الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَحَآجَّهُۥ قَوۡمُهُۥۚ قَالَ أَتُحَـٰٓجُّوٓنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنِۚ وَلَآ أَخَافُ مَا تُشۡرِكُونَ بِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيۡـٔٗاۚ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (80)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وجادل إبراهيمَ قومُه في توحيد الله وبراءته من الأصنام وكان جدالهم إياه قولهم: إن آلهتهم التي يعبدونها خير من إلهه. قالَ إبراهيم:"أتُحاجّونِي فِي اللّهِ": أتجادلونني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة، "وَقَدْ هَدَانِ": وقد وفقني ربي لمعرفة وحدانيته، وبصّرني طريق الحقّ حتى أيقنتُ أن لا شيء يستحقّ أن يُعْبد سواه. "ولا أخَافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ": ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دونه شيئا ينالني في نفسي من سوء ومكروه، وذَلك أنهم قالوا له: إنا نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء من بَرَص أو خَبل، لذكرك إياها بسوء فقال لهم إبراهيم: لا أخاف ما تشركون بالله من هذه الآلهة أن تنالني بضرّ ولا مكروه، لأنها لا تنفع ولا تَضرّ "إلاّ أنْ يَشاءَ رَبي شَيْئا": ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السموات والأرض، فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو بقاء أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك نالني به، لأنه القادر على ذلك.

"وَسِعَ رَبي كُلّ شَيْءٍ عِلْما": وعلم ربي كلّ شيء فلا يخفى عليه شيء، لأنه خالق كلّ شيء، وليس كالآلهة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تفهم شيئا، وإنما هي خشبة منحوتة وصورة ممثّلة. "أفَلا تَتَذَكّرُونَ": أفلا تعتبرون أيها الجهلة فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون من عبادتكم صورة مصوّرة وخشبة منحوتة، لا تقدر على ضرّ ولا على نفع ولا تفقه شيئا ولا تعقله، وترككم عبادة من خلقكم وخلق كلّ شيء، وبيده الخير وله القدرة على كلّ شيء والعالم لكلّ شيء.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

"وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ..." ذكر محاجة قومه ولم يبين فيما حاجوه، لكن في الجواب بيان أن المحاجة فيما كانت، وهو قوله: "قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ".

ثم تحتمل المحاجة في اللَّه: في توحيد اللَّه ودينه. وتحتمل في اتباع أمر اللَّه وطاعته.

وذكر في بعض القصة عن ابن عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ): في آلهتهم وخوفوه بها، وقالوا: إنا نخاف آلهتنا، وأنت تشتمها ولا تعبدها، أن تخبلك وتفسدك. وذلك محتمل؛ وهو كقول قوم هود لهود -عليه السلام- (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ).

ثم قال لهم إبراهيم -عليه السلام -: لما لا تخافون أنتم منها؟. قالوا: كيف نخاف ونحن نعبدها؟! قال: لأنكم تسوون بين الصغير والكبير، والذكر والأنثى، أما تخافون الكبير إذ سويتموه بالصغير، وما تخافون الذكر إذ سويتموه بالأنثى؟!

ويحتمل أنهم خوفوه باللَّه بترك عبادة آلهتهم، لما كانوا يقولون: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)، ويقولون: (هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)، فخوفوا إبراهيم باللَّه بترك عبادتهم لما كان عندهم أن عبادتهم إياها تقربهم إلى الله زلفى وترك العبادة لها يبعدهم، فقال: (وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ) وقد هداني، ولا أخاف مما تشركون به.

ويحتمل قوله: "وَقَدْ هَدَانِ" أما ذكرنا في قوله "أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ"، الدِّين والتوحيد وهداني طاعته والاتباع لأمره فقال: كيف أخاف وقد هداني.

وقوله- عَزَّ وَجَلَّ -: "إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا" هذا يحتمل وجهين.

الأول: يحتمل لا أخاف إلا إن عصيت ربي شيئًا، فعند ذلك أخاف، وأما إذا هداني ربي فإني لا أخاف بتركي عبادتهم.

والثاني: "إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي" إلا أن يبتليني ربي بشيء من المعصية، فعند ذلك أكون في مشيئته إن شاء عذبني، وإن شاء لم يعذبني.

وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: "وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا".

