الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ} (179)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

... {أولئك كالأنعام} يأكلون ويشربون ولا يلتفتون إلى الآخرة، كما تأكل الأنعام، ليس للأنعام همة غير الأكل والشرب والسفاد، فهي لا تسمع، ولا تعقل، كذلك الكفار، ثم قال: {بل هم}، يعني كفار مكة {أضل}، يعني أضل سبيلا، يعني الطريق من الأنعام، ثم قال: {أولئك هم الغافلون}، لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم ولا يوحدونه...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا لجهنم كثيرا من الجنّ والإنس...

وقال جلّ ثناؤه:"وَلَقَدْ ذَرَأْنا لجَهَنّمَ كَثِيرا مِنَ الجِنّ والإنْس" لنفاذ علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربهم.

وأما قوله: "لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بها "فإن معناه: لهؤلاء الذين ذرأهم الله لجهنم من خلقه قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله، ولا يتدبرون بها أدلته على وحدانيته، ولا يعتبرون بها حججه لرسله، فيعلموا توحيد ربهم، ويعرفوا حقيقة نبوّة أنبيائهم، فوصفهم ربنا جلّ ثناؤه بأنهم لا يفقهون بها لإعراضهم عن الحقّ وتركهم تدبر صحة الرشد وبطول الكفر. وكذلك قوله: "ولَهُمْ أعيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بها" معناه: ولهم أعين لا ينظرون بها إلى آيات الله وأدلته، فيتأملوها ويتفكروا فيها، فيعلموا بها صحة ما تدعوهم إليه رسلهم، وفساد ما هم عليه مقيمون من الشرك بالله وتكذيب رسله فوصفهم الله بتركهم إعمالها في الحق بأنهم لا يبصرون بها. وكذلك قوله: "ولَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بها" آيات كتاب الله فيعتبروها ويتفكروا فيها، ولكنهم يعرضون عنها، ويقولون: "لا تَسْمَعُوا لهذا القُرْآنِ والْغوا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُونَ". وذلك نظير وصف الله إياهم في موضع آخر بقوله: "صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقلُونَ" والعرب تقول ذلك للتارك استعمال بعض جوارحه فيما يصلح له... "أولَئِكَ كالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلّ أولئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ":

يعني جلّ ثناؤه بقوله: أُولَئِكَ كالأنْعامِ هؤلاء الذين ذرأهم لجهنم هم كالأنعام، وهي البهائم التي لا تفقه ما يقال لها ولا تفهم ما أبصرته مما يصلح وما لا يصلح ولا تعقل بقلوبها الخير من الشرّ فتميز بينهما، فشبههم الله بها، إذ كانوا لا يتذكرون ما يرون بأبصارهم من حججه، ولا يتفكرون فيما يسمعون من آي كتابه. ثم قال: "بَلْ هُمْ أضَلّ" يقول: هؤلاء الكفرة الذين ذرأهم لجهنم أشدّ ذهابا عن الحقّ وألزم لطريق الباطل من البهائم، لأن البهائم لا اختيار لها ولا تمييز فتختار وتميّز، وإنما هي مسخرة ومع ذلك تهرب من المضارّ وتطلب لأنفسها من الغذاء الأصلح. والذين وصف الله صفتهم في هذه الآية، مع ما أُعطوا من الأفهام والعقول المميزة بين المصالح والمضارّ، تترك ما فيه صلاح دنياها وآخرتها وتطلب ما فيه مضارّها، فالبهائم منها أسد، وهي منها أضلّ، كما وصفها به ربنا جلّ ثناؤه.

وقوله: "أُولَئِكَ هُمُ الغافِلُونَ" يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم، القوم الذين غفلوا، يعني سهوا عن آياتي وحججي، وتركوا تدبرها والاعتبار بها والاستدلال على ما دلت عليه من توحيد ربها، لا البهائم التي قد عرّفها ربها ما سخرها له.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... وقوله تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره، أو معرفة الشيء بمعناه الدال على مدبّره. فهؤلاء الكفرة لم يفقهوا لما لم ينظروا إلى الأشياء لمعناها وحقائقها، إنما نظروا إلى الأشياء لظواهرها. وكذلك قوله تعالى: {ولهم أعين لا يبصرون بها} لما نظروا إلى ظواهرها لم ينظروا إلى معانيها وحقيقتها ليدلّهم على تدبير منشئها وحكمته. وكذلك قوله تعالى: {ولهم آذان لا يسمعون بها} كما كانت للأنعام قلوب وأعين وآذان، لكن لا يفقهون معناها وحقيقتها، وإن كانوا يسمعون النداء، وينظرون إلى ظواهر الأشياء. فعلى ذلك الكفار، وإن كانوا يسمعون، وينظرون ما ذكرنا بعد أن لم يفقهوا معانيها وتدبير مدبّرها، فهم كالأنعام، وأصله: أنهم لم يستعملوا تلك الحواس في ما جعلت لهم لمعرفة حقائق الأشياء وما أدرج فيها من المعاني والحكمة، فصاروا في الحقيقة كمن لا حواس له، أو لم ينتفعوا بها انتفاع من لهم تلك، بل كانوا كمن ليس لهم تلك، لذلك نفى عنهم، والله أعلم...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

