الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قَالَ مَا خَطۡبُكُنَّ إِذۡ رَٰوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفۡسِهِۦۚ قُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا عَلِمۡنَا عَلَيۡهِ مِن سُوٓءٖۚ قَالَتِ ٱمۡرَأَتُ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡـَٰٔنَ حَصۡحَصَ ٱلۡحَقُّ أَنَا۠ رَٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفۡسِهِۦ وَإِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} (51)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

فلما سألهن الملك، {قال} لهن: {ما خطبكن}، يعني: ما أمركن، {إذ راودتن يوسف عن نفسه}، وذلك أنهن قلن حين خرج عليهن يوسف من البيت: ما عليك أن تقضي لها حاجتها؟ فأبى عليهن، فرددن على الملك، {قلن حاش لله}، يعني: معاذ الله، {ما علمنا عليه من سوء}، يعني: الزنا، فلما سمعت زليخا قول النسوة، {قالت امرأت العزيز} عند ذلك، {الآن حصحص}، يعني: الآن تبين، {الحق أنا راودته عن نفسه وإنه}، يوسف، {لمن الصادقين}، في قوله.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وفي هذا الكلام متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عنه، وهو: فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالته، فدعا الملك النسوة اللاتي قطّعن أيديهن وامرأة العزيز، فقال لهنّ:"ما خَطْبُكُنّ إذْ رَاوَدْتُنّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ"... ويعني بقوله: "ما خَطْبُكُنّ": ما كان أمركنّ، وما كان شأنكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه، فأجبنه: فَقُلْنَ "حاشَ لِلّه مَا عَلِمْنا علَيْهِ مِنْ سُوءٍ، قالَتِ امْرأةُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَص الحَقّ "تقول: الآن تبين الحقّ وانكشف فظهر، "أنا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ "وإن يوسف لمن الصادقين في قوله "هِيَ رَاوَدَتْني عَنْ نَفْسِي"...

وأصل حصحص: حَصّ ولكن قيل: حصحص، كما قيل: فكُبْكِبُوا في «كُبوا»، وقيل: «كفكف» في «كفّ»، و«ذْرذَر» في «ذَرّ». وأصل الحصّ: استئصال الشيء، يقال منه: حَصّ شعره: إذا استأصله جزّا. وإنما أريد في هذا الموضع: حصحص الحقّ: ذهب الباطل والكذب فانقطع، وتبين الحقّ فظهر.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

ثم قال لهن الملك: (مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) هذا يدل أن الملك قد علم أنهن راودن يوسف عن نفسه؛ لأنه (قال ما خطبكن إذ راودتن) ولم يقل لهن: أراودتن أم لا؟ ولكنه قطع القول فيه.

(قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء) بدأ بهن حتى أقررن أنه كان بريئا مما قرف به واتهم. ثم أقرت امرأة العزيز بعد ذلك لما أقر النسوة، فقالت: (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) قيل: الآن تبين الحق وتحقق...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه} فهذا سؤال الملك قد تضمن تنزيه يوسف لما تخيله من صدقه لطفاً من الله تعالى به حتى لا تسرع واحدة منهن إلى التكذب عليه...

{أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} وهذا القول منها وإن لم تسأل عنه إظهار لتوبتها وتحقيق لصدق يوسف ونزاهته لأن إقرار المقر على نفسه أقوى من الشهادة عليه، فجمع الله تعالى ليوسف في إظهار صدقه الشهادة والإقرار حتى لا يخامر نفساً ظن ولا يخالجها شك...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{مَا خَطْبُكُنَّ}: ما شأنكنّ {إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ} هل وجدتنّ منه ميلا إليكنّ {قُلْنَ حاش لِلَّهِ} تعجباً من عفته وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ومن نزاهته عنها {قَالَتِ امرأت العزيز الآن حصحص الحق} أي ثبت واستقرّ... وهو من حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للإناخة...

ولا مزيد على شهادتهنّ له بالبراءة والنزاهة واعترافهنّ على أنفسهنّ بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به، لأنهنّ خصومه. وإذا اعترف الخصم بأنّ صاحبه على الحق وهو على الباطل، لم يبق لأحد مقال...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

استدعاء منه أن يعلمنه القصة فجاوب النساء بجواب جيد، تظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف بعض براءة، وذلك أن الملك لما قرر لهن أنهن راودنه قلن -جواباً عن ذلك- {حاش لله} وقد يحتمل -على بعد- أن يكون قولهن {حاش لله} في جهة يوسف عليه السلام... وقولهن: {ما علمنا عليه من سوء} ليس بإبراء تام، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في إحدى الجهتين، ولو قلن: ما علمن عليه إلا خيراً لكان أدخل في التبرئة...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم إنه تعالى حكى عن يوسف عليه السلام أنه لما التمس ذلك، أمر الملك بإحضارهن وقال لهن: {ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه} وفيه وجهان: الأول: أن قوله: {إذ راودتن يوسف عن نفسه} وإن كانت صيغة الجمع، فالمراد منها الواحدة كقوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} والثاني: أن المراد منه خطاب الجماعة.