أي: علم ذلك كله عنده عصيت أو أطعت.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

"ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا" قوله: "إلا أن يشاء ربي شيئا". ليس باستثناء عن الأول؛ إذ لا يجوز أن يشأ الله أن يصيبه شيء من الأصنام، وما يشركون به، وإنما هذا استثناء منقطع، ومعناه: لكن إن شاء ربي أن يأخذني بشيء، أو يعذبني بجرمي؛ فله ذلك.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّي فِي الله} وكانوا حاجوه في توحيد الله ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك {وَقَدْ هدان} يعني إلى التوحيد {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} وقد خوفوه أن معبوداتهم تصيبه بسوء {إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّي شَيْئاً} إلاّ وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف، فحذف الوقت، يعني لا أخاف معبوداتكم في وقت قط؛ لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة، إلاّ إذا شاء ربي أن يصيبني بمخوف من جهتها إن أصبت ذنباً استوجب به إنزال المكروه، مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقة من الشمس أو القمر، أو يجعلها قادرة على مضرتي {وَسِعَ رَبّى كُلَّ شيء عِلْماً} أي ليس بعجب ولا مستبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

...وأما قوله: {إلا أن يشاء ربي} ففيه وجوه: أحدها: إلا أن أذنب فيشاء إنزال العقوبة بي. وثانيها: إلا أن يشاء أن يبتليني بمحن الدنيا فيقطع عني بعض عادات نعمه. وثالثها: إلا أن يشاء ربي فأخاف ما تشركون به بأن يحييها ويمكنها من ضري ونفعي ويقدرها على إيصال الخير والشر إلي، واللفظ يحتمل كل هذه الوجوه، وحاصل الأمر أنه لا يبعد أن يحدث للإنسان في مستقبل عمره شيء من المكاره، والحمقى من الناس يحملون ذلك على أنه إنما حدث ذلك المكروه بسبب أنه طعن في إلهية الأصنام، فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك حتى لو أنه حدث به شيء من المكاره لم يحمل على هذا السبب...

المسألة الثالثة: أن إبراهيم عليه السلام حاجهم في الله وهو قوله: {لا أحب الآفلين} والقوم أيضا حاجوه في الله، وهو قوله تعالى خبرا عنهم: {وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله} فحصل لنا من هذه الآية أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للمدح العظيم والثناء البالغ، وهي المحاجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام، وذلك المدح والثناء هو قوله تعالى: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} وتارة تكون موجبة للذم وهو قوله: {قال أتحاجوني في الله} ولا فرق بين هذين البابين إلا أن المحاجة في تقرير الدين الحق توجب أعظم أنواع المدح والثناء، والمحاجة في تقرير الدين الباطل توجب أعظم أنواع الذم والزجر. وإذا ثبت هذا الأصل صار هذا قانونا معتبرا، فكل موضع جاء في القرآن والأخبار يدل على تهجين أمر المحاجة والمناظرة فهو محمول على تقرير الدين الباطل، وكل موضع جاء يدل على مدحه فهو محمول على تقرير الدين الحق والمذهب الصدق. والله أعلم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أبدى هذه الأدلة في إبطال الضلال بالكواكب والشمس التي هي أوضح من الشمس، عطف عليها الإخبار بأنهم لم يرجعوا إليه بل حاجوه، فقال: {وحاجه قومه} بأنهم لا ينفكون عن عبادتها لأنهم وجدوا آباءهم كذلك، وأنه إن لم يرجع عن الكلام فيها أصابته ببعض النوازل، وذلك من أعظم التسلية لهذا النبي العربي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم.

ولما كان من المعلوم أن محاجتهم -بعد هذه الأدلة الواضحة في غاية من السقوط- سفلت عن الحضيض، نزه المقام عن ذكرها، إشارة إلى أنها بحيث لا يستحق الذكر، وبين جوابه لما فيه من الفوائد الجمة بقوله: {قال} أي بقول منكراً عليهم موبخاً لهم: {أتحاجوني} وصرح باسم الرب العلم الأعظم في قوله: {في الله} أي شيء مما يختص به المستجمع لصفات الكمال لا سيما التوحيد {وقد} أي والحال أنه قد {هدان} أي أرشدني بالدليل القطعي إلى معرفة كل ما يثبت له وينفى عنه، أي لأنه قادر، فبين أنه تعالى قد أحسن إليه، فهو يرجوه لمثل ذلك الإحسان، ويخافه من عواقب العصيان، لأن من رُجي خيره خيف ضيره، ومن كان بيده النفع والضر والهداية والإضلال فهو من وضوح الأمر وظهور الشأن بحيث لا توجه نحوه المحاجة، وأتبعه بيان أن معبوداتهم مسلوب عنها ما يوجه إليه الهمم، فقال عاطفاً على ما تقديره: فأنا أرجوه وأخافه لأنه قادر: {ولا أخاف ما تشركون به} ولا أرجوه لهداية ولا إضلال ولا غيرهما لأنه عاجز، فأثبت لله القدرة بالهداية لأنها أشرف، وطوى الإضلال لدلالتها ودلالة ما نفي في جانب الشركاء عليه، وأثبت لآلهتهم العجز بنفي الخوف المستلزم لنفي القدرة على الضر. وذلك دال على أن الله تعالى أهل لأن يخاف منه. كل ذلك تلويحاً لهم بأن العاقل لا ينبغي له أن يخالف إلاّ من يأمن ضره، فهم في مخالفتهم لله في غاية من الخطر، لا يرتكبها عاقل، والآية من الاحتباك.