...ثمّ ضرب لهم مثلاً في الجهل والاقتصاد على الشرب والأكل وبعدهم من موجبات العمل. وقال عز من قائل {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره ويطيعوه والكافرون لا يعرفون ربهم ولا يطيعونه...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

قوله جلّ ذكره: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ}. أي لا يفقهون معاني الخطاب كما يفهم المُحَدَّثون، وليس لهم تمييز بين خواطر الحق وبين هواجس النفس ووساوس الشيطان، ولهم أعينٌ لا يُبْصِرون بها شواهدَ التوحيد وعلاماتِ اليقين؛ فلا ينظرون إلا من حيث الغفلة، ولا يسمعون إلا دواعي الفتنة، ولا ينخرطون إلا مع من سلك ركوب الشهوة.

{أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}: لأنَّ الأَنْعَامَ قد رُفِعَ عنها التكليفُ، وإن لم يكن لها وِفاقُ الشرع فليس منها أيضاً خلاف الأمر. والأنعامُ لا يَهُمُّها إلا الاعتلاف، وما تدعو الحيلة من مباشرة الجنس، فكذلك مَنْ أُقيم بشواهد نفسه وكان من المربوطين بأحكام النَّفْس،...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس} هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم. وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحقّ، ولا ينظرون بأعينهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار، ولا يسمعون ما يتلى عليهم من آيات الله سماع تدبر، كأنهم عدموا فهم القلوب، وإبصار العيون واستماع الآذان. وجعلهم -لإعراقهم في الكفر وشدّة شكائمهم فيه، وأنه لا يأتي منهم إلاّ أفعال أهل النار- مخلوقين للنار، دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار... ويقال لمن كان عريقاً في بعض الأمور: ما خلق فلان إلاّ لكذا. والمراد وصف حال اليهود في عظم ما أقدموا عليه من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع علمهم أنه النبي الموعود. وأنهم من جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم، كأنهم خلقوا للنار {أُوْلَئِكَ كالأنعام} في عدم الفقه والنظر للاعتبار والاستماع للتدبر، {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبر. {أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون} الكاملون في الغفلة. وقيل: الأنعام تبصر منافعها ومضارّها فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وصفت هذه الصنفة الكافرة المعرضة عن النظر في آيات الله بأن قلوبهم لا تفقه، والفقه: الفهم، وأعينهم لا تبصر، وآذانهم لا تسمع، وليس الغرض من ذلك نفي هذه الإدراكات عن حواسهم جملة وإنما الغرض نفيها في جهة ما كما تقول: فلان أصم عن الخنا.

...فكأن هؤلاء القوم لما لم ينفعهم النظر بالقلب ولا بالعين ولا ما سمعوه من الآيات والمواعظ استوجبوا الوصف بأنهم {لا يفقهون} و {لا يبصرون} و {لا يسمعون} وفسر مجاهد هذا بأن قال: لهم قلوب لا يفقهون بها شيئاً من أمر الآخرة وأعين لا يبصرون بها الهدى وآذان لا يسمعون بها الحق، و {أولئك} إشارة إلى من تقدم ذكره من الكفرة وشبههم بالأنعام في أن الأنعام لا تفقه قلوبهم الأشياء ولا تعقل المقاييس، وكذلك ما تبصره لا يتحصل لها كما يجب، فكذلك هؤلاء ما يبصرونه ويسمعونه لا يتحصل لهم منه علم على ما هو به حين أبصر وسمع، ثم حكم عليهم بأنهم {أضل}، لأن الأنعام تلك هي بنيتها وخلقتها لا تقصر في شيء ولا لها سبيل إلى غير ذلك، وهؤلاء معدون للفهم وقد خلقت لهم قوى يصرفونها وأعطوا طرقاً في النظر فهم بغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضل على هذا، ثم بين بقوله: {أولئك هم الغافلون} الطريق الذي به صاروا أضل من الأنعام وهو الغفلة والتقصير.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

الذرء: فسروه بالخلق، وذرأنا: خلقنا كما قال ابن عباس وغيره وهو تفسير مراد ولكل مادة معنى خاص وقد تقدم معنى مادة خلق وسنعيده. وقال الراغب: الذرء: إظهار الله تعالى ما أبداه يقال ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم وذكر هذه الآية وغيرها وقال: وقرئ تذرؤه الرياح. وفي اللسان بعد تفسير الذرء بالخلق والاستشهاد بالآية: وقال عز وجل: {خلق لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه} [الشورى: 11] قال أبو إسحاق: المعنى يذرؤكم به أي يكثركم بجعله منكم ومن الأنعام أزواجا.. ثم قال: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ وبرأ) وكأن الذرء مختص بخلق الذرية. وفي حديث عمر رضي الله عنه كتب إلى خالد: وأني لأظنكم آل المغيرة ذرء النار- يعني خلقها الذين خلقوا لها، ويروى ذرو النار، يعني الذين يفرقون فيها، من ذرت الريح التراب إذا فرقته اه المراد منه. وفي الأساس: ذرأنا الأرض وذروناها، وذرأ الله الخالق وبرأ الخ.

