تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه} إذ قال لربه: {أني مسني الشيطان}: أصابني الشيطان.
{بنصب} مشقة في جسده {وعذاب} في ماله.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وَاذْكُرْ" أيضا يا محمد "عَبْدَنا أيّوبَ إذْ نادَى رَبّهُ "مستغيثا به فيما نزل به من البلاء: يا ربّ إنّي "مَسّنِيَ الشّيْطانُ بِنُصْبٍ"... معنى النّصب في هذا الموضع: العلة التي نالته في جسده والعناء الذي لاقى فيه، والعذاب في ذهاب ماله...
عن قتادة: "وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيّوبَ" حتى بلغ "بِنُصْبٍ وَعَذابٍ": ذهاب المال والأهل، والضرّ الذي أصابه في جسده...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لا ندري ما الذي كان من الله من تمكين الشيطان عليه حتى أضاف ذلك إلى الشيطان، وليس لنا أن نقول: إنه مكن عليه كذا، وفعل كذا في كذا، إلا أن يثبت عن الله، ثم وجه الحكمة من تمكين الشيطان على أوليائه في ما مكن في أمر الدين؛ لتعلم جهة الفضل من جهة العدل، وجهة الحلم من جهة الرحمة، وأن له [أن] يمتحن عباده بما شاء وكيف شاء من أنواع الشدائد والبلايا على أيدي من شاء بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك، وله أن يجتبي إلى من شاء من أنواع الخير والنعم ابتداء بلا أسباب كانت منهم يستوجبون بها ذلك، فعلى ذلك بلاء أيوب عليه السلام والشدائد التي أصابته؛ جائز أن يكون بلا سبب كان منه يستوجب ذلك، ولكن ابتدأه امتحانا منه إياه بذلك.
{مسني الشيطان بنصب وعذاب} إنه وإن أضاف إليه، فهو في الحقيقة من الله لما أخبر أنه على يديه كقوله عز وجل: {يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: لم نسبه إلى الشيطان، وقد تكرّر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت: لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه الله به من النصب والعذاب، نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{واذكر عبدنا} أي الذي هو أهل للإضافة إلى عظيم جنابنا، وبينه بقوله: {أيوب} وهو من الروم من أولاد عيص بن إسحاق عليهم السلام؛ لتتأسى بحاله فنصبر على قومك وإن رأيت ما لا صبر لك عليه دعوت الله في إصلاحه.
ولما أمره بذكره، بين أن معظم المراد بعض أحواله الشريفة ليتأسى به فقال مبدلاً منه بدل اشتمال: {إذ} أي اذكر حاله الذي كان حين: {نادى} وصرف القول عن مظهر العظمة إلى صفة الإحسان؛ لأنه موطنه لاقتضاء حاله ذلك فقال: {ربه} أي المحسن إليه الذي عرف إحسانه إليه في تربيته ببلائه كما عرف امتنانه بظاهر نعمائه وآلائه، ثم ذكر المنادى به حاكياً له بلفظه فقال مشيراً بالتأكيد إلى أنه -وإن كان حاله فيما عهد من شدة صبره مقتضياً عدم الشكوى- أتاه ما لا صبر عليه: {إني} أي رب أدعوك بسبب أني.
ولما كان هنا في سياق التصبير، عظم الأمر بإسناد الضر إلى أعدى الأعداء إلهاباً إلى الإجابة وأدباً مع الله فقال: {مسّني} أي وأنا من أوليائك.
{الشيطان} أي المحترق باللعنة البعيد من الرحمة بتسليطك له.
{بنصب} أي ضر ومشقة وهم وداء ووجع وبلاء يثقل صاحبه فيتعبه ويعييه ويكده ويجهده ويصل به إلى الغاية من كل ذلك، وقرئ بضم الصاد أيضاً وقرئ بالتحريك كالرُشد والرَشد، وكان ذلك إشارة إلى أحوال الضر في الشدة والخفة فالمسكن أدناه، والمحرك أوسطه، والمثقل بالضم أعلاه.