ثم ههنا وجهان:

الأول: أن كل واحدة منهن راودت يوسف عن نفسها.

والثاني: أن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه، وعند هذا السؤال {قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء} وهذا كالتأكيد لما ذكرن في أول الأمر في حقه وهو قولهن: {ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم}...

هذه شهادة جازمة من تلك المرأة بأن يوسف صلوات الله عليه كان مبرأ عن كل الذنوب مطهرا عن جميع العيوب، وههنا دقيقة، وهي أن يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال: {ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} فذكرهن ولم يذكر تلك المرأة البتة فعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيما لجانبها وإخفاء للأمر عليها، فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء واعترفت بأن الذنب كله كان من جانبها وأن يوسف عليه السلام كان مبرأ عن الكل...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما قال يوسف عليه الصلاة والسلام ذلك وأبى أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر، رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل: فما فعل الملك؟ فقيل: {قال} للنسوة بعد أن جمعهن: {ما خطبكن} أي شأنكن العظيم؛ وقوله: {إذ راودتن} أي خادعتن بمكر ودوران ومراوغة {يوسف عن نفسه} دليل على أن براءته كانت متحققة عند كل من علم القصة، فكأن الملك وبعض الناس -وإن علموا مراودتهن وعفته- ما كانوا يعرفون المراودة هل هي لهن كلهن أو لبعضهن، فكأنه قيل: ما قلن؟ فقيل: مكرن في جوابهن إذ سألهن عما عملن من السوء معه فأعرضن عنه وأجبن بنفي السوء عنه عليه الصلاة والسلام، وذلك أنهن {قلن حاش لله} أي عياذاً بالملك الأعظم وتنزيهاً له من هذا الأمر، فأوهمن بذلك براءتهن منه؛ ثم فسرن هذا العياذ بأن قلن تعجباً من عفته التي لم يرين مثلها، ولا وقع في أوهامهن أن تكون لآدمي وإن بلغ ما بلغ: {ما علمنا عليه} أي يوسف عليه الصلاة والسلام، وأعرقن في النفي فقلن: {من سوء} فخصصنه بالبراءة، وهذا كما تقدم عند قول الملأ {أضغاث أحلام} هذا وهو جواب للملك الذي تبهر رؤيته وتخشى سطوته، فكان من طبع البلد عدم الإفصاح في المقال -حتى لا ينفك عن طروق احتمال فيكون للتفصي فيه مجال- وعبادة الملوك إلا من شاء الله منهم. ولما تم ذلك، كان كأنه قيل: فما قالت التي هي أصل هذا الأمر؟ فقيل: {قالت امرأت العزيز} مصرحة بحقيقة الحال: {الآن حصحص الحق} أي حصل على أمكن وجوهه، وانقطع عن الباطل بظهوره، من: حص شعره إذا استأصل قطعه بحيث ظهر ما تحته، ومنه الحصة: القطعة من الشيء... {أنا راودته} أي خادعته وراودته {عن نفسه} وأكدت ما أفصحت به مدحاً ونفياً لكل سوء بقولها مؤكداً لأجل ما تقدم من إنكارها: {وإنه لمن الصادقين} أي العريقين في هذا الوصف في نسبة المراودة إليّ وتبرئة نفسه، فقد شهد النسوة كلهن ببراءته، وإنه لم يقع منه ما ينسب به شيء من السوء إليه، فمن نسب إليه بعد ذلك هماً أو غيره فهو تابع لمجرد الهوى في نبي من المخلصين...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء} أي معاذ الله ما علمنا عليه أدنى شيء يشينه ويسوءه لا كبير ولا صغير، ولا كثير ولا قليل، هذا ما يدل عليه نفي العلم مع تنكير سوء ودخول "من "عليها، وهو أبلغ من نفي رؤية السوء عنه... {قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق}... تقول: إن الحق في هذه القضية كان في رأي الذين بلغهم موزع التبعة بيننا معشر النسوة وبين يوسف لكل منا حصة، بقدر ما عرض فيها من شبهة، والآن قد ظهر الحق في جانب واحد لا خفاء فيه ولا شبهة عليه، فإن كان عواذلي شهدن بنفي السوء عنه وهي شهادة نفي، فشهادتي له على نفسي شهادة إثبات. {أنا راودته عن نفسه} وهو لم يراودني، بل استعصم وأعرض عني {وإنه لمن الصادقين} فيما اتهمني به من قبل، وحمله أدبه الأعلى ووفاؤه الأسمى لمن أكرم مثواه وأحسن إليه على السكوت عنه إلى الآن، ونحن جزيناه بالسيئة على الإحسان. وقد أقر الخصم وارتفع النزاع.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ورجع الرسول فأخبر الملك وأحضر الملك النسوة يستجوبهن -والسياق يحذف هذا لنعلمه مما يليه -: (قال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟).. والخطب: الأمر الجلل والمصاب. فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن، وهو المعتاد في مثل هذه الأحوال، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه. فهو يواجههن مقررا الاتهام، ومشيرا إلى أمر لهن جلل أو شأن لهن خطير: (ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟). ومن هذا نعلم شيئا مما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير؛ ما قالته النسوة ليوسف وما لمحن به وأشرن إليه، من الإغراء الذي يبلغ درجة المراودة. ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ. فالجاهلية دائما هي الجاهلية. إنه حيثما كان الترف، وكانت القصور والحاشية، كان التخلل والتميع والفجور الناعم الذي يرتدي ثياب الأرستقراطية! وفي مثل هذه المواجهة بالاتهام في حضرة الملك، يبدو أنه لم يكن هنالك مجال للإنكار: (قلن: حاش لله! ما علمنا عليه من سوء)! وهي الحقيقة التي يصعب إنكارها. ولو من مثل هؤلاء النسوة. فقد كان أمر يوسف إذن من النصاعة والوضوح بحيث لا يقوم فيه جدال. وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف، التي يئست منه، ولكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به.. تتقدم لتقول كل شيء في صراحة: (قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق. أنا راودته عن نفسه. وإنه لمن الصادقين).. الآن حصحص الحق وظهر ظهورا واضحا لا يحتمل الخفاء: (أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين).. وزادت ما يكشف عن أن قلبها لم يخل من إيثاره ورجاء تقديره والتفاته بعد كل هذا الأمد؛ وما يشي كذلك بأن عقيدة يوسف قد أخذت طريقها إلى قلبها فآمن: (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين).. وهذا الاعتراف وما بعده يصوره السياق هنا بألفاظ موحية، تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر. كما يشي الستار الرقيق بما وراءه في ترفع وتجمل في التعبير: (أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين).. شهادة كاملة بنظافته وبراءته وصدقه. لا تبالي المرأة ما وراءها مما يلم بها هي ويلحق بأردانها.. فهل هو الحق وحده الذي يدفعها لهذا الإقرار الصريح في حضرة الملك والملأ؟...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