ولما نفى عن نفسه خوف آلهتهم أبداً في الحال والاستقبال، وكان من الأمر البين في الدين الحق أنه لا يصبح الإيمان إلاّ مع الإقرار بخفاء العواقب على العباد وإثبات العلم بها لله تسليماً لمفاتيح الغيب إليه، وقصرها عليه؛ قال مستثنياً من سبب النفي، وهو أنها لا تقدر على شيء: {إلا أن يشاء ربي} المحسن إليّ في حال الضر كما هو محسن في حال النفع {شيئاً} أي من تسليطها بأنفسها أو باتباعها، لأنه قادر على ما يريد، فإن أراد أنطق الجماد وأقدره، وأخرس الناطق الفصيح وأعجزه، فأنا لا أخاف في الحقيقة غيره.

ولما كان هذا في صورة التعليق، وكان التعليق وما شابهه من شأنه أن لا يصدر إلاّ من متردد، فيكون موضع إطماع للخصم فيه، علله بما أزال هذا الخيال فقال: {وسع ربي كل شيء علماً} أي فأحاط بكل شيء قدرة، فهو إذا أراد إقدار العاجز أزال عنه كل مانع من القدرة، وأثبت له كل مقتض لها، وذلك ثمرة شمول العلم -كما سيأتي برهانه إن شاء الله تعالى في سورة طه، فالمراد أني ما تركت الجزم لشك عندي، وإنما تركته لعدم علمي بالعواقب إعلاماً بأن تلك رتبة لا تصلح إلاّ لله الذي وسع علمه كل شيء، وأدل دليل على هذا اتباعه له بإنكاره عليهم عدمَ الإبلاغ في التذكر بقوله مظهراً تاء التفعل إشارة إلى أن في جبلاتهم أصل التذكر الصاد عن الشرك: {أفلا تتذكرون} أي يقع منكم تذكر، فتميزوا بين الحق والباطل بأن تذكروا مآلكم من أنفسكم بأن من غاب عن مربوبه فسد أو كاد، وأن هذه الجمادات لا تنفع ولا تضر، وأنها مصنوعكم.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

المحاجة: المجادلة والمغالبة في إقامة الحجة. والحجة الدلالة المبينة للمحجة أي المقصد المستقيم كما قال الراغب، وأصل المحجة وسط الطريق المستقيم، وتطلق الحجة على كل ما يدلي به أحد الخصمين في إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه، فتقسم إلى حجة ناهضة يثبت بها الحق، وحجة داحضة يموه بها الباطل، وإنما يسمى ما لا يثبت به الحق حجة على سبيل ادعاء الخصم، حكاية لقوله، واصطلحوا على تسميتها شبهة.

ولما حاج إبراهيم قومه ببيان بطلان عبادة الأصنام وربوبية الكواكب وإثبات وحدانية الله تعالى ووجوب عبادته وحده- وهي الحنيفية- حاجوه ببيان أوهامهم في شركهم، وقد بين الله تعالى في سورتي الأنبياء والشعراء أنهم اعتذروا له عن عبادة الأوثان والأصنام بتقليد آبائهم، وليس للمقلد أن يحتج، ولكنه يجادل ويحاج مع كونه لا يخضع للحجة إذا قامت عليه، ويؤخذ من هذه الآية أنهم لما لم يجدوا حجة عقلية على شركهم بالله خوفوه أن تمسه آلهتهم بسوء. والظاهر أن هذا كان قبل ما حكى الله تعالى عنه وعنهم في سورة الشعراء بقوله: {قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون} [الشعراء: 72-74] وقبل واقعة تكسيره لأصنامهم التي قال الله فيها من سورة الأنبياء إنهم رجعوا إلى أنفسهم فاعترفوا بظلمهم، ثم نكسوا على رؤوسهم مصرين على شركهم، وكثيرا ما يضطرب المقلد لسماع الحجة إذ يومض في قلبه برقها، ويهز شعوره رعدها ويكاد يحييه ودقها، ثم ينكس على رأسه، ويعود إلى سابق وهمه، خائفا من غير مخوف، راجيا غير مرجو، كما نراه في عباد أصحاب القبور الذين يتوهمون أن قبورهم وغيرها من آثارهم تدفع عمن زارها أو تمسح بها الضر وتكشف السوء، وتدر الرزق وتخزي العدو، إما بتصرفهم في الخلق، وإما لأنهم قربان عند الرب، ولا يرون ذلك ناقضا للإيمان الصحيح بالله عز وجل {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [يوسف: 106].