{وعذاب} أي نكد قوي جداً دائم مانع من كل ما يلذ، ويمكن أن يساغ ويستطعم أجمله، ونكره تنكير لتعظيم استغنائه على وجازته عن جمل طوال ودعاء عريض إعلاماً بأن السيل قد بلغ الزبى، وأوهن البلاء القوى، ولم يذكره بلفظ إبليس الذي هو من معنى اليأس وانقطاع الرجاء دلالة على أنه هو راج فضل الله غير آيس من روحه، وذلك أن الله تعالى سلطه على إهلاك أهله وولده وماله فصبر ثم سلطه على بدنه إلى أن سقط لحمه واستمر على ذلك مدداً طوالاً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
قصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة؛ وهي تضرب مثلاً للابتلاء والصبر، ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها، والحد المأمون في هذه القصة هو أن أيوب -عليه السلام- كان كما جاء في القرآن عبداً صالحاً أوّاباً؛ وقد ابتلاه الله فصبر صبراً جميلاً، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعاً، ولكنه ظل على صلته بربه وثقته به، ورضاه بما قسم له، وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له -ومنهم زوجته- بأن الله لو كان يحب أيوب ما ابتلاه، وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر والبلاء. فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربنها عدداً عينه -قيل مائة. وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان، ومداخله إلى نفوس خلصائه، ووقع هذا الإيذاء في نفسه: (أني مسني الشيطان بنصب وعذاب).. فلما عرف ربه منه صدقه وصبره، ونفوره من محاولات الشيطان، وتأذيه بها، أدركه برحمته. وأنهى ابتلاءه، ورد عليه عافيته...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إذ كانت تعدية فعل {اذكر} إلى اسم أيوب على تقدير مضاف؛ لأن المقصود تذكّر الحالة الخاصة به كان قوله: {إذ نادى ربّه} بدل اشتمال من أيوب؛ لأن زمن ندائه ربَّه مما تشتمل عليه أحوال أيّوب، وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله؛ لأنه مظهر توكّله على الله واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه...
وظاهر إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مسّ أيوب بهما، أي أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب، ففي سورةَ
[الأنبياء: 83] {أني مسني الضر} فأسند المسّ إلى الضر، والضرّ هو النصب والعذاب، وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان، فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مُكرر آيات القرآن وليس النُّصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها. وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله: {بِنُصبٍ} على أنها باء التعدية لتعدية فعل {مَسَّنِي}، أو باء الآلة مثل: ضربه بالعصا، أو يؤول النُّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى.
والوجه عندي: أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النُّصْب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه، أي مسنّي بوسواس سببه نُصْب وعذاب، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النُّصْب والعذاب عنده، ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقاً لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك.
أو تحمل البَاء على المصاحبة، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرّ وعذاب، ففي قول أيوب {أني مسَّني الشيطانُ بنُصبٍ وعذابٍ} كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النُّصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلاً للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليه السّلام: {وإلاَّ تصرف عنّي كيدَهن أَصْبُ إليهن وأكنْ من الجاهلين} [يوسف: 33]. وتنوين « نصب وعذاب» للتعظيم أو للنوعية، وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله.
قوله تعالى : ( واذكر عبدنا أيوب ) : أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في الصبر على المكاره .