جملة {قال ما خطبكن} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن الجمل التي سبقتها تثير سؤالاً في نفس السامع عما حصل من المَلِك لَمّا أُبلغ إليه اقتراح يوسف عليه السّلام مع شدة تشوقه إلى حضوره بين يديه، أي قال الملك للنسوة. ووقوع هذا بعد جملة {ارجع إلى ربك} إلى آخرها مؤذن بكلام محذوف، تقديره: فرجع فأخبر الملك فأحضر الملكُ النسوة اللائي كانت جمعتْهن امرأةُ العزيز لمّا أعتدت لهنّ مُتّكَأ فقال لهن: ما خطبكن} إلى آخره. واسندت المراودة إلى ضمير النسوة لوقوعها من بعضهن غير معين، أو لأن القالة التي شاعت في المدينة كانت مخلوطة ظَنا أن المراودة وقعت في مجلس المتّكأ. والخطب: الشأن المهم من حالة أو حادثة. قيل: سمي خطباً لأنه يقتضي أن يخاطِب المرء صاحبه بالتساؤل عنه. وقيل: هو مأخوذ من الخُطبة، أي يُخطب فيه، وإنما تكون الخطبة في أمر عظيم، فأصله مصدر بمعنى المفعول، أي مخطوب فيه. وجملة {قلن} مفصولة لأجل كونها حكاية جواب عن كلام الملك أي قالت النسوة عدا امرأة العزيز، بقرينة قوله بعد: {قالت امرأة العزيز}. و {حاش لله} مبالغة في النفي والتنزيه. والمقصود: التبرؤ مما نسب إليهن من المراودة. وقد تقدم تفسيرها آنفاً واختلاف القراء فيها. وجملة {ما علمنا عليه من سوء} مبينة لإجمال النفي الذي في {حاش لله}. وهي جامعة لنفي مراودتهن إياه ومراودته إياهن لأن الحالتين من أحوال السوء. ونفي علمهن ذلك كناية عن نفي دعوتهن إياه إلى السوء ونفي دعوته إياهن إليه لأن ذلك لو وقع لكان معلوماً عندهن، ثم إنهن لم يزدن في الشهادة على ما يتعلق بسؤال الملك فلم يتعرضن لإقرار امرأة العزيز في مجلسهن بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، خشيةً منها، أو مودّةً لها، فاقتصرن على جواب ما سُئلن عنه. وهذا يدل على كلام محذوف وهو أن امرأة العزيز كانت من جملة النسوة اللاتي أحضرهن الملك. ولم يشملها قول يوسف عليه السّلام: {ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} لأنها لم تقطّعْ يدها معهن، ولكن شملها كلام الملك إذ قال: إذ راودتن يوسف عن نفسه} فإن المراودة إنما وقعت من امرأة العزيز دون النسوة اللاتي أعدّت لهن متكئاً، ففي الكلام إيجاز حذف. وجملة {قالت امرأة العزيز} مفصولة لأنها حكاية جواب عن سؤال الملك. والآن: ظرف للزمان الحاضر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {الآن خفف الله عنكم} في سورة الأنفال (66). و {حصحص}: ثبت واستقر. و {الحق}: هو براءة يوسف عليه السّلام مما رمته به امرأة العزيز، وإنما ثبت حينئذٍ لأنه كان محل قيل وقال وشك، فزال ذلك باعترافها بما وقع. والتعبير بالماضي مع أنه لم يثبت إلا من إقرارها الذي لم يسبق لأنه قريب الوقوع فهو لتقريب زمن الحال من المضي. ويجوز أن يكون المراد ثبوت الحق بقول النسوة {ما علمنا عليه من سوء} فيكون الماضي على حقيقته. وتقديم اسم الزمان للدلالة على الاختصاص، أي الآن لا قبله للدلالة على أن ما قبل ذلك الزمان كان زمنَ باطل وهو زمن تهمة يوسف عليه السّلام بالمراودة، فالقصر قصر تعيين إذ كان الملك لا يدري أي الوقتين وقتُ الصدق أهو وقت اعتراف النسوة بنزاهة يوسف عليه السّلام أم هو وقت رمي امرأة العزيز إياه بالمراودة. وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة {أنا راودته} للقصر، لإبطال أن يكون النسوة راودنه. فهذا إقرار منها على نفسها، وشهادة لغيرها بالبراءة، وزادت فأكدت صدقه ب (إن) واللام. وصيغة {من الصادقين} كما تقدم في نظائرها، منها قوله تعالى: {قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين} في سورة الأنعام (56)...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