قال تعالى {وحاجه قومه} أي وجادله قومه بعد ما تقدم من أمره معهم وخاصموه في أمر التوحيد الذي قرره لهم، كأن زعموا كما روي وسمع من أمثالهم أن اتخاذ الإلهة لا ينافي الإيمان بالله الفاطر سبحانه، لأنهم وسطاء وشفعاء عنده، ومتخذون لأجله، وذلك ما تقدم قريبا عن ابن زيد في تفسير قوله: {إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا} وخوفوه بطشهم به فماذا قال عليه السلام؟ {قال أتحاجوني في الله وقد هدان} أي أتجادلونني مجادلة صاحب الحجة في شأن الله تعالى وما يجب في الإيمان به- والحال أنه قد فضلني عليكم بما هداني إلى التوحيد الخالص والحنيفية التي أقمت بها الحجة عليكم، وأنتم ضالون بإصراركم على شرككم، وتقليدكم به من قبلكم؟ وقد خفف نون (تحاجوني) نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان وذلك بحذف إحدى النونين، وشددها سائر القراء، وهما لغتان للعرب في مثلها. وحذفت الياء من هداني في الرسم، لأنها لا تظهر في النطق.

{ولا أخاف ما تشركون به} من الكواكب والأصنام أن تصيبني بسوء، فإني أعلم علم اليقين أنها لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تقرب ولا تشفع {إلا أن يشاء ربي شيئا} أي لكن أستثني من عموم الخوف في عموم الأوقات، من جهة آلهتكم كغيرها من المخلوقات، إن شاء ربي القادر على كل شيء وقوع مكروه بي، فإنه يقع لا محالة كما شاء ربي، فإن فرض أنه شاء أن يسقط علي صنم يشجني، أو كسف من شهب الكواكب يقتلني، فإن ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئته، لا بمشيئة الصنم أو الكوكب ولا بقدرته، فإن ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئته، لا بمشيئة الصنم أو الكوكب ولا بقدرته، ولا بتأثيره في قدرته تعالى وإرادته، ولا بجاهه عنده وشفاعته، إذ لا تأثير لشيء من المخلوقات في مشيئة الخالق الأزلية الجارية بما ثبت في علمه الأزلي.

{وسع ربي كل شيء علما} أي أن علم ربي وسع كل شيء وأحاط به. ومشيئته مرتبطة بعلمه المحيط القديم وقدرته منفذة لمشيئته، فلا يمكن أن يكون لشيء من المخلوقات التي تعبدونها ولا لغيرها تأثير ما في صفاته، ولا في أفعاله الصادرة عنها، لا بشفاعة ولا غيرها، وإنما يكون ذلك لو كان علم الله تعالى غير محيط بكل شيء، فيعلمه الشفعاء والوسطاء من وجوه مرجحات الفعل أو الترك بالشفاعة أو غيرها ما لم يكن يعلم، فيكون ذلك هو الحامل له على الضر أو النفع، أو العطاء أو المنع. أخذنا هذا المعنى لهذه الجملة من حجج الله تعالى على نفي الشفاعة الشركية بمثل قوله: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} [البقرة: 255] فراجع تفسيره (في جزء التفسير الثالث) وجعل الجملة بعضهم كالتعليل للاستثناء، بجواز أن يكون لا يفعل إلا ما فيه الخير والصلاح، وجعلها بعضهم تعريضا بجهل معبوداتهم من الكواكب والأوثان، وما قلناه أرجح وهو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن.