( أيوب ) : بدل . " إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " وقرأ عيسى بن عمر " إني " بكسر الهمزة أي قال . قال الفراء : وأجمعت القراء على أن قرؤوا " بنصب " بضم النون والتخفيف . النحاس : وهذا غلط وبعده مناقضة وغلط أيضا ؛ لأنه قال : أجمعت القراء على هذا ، وحكى بعده أنهم ذكروا عن يزيد بن القعقاع أنه قرأ : " بنصب " بفتح النون والصاد فغلط على أبي جعفر ، وإنما قرأ أبو جعفر : " بنصب " بضم النون والصاد . كذا حكاه أبو عبيد وغيره وهو مروي عن الحسن . فأما " بنصب " فقراءة عاصم الجحدري ويعقوب الحضرمي . وقد رويت هذه القراءة عن الحسن وقد حكي " بنصب " بفتح النون وسكون الصاد عن أبي جعفر . وهذا كله عند أكثر النحويين بمعنى النصب فنصب ونصب كحزن وحزن . وقد يجوز أن يكون نصب جمع نصب كوُثن ووَثن . ويجوز أن يكون نصب بمعنى نصب حذفت منه الضمة ، فأما " وما ذبح على النصب " [ المائدة : 3 ] فقيل : إنه جمع نصاب . وقال أبو عبيدة وغيره : النصب الشر والبلاء . والنصب التعب والإعياء . وقد قيل في معنى : " أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " أي ما يلحقه من وسوسته لا غير . والله أعلم . ذكره النحاس . وقيل : إن النصب ما أصابه في بدنه ، والعذاب ما أصابه في ماله ؛ وفيه بعد . وقال المفسرون : إن أيوب كان روميا من البثنية وكنيته أبو عبدالله في قول الواقدي . اصطفاه الله بالنبوة ، وأتاه جملة عظيمة من الثروة في أنواع الأموال والأولاد . وكان شاكرا لأنعم الله ، مواسيا لعباد الله ، برا رحيما . ولم يؤمن به إلا ثلاثة نفر . وكان لإبليس موقف من السماء السابعة في يوم من الأيام ، فوقف به إبليس على عادته ، فقال الله له أوقيل له عنه : أقدرت من عبدي أيوب على شيء ؟ فقال : يا رب وكيف أقدر منه على شيء ، وقد ابتليته بالمال والعافية ، فلو ابتليته بالبلاء والفقر ونزعت منه ما أعطيته لحال عن حاله ، ولخرج عن طاعتك ، قال الله : قد سلطتك على أهله وماله . فانحط عدو الله فجمع عفاريت الجن فأعلمهم ، وقال قائل منهم : أكون إعصارا فيه نار أهلك ماله فكان ، فجاء أيوب في صورة قيم ماله فأعلمه بما جرى ، فقال : الحمد لله هو أعطاه وهو منعه . ثم جاء قصره بأهله وولده ، فاحتمل القصر من نواحيه حتى ألقاه على أهله وولده ، ثم جاء إليه وأعلمه فألقى التراب على رأسه ، وصعد إبليس إلى السماء فسبقته توبة أيوب . قال : يا رب سلطني على بدنه . قال : قد سلطتك على بدنه إلا على لسانه وقلبه وبصره ، فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها فصار في جسده ثآليل فحكها بأظفاره حتى دميت ، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه . وقال عند ذلك : " مسني الشيطان " . ولم يخلص إلى شيء من حشوة البطن ؛ لأنه لا بقاء للنفس إلا بها فهو يأكل ويشرب ، فمكث كذلك ثلاث سنين . فلما غلبه أيوب اعترض لامرأته في هيئة أعظم من هيئة بني آدم في القدر والجمال ، وقال لها : أنا إله الأرض ، وأنا الذي صنعت بصاحبك ما صنعت ، ولو سجدت لي سجدة واحدة لرددت عليه أهله وماله وهم عندي . وعرض لها في بطن الوادي ذلك كله في صورته ، أي أظهره لها ، فأخبرت أيوب فأقسم أن يضربها إن عافاه الله . وذكروا كلاما طويلا في سبب بلائه ومراجعته لربه وتبرمه من البلاء الذي نزل به ، وأن النفر الثلاثة الذين آمنوا به نهوه عن ذلك واعترضوا عليه ، وقيل : استعان به مظلوم فلم ينصره فابتلي بسبب ذلك . وقيل : استضاف يوما الناس فمنع فقيرا الدخول فابتلي بذلك . وقيل : كان أيوب يغزو ملكا وكان له غنم في ولايته ، فداهنه لأجلها بترك غزوه فابتلي . وقيل : كان الناس يتعدون امرأته ويقولون نخشى العدوى وكانوا يستقذرونها ؛ فلهذا قال . " مسني الشيطان " . وامرأته ليا بنت يعقوب . وكان أيوب في زمن يعقوب وكانت أمه ابنة لوط . وقيل : كانت زوجة أيوب رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام . ذكر القولين الطبري رحمه الله . قال ابن العربي : ما ذكره المفسرون من أن إبليس كان له مكان في السماء السابعة يوما من العام فقول باطل ؛ لأنه أهبط منها بلعنة وسخط إلى الأرض ، فكيف يرقى إلى محل الرضا ، ويجول في مقامات الأنبياء ، ويخترق السموات العلى ، ويعلو إلى السماء السابعة إلى منازل الأنبياء ، فيقف موقف الخليل ؟ ! إن هذا لخطب من الجهالة عظيم .
وأما قولهم : إن الله تعالى قال له هل قدرت من عبدي أيوب على شيء فباطل قطعا ؛ لأن الله عز وجل لا يكلم الكفار الذين هم من جند إبليس الملعون ، فكيف يكلم من تولى إضلالهم ؟ ! وأما قولهم : إن الله قال قد سلطتك على ماله وولده فذلك ممكن في القدرة ، ولكنه بعيد في هذه القصة . وكذلك قولهم : إنه نفخ في جسده حين سلطه عليه فهو أبعد ، والباري سبحانه قادر على أن يخلق ذلك كله من غير أن يكون للشيطان فيه كسب حتى تقر له - لعنة الله عليه - عين بالتمكن من الأنبياء في أموالهم وأهليهم وأنفسهم . وأما قولهم : إنه قال لزوجته أنا إله الأرض ، ولو تركت ذكر الله وسجدت أنت لي لعافيته ، فاعلموا وإنكم لتعلمون أنه لو عرض لأحدكم وبه ألم وقال هذا الكلام ما جاز عنده أن يكون إلها في الأرض ، وأنه يسجد له ، وأنه يعافي من البلاء ، فكيف أن تستريب زوجة نبي ؟ ! ولو كانت زوجة سوادي أو فدم بربري ما ساغ ذلك عندها .