عاد المبعوث من قبل الملك إلى يوسف مرّة ثانية إلى الملك، وأخبره بما طلبه يوسف مع ما كان من إبائه وعلوّ همّته، لذا عظم يوسف في نفس الملك وبادر مسرعاً إلى إحضار النسوة اللائي شاركن في الحادثة، والتفت إليهنّ (وقال ما خطبكنّ إذ راودتن يوسف عن نفسه) يجب أن تقلنَ الحقّ.. هل ارتكب يوسف خطيئة أو ذنباً؟

فتيقّظ فجأةً الوجدان النائم في نفوسهنّ، وأجبنه جميعاً بكلام واحد متّفق على طهارته و (قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء).

أمّا امرأة العزيز التي كانت حاضرة أيضاً، وكانت تصغي بدقّة إلى حديث الملك ونسوة مصر، فلم تجد في نفسها القدرة على السكوت، ودون أن تُسأل أحسّت بأنّ الوقت قد حان لأنّ تنزّه يوسف وأن تعوّض عن تبكيت وجدانها وحيائها وذنبها بشهادتها القاطعة في حقّه، وخاصّة أنّها رأت كرم يوسف المنقطع النظير من خلال رسالته إلى الملك، إذ لم يعرّض فيها بالطعن في شخصيتها وكان كلامه عامّاً ومغلقاً تحت عنوان «نسوة مصر».

فكأنّما حدث انفجار في داخلها فجأةً وصرخت و (قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحقّ أنا راودته عن نفسه وإنّه لمن الصادقين).