{أفلا تتذكرون} أيها الغافلون أن هذا هو شأن الرب الفاطر، وأنه ينافي ما أنتم عليه من الشرك الظاهر، ومنه اعتقاد وقوع الضر بي أو النفع لكم، بالتصرف الذي تزعمونه في معبوداتكم وقد تقدم أنهم كانوا مؤمنين بأن للعالم كله ربا خالقا غير هذه الآلهة والأرباب المتخذة من مخلوقاته اتخاذا، ولكنهم لم يكونوا يعقلون بأنفسهم أن نسبة جميع الخلق إلى الخالق واحدة من حيث إنه هو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فسخر ما شاء لما شاء بسنن الأقدار، ونظام الأسباب والمسببات، ثم هدى العقلاء لتلك الأسباب، ليطلبوا المنافع ويتقوا المضار، وقد ظهر بالدلائل والتجارب أنها مسخرة على سواء، فالسلطة الغيبية العليا له وحده ليس لغيره تأثير فيها معه ولا تدبير، فإذا جعل بعض الأجناس أو الأشخاص سببا للنفع أو الضر بإرادة خلقها لها كالحيوانات، أو بغير إرادة كالجمادات، فلا يقتضي ذلك أن ترفع عن رتبة المخلوقات، وتجعل أربابا ومعبودات. وكان يجب أن يفطن العاقل لذلك ويتذكره بالتذكير به، لأنه تذكير بما يدركه العقل بالبرهان، وتعرفه الفطرة بالوجدان، فكأنه مما غفل عنه، لا مما جهله، لأنه معلوم له بالقوة. وفسر ابن جرير التذكر هنا بالاعتبار والاتعاظ وهو أحد معانيه {فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى} [الأعلى: 9، 10].

ومن العبرة في الآية أن هذا الضرب من الشرك الذي رده إمام الموحدين إبراهيم صلوات الله عليه، لا يزال فاشيا في كثير من المنتمين في التوحيد إلى ملته، لأنهم لم يعقلوا ما تقدم من حجته، فهم ينسبون إلى من يعتقدون أن لهم تصرفا غيبيا في المخلوقات، سواء كانوا من الأحياء أو الأموات ما يقع عقب زيارتهم لهم، أو توسلهم بهم، من زوال ألم، أو خير ألمّ، أو نفع أصاب حبيبا دعوا له، أو ضر أصاب عدوا دعوا عليه، وإنما يقع ما يقع من ذلك بسبب حقيقي جلي، أو وهمي خفي، وكل بتقدير الله السميع العليم، العزيز الحكيم.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لمّا أعلن إبراهيم عليه السلام معتَقَده لقومه أخذوا في محاجّته، فجملة {وحاجَّة} عطف على جملة {إنِّي وجَّهْتُ وجهِي للذي فطر السماوات والأرض} [الأنعام: 79]. وعطفت الجملة بالواو دون الفاء لتكون مستقلَّة بالإخبار بمضمونها مع أنّ تفرّع مضمونها على ما قبلها معلوم من سياق الكلام.

والمحاجَّة مفاعلة متصرّفة من الحُجَّة، وهي الدّليل المؤيّد للدعوى. ولا يعرف لهذه المفاعلة فعْل مجرّد بمعنى استدلّ بحجّة، وإنَّما المعروف فِعْل حَجّ إذا غَلب في الحُجَّة، فإن كانت احتجاجاً من الجانبين فهي حقيقة وهو الأصل، وإن كانت من جانب واحد باعتبار أنّ محاول الغَلَب في الحجَّة لا بدّ أن يتلقَّى من خصمه ما يرُدّ احتجاجه فتحصل المحاولة من الجانبين، فبذلك الاعتبار أطلق على الاحتجاج محاجَّة، أو المفاعلة فيه للمبالغة. والأوْلى حملها هنا على الحقيقة بأن يكون المعنى حصول محاجَّة بينهم وبين إبراهيم.

وذكر الشيخ ابن عرفة في درس تفسيره: أنّ صيغة المفاعلة تقتضي أنّ المجعول فيها فاعلاً هو البادئ بالمحاجَّة، وأنّ بعض العلماء استشكل قوله تعالى في سورة [البقرة: 258] {ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيمَ في ربِّه} حيث قال: {إذ قال إبراهيم ربّي الذي يحيي ويميت} [البقرة: 258]. فبدأ بكلام إبراهيم وهو مفعول الفعل وأجاب بأنّ إبراهيم بدأ بالمقاولة ونمرود بدأ المحاجَّة. ولم يذكر أئمَّة اللّغة هذا القيد في استعمال صيغة المفاعلة. ويجوز أن يكون المراد هنا أنَّهم سلكوا معه طريق الحجَّة على صحَّة دينهم أو على إبطال معتقده وهو يسمع، فجعل سماعه كلامهم بمنزلة جواب منه فأطلق على ذلك كلمة المحاجَّة. وأبهم احتجاجهم هنا إذ لا يتعلَّق به غرض لأنّ الغرض هو الاعتبار بثبات إبراهيم على الحقّ. وحذف متعلّق {حاجّة} لدلالة المقام، ودلالة ما بعده عليه من قوله: {أتحاجّوني في الله} الآيات.

