البر والصلة ، والمكافأة بالمعروف ، والقسط للمشركين ، من أقاربكم وغيرهم ، حيث كانوا بحال لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم ، فليس عليكم جناح أن تصلوهم ، فإن صلتهم في هذه الحالة ، لا محذور فيها ولا مفسدة{[1056]} كما قال تعالى عن الأبوين المشركين إذا كان ولدهما مسلما : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } .
قوله تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } هذه الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم . قال ابن زيد : كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ . قال قتادة : نسختها { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم{[14901]} } [ التوبة : 5 ] . وقيل : كان هذا الحكم لعلة وهو الصلح ، فلما زال الصلح بفتح مكة نسخ الحكم وبقي الرسم يتلى . وقيل : هي مخصوصة في حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه ، قاله الحسن . الكلبي : هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف . وقاله أبو صالح ، وقال : هم خزاعة . وقال مجاهد : هي مخصوصة في الذين آمنوا ولم يهاجروا . وقيل : يعني به النساء والصبيان لأنهم ممن لا يقاتل ، فأذن الله في برهم . حكاه بعض المفسرين . وقال أكثر أهل التأويل : هي محكمة ، واحتجوا بأن أسماء بنت أبي بكر سألت النبي صلى الله عليه وسلم : هل تصل أمها حين قدمت عليها مشركة ؟ قال : ( نعم ) خرجه البخاري ومسلم . وقيل : إن الآية فيها نزلت ، روى عامر بن عبدالله بن الزبير عن أبيه : أن أبا بكر الصديق طلق امرأته قتيلة في الجاهلية ، وهي أم أسماء بنت أبي بكر ، فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر الصديق قرطا وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فأنزل الله تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } ، ذكر هذا الخبر الماوردي وغيره ، وخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده .
قوله تعالى : { أن تبروهم } " أن " في موضع خفض على البدل من { الذين } ، أي لا ينهاكم الله عن أن تبروا الذين لم يقاتلوكم . وهم خزاعة ، صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا ، فأمر ببرهم والوفاء لهم إلى أجلهم ، حكاه الفراء . { وتقسطوا إليهم } أي تعطوهم قسطا من أموالكم على وجه الصلة . وليس يريد به من العدل ، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل ، قاله ابن العربي .
قال القاضي أبو بكر في كتاب الأحكام له : استدل به بعض من تعقد عليه الخناصر على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر . وهذه وهْلَة{[14902]} عظيمة ، إذ الإذن في الشيء أو ترك النهي عنه لا يدل على وجوبه ، وإنما يعطيك الإباحة خاصة . وقد بينا أن إسماعيل بن إسحاق القاضي دخل عليه ذمي فأكرمه ، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك ، فتلا هذه الآية عليهم .
ولما تم الوعظ والتأسية وتطبيب النفوس بالترجئة ، وكان وصف{[64574]} الكفار بالإخراج لهم من ديارهم يحتمل أن يكون بالقوة فيعم{[64575]} ، ويحتمل أن يكون بالفعل فيخص أهل مكة أو من باشر الأذى الذي تسبب عنه الخروج منهم ، بين ذلك بقوله مؤذناً بالإشارة إلى الاقتصاد في الولاية والعداوة كما قال صلى الله عليه وسلم{[64576]} : " أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما{[64577]} " { لا ينهاكم الله } أي الذي اختص بالجلال والإكرام { عن الذين لم يقاتلوكم } أي بالفعل { في الدين } أي بحيث تكونون مظروفين له{[64578]} ليس شيئاً من أحوالهم خارجاً عنه ، فأخرج ذلك القتال{[64579]} بسبب حق دنيوي لا تعلق له بالدين ، وأخرج من لم يقاتل أصلاً كخزاعة والنساء ، ومن ذلك أهل الذمة بل الإحسان إليهم من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم لأنهم جيران .
ولما كان الذين لم يقاتلوا لذلك{[64580]} ربما كانوا قد ساعدوا على الإخراج قال : { ولم يخرجوكم } وقيد بقوله : { من دياركم } ولما كان قد وسع لهم سبحانه بالتعميم في إزالة النهي خص بقوله مبدلاً من { الدين } : { أن } أي لا ينهاكم عن أن { تبروهم } بنوع من أنواع البر الظاهرة فإن ذلك غير صريح في قصد المواددة { وتقسطوا } أي تعدلوا العدل{[64581]} الذي هو في غاية الاتزان بأن تزيلوا القسط الذي هو الجور ، وبين أن{[64582]} المعنى : موصلين لذلك الإقساط { إليهم } إشارة إلى أن فعل الإقساط ضمن الاتصال ، وإلى أن ذلك لا يضرهم وإن تكفلوا الإرسال إليهم من البعد بما أذن لهم{[64583]} فيه فإن ذلك من الرفق والله يحب الرفق في جميع الأمور ويعطي عليه ما لا يعطي على الخرق ، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً دفعاً لظن من يرى أذى الكفار بكل طريق ، { إن الله } أي{[64584]} الذي له الكمال كله { يحب } أي يفعل فعل المحب مع { المقسطين * } أي الذين يزيلون الجور ويوقعون العدل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.