وأما تصويره الأموال والأهل في واد للمرأة فذلك ما لا يقدر عليه إبليس بحال ، ولا هو في طريق السحر فيقال إنه من جنسه . ولو تصور لعلمت المرأة أنه سحر كما نعلمه نحن وهي فوقنا في المعرفة بذلك ، فإنه لم يخل زمان قط من السحر وحديثه وجريه بين الناس وتصويره .
قال القاضي : والذي جرأهم على ذلك وتذرعوا به إلى ذكر هذا قوله تعالى : " إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " فلما رأوه قد شكا مس الشيطان أضافوا إليه من رأيهم ما سبق من التفسير في هذه الأقوال . وليس الأمر كما زعموا والأفعال كلها خيرها وشرها . في إيمانها وكفرها ، طاعتها وعصيانها ، خالقها هو الله لا شريك له في خلقه ، ولا في خلق شيء غيرها ، ولكن الشر لا ينسب إليه ذكرا ، وإن كان موجودا منه خلقا ، أدبا أدبنا به ، وتحميدا علمناه . وكان من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم لربه به قول من جملته : ( والخير في يديك والشر ليس إليك ) على هذا المعنى . ومنه قول إبراهيم : " وإذا مرضت فهو يشفين " [ الشعراء : 80 ] وقال الفتى للكليم : " وما أنسانيه إلا الشيطان " [ الكهف : 63 ] وأما قولهم : انه استعان به مظلوم فلم ينصره ، فمن لنا بصحة هذا القول . ولا يخلو أن يكون قادرا على نصره ، فلا يحل لأحد تركه فيلام على أنه عصى وهو منزه عن ذلك ، أو كان عاجزا فلا شيء عليه في ذلك ، وكذلك قولهم : إنه منع فقيرا من الدخول ، إن كان علم به فهو باطل عليه وإن لم يعلم به فلا شيء عليه فيه . وأما قولهم : إنه داهن على غنمه الملك الكافر فلا تقل داهن ولكن قل دارى . ودفع الكافر والظالم عن النفس أو المال بالمال جائز ، نعم وبحسن الكلام . قال ابن العربي القاضي أبو بكر رضى الله عنه : ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين : الأولى قوله تعالى : " وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر " [ الأنبياء : 83 ] والثانية في : [ ص ] " أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله : ( بينا أيوب يغتسل إذ خر عليه رِجل من جراد من ذهب . . . ) الحديث . وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه ، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره ، أم على أي لسان سمعه ؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البَتَاتِ ، فأعرض عن سطورها بصرك ، وأصمم عن سماعها أذنيك ، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا ، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا . وفي الصحيح واللفظ للبخاري أن ابن عباس قال : يا معشر المسلمين تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيكم أحدث الأخبار بالله ، تقرؤونه محضا لم يشب ، وقد حدثكم أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتب ، فقالوا : " هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا " [ البقرة : 79 ] ولا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم ، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الموطأ على عمر قراءته التوراة .
قوله تعالى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } :
يذكر الله نبيه الصابر أيوب عليه الصلاة والسلام وما أصابه من عظيم البلاء في الولد والجسد والمال ؛ فقد كان ذا أولاد وعيال وقد أخذهم الله فبقي وحيدا بغير ولد ولا أهل ولا جليس ، وكان ذا مال وثراء فأهلك الله ماله كله . ثم أصابه البلاء في جسده كله فانقلب عليلا سقيما . وقيل : لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه . فنفر منه الناس وتركوه وحيدا باستثناء زوجته المؤمنة الصالحة الرؤوم رضي الله عنها ؛ فإنها لم تفارقه ولم تفرط فيه ، بل كانت تخدم الناس بالأجرة لتتمكن من إطعامه وخدمته . فظل على هذه الحال من السقم والكرب والفقر وهجر الصحب والناس والحيلان جميعا ، مدة سبع سنين . وقيل : ثماني عشرة سنة حتى آل به الأمر إلى إلقائه فوق مزبلة من مزابل بني إسرائيل طيلة هذه المدة وقد رفضه الناس وزهدوا في محادثته أو الدنو منه . حتى إذا طالت الشدة وبلغ الكتاب أجله وجاء أمر الله بالفرج ، دعا أيوب ربه أن يكشف عنه ما حل به من البلاء . والله جلت قدرته خير معين ومجيب . وفي ذلك كله يقول سبحانه : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } النصْب : بضم النون المشددة ، وسكون الصاد . وهو ما يصيب البدن . أما العذاب : فهو ما يصيب المال والولد ؛ فقد دعا أيوب ربه عسى أن يكشف عنه ما أصابه ،