وقد ذكرت حججهم في مواضع في القرآن، منها قوله في سورة [الأنبياء: 52 56] {إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين} إلى قوله {وأنا على ذلكم من الشاهدين}، وقوله في سورة [الشعراء: 72، 73] {قال هل يَسْمعونكم إذْ تدعون أو ينفعونكم أو يضُرّون الآيات} وفي سورة [الصافات: 85 98] {إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون إلى قوله فجعلناهم الأسفلين} وكلّها محاجَّة حقيقيّة، ويدخل في المحاجّة ما ليس بحجَّة ولكنَّه ممّا يرونه حججاً بأن خوّفُوه غضب آلهتهم، كما يدلّ عليه قوله: {ولا أخاف ما تشركون به} الآية. والتقدير: وحاجّه قومه فقالوا: كيت وكيت.

وجملة {قال أتحاجّوني في الله} جوابُ محاجَّتهم، ولذلك فصلت، على طريقة المحاورات كما قدّمناه في قوله تعالى: {وإذ قال ربّك للملائكة إنِّي جاعل في الأرض خليفة} في سورة [البقرة: 30]، فإن كانت المحاجَّة على حقيقة المفاعلة فقوله أتحاجّوني} غلق لباب المجادلة وخَتْم لها، وإن كانت المحاجّة مستعملة في الاحتجاج فقوله: {أتحاجّوني} جواب لمحاجّتهم، فيكون كقوله تعالى:

{فإن حاجّوك فقل أسلمتُ وجهي لله} [آل عمران: 20]. والاستفهام إنكار عليهم وتأييس من رجوعه إلى معتقدهم.

و {في} للظرفية المجازية متعلّقة ب {تحاجّوني} ودخولها على اسم الجلالة على تقدير مضاف، لأنّ المحاجَّة لا تكون في الذّوات، فتعيّن تقدير ما يصلح له المقام وهو صفات الله الدّالَّة على أنَّه واحد، أي في توحيد الله وهذا كقوله تعالى: {يُجَادلُنا في قوم لُوط} [هود: 74] أي في استئصالهم.

وجملة {وقد هدانِ} حال مؤكَّدة للإنكار، أي لا جدوى لمحاجَّتكم إيّاي بعد أن هداني الله إلى الحقّ، وشأن الحال المؤكّدة للإنكار أن يكون اتّصاف صاحبها بها معروفاً عند المخاطب. فالظاهر أنّ إبراهيم نزّلهم في خطابه منزلةَ من يعلم أنّ الله هَداه كناية على ظهور دلائل الهداية.

وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر {أتحاجّوني} بنون واحدة خفيفة وأصله أتحاجّونني بنونين فحذفت إحداهما للتخفيف، والمحذوفة هي الثانية التي هي نون الوقاية على مختار أبي علي الفارسي. قال: لأنّ الأولى نون الإعراب وأمّا الثّانية فهي موطّئة لياء المتكلّم فيجوز حذفها تخفيفاً، كما قالوا: ليْتِي في لَيْتَنِي. وذهب سيبويه أنّ المحذوفة هي الأولى لأنّ الثانية جلبت لتحْمِل الكسرة المناسبة للياء ونون الرفع لا تكون مكسورة، وأيَّاً ما كان فهذا الحذف مستعمل لقصد التخفيف. وعن أبي عمرو بن العلاء: أنّ هذه القراءة لحن، فإن صحّ ذلك عنه فهو مخطئ في زعمه، أو أخْطَأ من عزاه إليه. وقرأه البقية بتشديد النّون لإدغام نون الرفع في نون الوقاية لقصد التخفيف أيضاً، ولذلك تمدّ الواو لتكون المدّة فاصلة بين التقاء الساكنين، لأنّ المدّة خفّة وهذا الالتقاءُ هو الذي يدعونه التقاء الساكنين على حَدّه.

وحذفت ياء المتكلّم في قوله {وقد هدانِ} للتخفيف وصلاً ووقفاً في قراءة نافع من رواية قالون، وفي الوقف فقط في قراءة بعض العشرة. وقد تقدّم في قوله تعالى: {أجيب دعوة الداعي إذا دَعَانِ} [البقرة: 186].

وقوله: {ولا أخاف ما تشركون به} معطوف على {أتحاجّوني} فتكون إخباراً، أو على جملة {وقد هَدَانِ} فتكون تأكيداً للإنكار. وتأكيدُ الإنكار بها أظهر منه لقوله {وقد هدانِ} لأنّ عدم خوفه من آلهتهم قد ظهرت دلائله عليه. فقومُه إمَّا عالمون به أو منزّلون منزلة العالم، كما تقدّم في قوله: {وقد هدَانِ} وهو يؤذن بأنَّهم حاجّوه في التّوحيد وخوّفوه بطش آلهتهم ومسَّهم إيَّاه بسوء، إذ لا مناسبة بين إنكار محاجَّتهم إيَّاه وبين نفي خوفه من آلهتهم، ولا بين هدى الله إيّاه وبين نفي خوفه آلهتهم، فتعيَّن أنّهم خوّفوه مكر آلهتهم. ونظير ذلك ما حكاه الله عن قوم هود {إنْ نقول إلاّ اعتراك بعضُ آلهتنا بسوء} [هود: 54].

و (ما] من قوله: {ما تشركون به} موصولة ما صدقها آلهتهم التي جعلوها شركاء لله في الإلهيّة. والضمير في قوله {به} يجوز أن يكون عائداً على اسم الجلالة فتكون الباء لتعدية فعل {تشركون}، وأن يكون عائداً إلى (ما) الموصولة فتكون الباء سببية، أي الأصنام التي بسببها أشركتم.

وقوله: {إلاّ أن يشاء ربِّي شيئاً} استثناء ممّا قبله وقد جعله ابن عطية استثناء منقطعاً بمعنى لكنْ. وهو ظاهر كلام الطبري، وهو الأظهر فإنَّه لمّا نفى أن يكون يخاف إضرار آلهتهم وكان ذلك قد يتوهَّم منه السّامعون أنَّه لا يخاف شيئاً استدرك عليه بما دلّ عليه الاستثناءُ المنقطع، أي لكن أخاف مشيئة ربِّي شيئاً ممَّا أخافه، فذلك أخافُه. وفي هذا الاستدراك زيادة نكاية لقومه إذ كان لا يخاف آلهتهم في حين أنَّه يخشى ربَّه المستحقّ للخشية إن كان قومه لا يعترفون بربّ غير آلهتهم على أحد الاحتمالين المتقدّمين.

وجعل الزمخشري ومتابعوه الاستثناء متّصلاً مفرّغاً عن مستثنى منه محذوف دلّ عليه الكلام، فقدّره الزمخشري من أوقات، أي لا أخاف ما تشركون به أبداً، لأنّ الفعل المضارع المنفي يتعلّق بالمستقبل على وجه عموم الأزمنة لأنَّه كالنَّكرة المنفية، أي إلاّ وقت مشيئة ربِّي شيئاً أخافه من شركائكم، أي بأنْ يسَلّط ربِّي بعضها عليّ فذلك من قدرة ربِّي بواسطتها لا من قدرتها عليّ. وجوّز أبو البقاء أن يكون المستثنى منه أحوالاً عامّة، أي إلاّ حالَ مشيئة ربِّي شيئاً أخافه منها.

وجملة: {وسع ربِّي كلّ شيء علما} استئناف بياني لأنَّه قد يختلج في نفوسهم: كيف يشاء ربّك شيئاً تخافه وأنت تزعم أنَّك قائم بمرضاته ومؤيد لدينه فما هذا إلاّ شكّ في أمرك، فلذلك فُصلت، أي إنَّما لم آمن إرادة الله بي ضُرّا وإن كنت عبده وناصر دينه لأنَّه أعلم بحكمة إلحاق الضرّ. أو النفع بمن يشاء من عباده. وهذا مقام أدب مع الله تعالى {فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون} [الأعراف: 99].

وجملة {أفلا تتذكَّرون} معطوفة على جملة {أتحاجّوني في الله وقد هَدانِ}. وقُدّمت همزة الاستفهام على فاء العطف.

والاستفهام إنكار لعدم تذّكرهم مع وضوح دلائل التذكّر. والمراد التذكّر في صفات آلهتهم المنافية لمقام الإلهية، وفي صفات الإله الحقّ التي دلَّت عليها مصنوعاته.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وقد كان إبراهيم حريصا في إجابته ويخشى أن يصيبه قدر، فيتوهمون أن ذلك من سر آلهتهم فقطع عليه السلام أسباب ذلك، وقال مطمئنا إلى قضاء الله تعالى: (إلا أن يشاء ربي شيئا) هذا استثناء يدل على أمرين: أولهما: تفويضه لله تعالى في كل أموره، وأنه راض بما يقدره الله تعالى له، ويتقبل ما يأتي به وأنه وحده الذي يفعل ما يشاء. ثانيهما: الرد عليهم في أن أصنامهم تستطيع أن تفعل شيئا، انما الأمر كله لله وحده هو الذي يصيب بالضرر إن شاء وهو الذي ينزل الخير من سحائب رضوانه إن شاء. وأنه قادر على ذلك، وهو القادر وحده، وهو العليم بكل شيء يضع الأمور في مواضعها لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكل شيء على مقتضى علمه بما كان وما سيكون ولذا قال تعالى: (وسع ربي كل شيء علما) وهو تمييز محول ومعناه: وسع علم ربي كل شيء، وفي تأخير التمييز إيهام مؤقت للتشويق وبذلك يثبت في النفوس علم الله تعالى فضل ثبوت. وذكر لله تعالى بوصف (ربي) للدلالة على أنه يستشعر معنى الربوبية دائما فهو الذي رباه، وهو الذي يحميه ويحفظه من كل ضر وسوء الا أن يكون من حكمة أرادها وهو العليم الخبير.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

تعقيباً على ما جرى بحثه في الآيات السابقة بشأن استدلالات إِبراهيم (عليه السلام) التوحيدية، تشير هذه الآيات إِلى ما دار بين إِبراهيم والأقوام المشركة من عبدة الأصنام، الذين بدأوه بالمحاجة (وحاجه قومه).

فردّ عليهم إِبراهيم (عليه السلام) قائلا: لماذا تجادلونني في الله الواحد الأحد وتخالفونني فيه، وهو الذي وهبني من الدلائل المنطقية الساطعة ما هداني به إِلى طريق التوحيد (قال أتحاجوني في الله وقد هدان).

يتّضح في هذه الآية بجلاء أنّ قوم إِبراهيم المشركين من عبدة الأصنام كانوا يحاولون جهدهم وبأي ثمن أن يبعدوا إِبراهيم عن عقيدته ويرجعوه إِلى عبادة الأصنام، ولكنّه بكل شجاعة وجرأة ردّ عليهم بالدلائل المنطقية الواضحة.

لا تشير هذه الآيات إِلى المنطق الذي توسل به قوم إِبراهيم لحمله على ترك عقيدته، ولكن يبدو من جواب إِبراهيم أنّهم قد حذروه وهددوه بغضب آلهتهم وعقابها في محاولة لإِرعابه وإِخافته، لأنّنا على أثر ذلك نسمع إِبراهيم يستهين بتهديدهم ويؤكّد لهم أنّه لا يخشى أصنامهم التي لا حول لها ولا قوّة في إيصال أي أذى إليه (ولا أخاف ما أشركتم به...) فما من أحد ولا من شيء بقادر على أن يلحق بي ضرراً إِلاّ إِذا شاء الله: (إِلاّ أن يشاء ربّي شيئاً).

يظهر من هذه الآية أنّ إِبراهيم (عليه السلام) سعى لاتخاذ إِجراء وقائي تجاه حوادث محتملة، فيؤكّد أنّه إِذا أصابه في هذا الصراع شيء فرضاً فلن يكون لذلك أي علاقة بالأصنام، بل يعود إِلى إِرادة الله، لأنّ الصنم الذي لا روح فيه ولا قدرة له على أن ينفع نفسه أو يضرها، لا يتأتى له أن ينفع أو يضرّ غيره.

ويضيف إِلى ذلك مبيناً أنّ ربّه على درجة من سعة العلم بحيث يسع بعلمه كل شيء: (وسع ربّي كل شيء علماً). هذه العبارة في الواقع دليل على العبارة السابقة التي تقول: إِنّ الأصنام لا قدرة لها على النفع والضرر، لأنّها لا تملك العلم ولا المعرفة اللازمين لمن يريد أن ينفع أو يضرّ، إِنّ الله الذي أحاط علمه بكل شيء هو وحده القادر على أن يكون منشأ النفع والضرر، فلم إِذن أخشى غضب غير الله؟! ثمّ يحرك فيهم روح البحث والتفكير فيخاطبهم قائلا: (أفلا تتذكرون).