فإذا تأملت مع هذه الأقوال استعمال القرآن لهذا الحرف في النبات والحيوان والإنسان خاصة علمت من الذرء في أصل اللغة بمعنى بث الأشياء وبذرها وتفريقها وتكثيرها وأن إسنادها إلى الله تعالى بمعنى خلق ذلك أي إيجاده، كما أن أصل معنى الخلق التقدير ويسند إلى الله تعالى بمعنى إيجاد الأشياء بتقدير ونظام لا جزافا، ولهذا عطف الذرء والبرء على الخلق في حديث الدعاء المتقدم.

والجن: الأحياء العاقلة المكلفة الخفية غير المدركة بحواس البشر، ولعل تقديمهم هنا في الذكر على الإنس أنهم أكثر أهل جهنم لأنهم أجدر وأعرق في الصفات الآتية التي هي سبب استحقاقها، وكون خلق أصل نوعهم وأوله من مارج من نار لا يقتضي عدم تألمهم من النار كما قد يتوهم، فإن بين حقيقة نوع البشر وحقيقة الطين الذي خلق أبوهم منه بونا عظيما يقاس عليه الجن.

والقلوب: جمع قلب وهو يطلق في اللغة العربية على المضغة الصنوبرية الشكل التي في الجانب الأيسر من جسد الإنسان إذا كان موضوع الكلام جسد الإنسان ويطلق عند الكلام في نفس الإنسان وإدراكه وعلمه وشعوره وتأتي ذلك في أعماله على الصفة النفسية واللطيفة الروحية التي هي محل الحكم في أنواع المدركات، والشعور الوجداني للمؤلمات والملائمات، أعني أنه يطلق بمعنى العقل وبمعنى الوجدان الروحي، الذي يعبر عنه في عرف هذا العصر بالضمير وهو تعبير صحيح. واشتقاق العقل من عقل البعير لمنعه من السير، وفي معنى القلب اللب الذي هو جوهر الشيء ويكثر في التنزيل. ومنه النهية وجمعها نهى ومنه قوله تعالى في سورة طه: {إن في ذلك لآيات لأولي النهى} [طه: 54].

ومن استعماله في معنى العقل قوله تعالى في سورة الحج: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46] وهي بمعنى الآية التي نفسرها وحذف منها- أو أعين يبصرون بها- استغناء عنه بدلالة ما بعده عليه، والآيات المبصرة بالأعين في السياحة في الأرض أكثر من المسموعة، ومن استعماله في معنى الوجدان النفسي قوله تعالى في سورة الزمر: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة} [الزمر: 45] وقوله في سورة آل عمران والأنفال: {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [الأنفال: 12] وقوله في النازعات: {قلوب يومئذ واجفة} [النازعات: 8] فالاشمئزاز والرعب والوجيف شعور وجداني، لا حكم عقلي، وقد يستعمل في المعنيين معا والأقرب أن منه فقه القلوب هنا فإن الفقه لا يحصل إلا بنوع من الإدراك يصحبه وجدان يبعث على العمل كما يعلم مما نذكره في تحقيق معناه وقد يتعارض مقتضى العقل والوجدان كوجدان اللذة والألم والحب والبغض التي تحمل على أعمال مخالفة لحكم العقل في المنافع والمضار.

وسبب استعمال القلب بمعنى الوجدان الحسي والمعنوي وهو الضمير ما يشعر به المرء من انقباض أو انشراح عند الخوف والاشمئزاز أو السرور والابتهاج، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لوابصة حين جاء يسأله عن البر والإثم وقد علم صلى الله عليه وسلم ذلك قبل السؤال (استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) رواه الإمام أحمد والدارمي بإسناد حسن ومسلم مختصرا. ثم توسعوا في استعماله فاستعملوه بمعنى الإدراك العقلي المؤثر في النفس لا مطلق التصور والتصديق. فهو لا ينافي كون مركزهما الدماغ، على أن الاستعمالات اللغوية، لا يجب أن توافق الحقائق العلمية.

والفقه: قد فسروه بالعلم بالشيء والفهم له- وكذا بالفطنة كما في جل المعاجم أو كلها، وقالوا فقه (كعلم وفهم وزنا ومعنى) وقالوا فقه (ككرم وضخم) فقاهة أي صار الفقه وصفا وسجية له، وقال الراغب الفقه هو التوصل بعلم شاهد إلى علم غائب. قال السيوطي بعد نقله فهو أخص من العلم.

وقال ابن الأثير في النهاية إن اشتقاقه من الشق والفتح. أي هذا معناه الأصلي فهو كالفقء بالهمزة وهي تتعاقب مع الهاء لاتحاد مخرجهما، وذكر الحكيم الترمذي هذا واستدل به على أن الفقه بالشيء هو معرفة باطنه والوصول إلى أعماقه، فمن لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها لا يسمى فقيها. وذكر أصحاب المعاجم أن اسم الفقه غلب على علم فروع الشريعة، أي من العبادات والمعاملات وهو اصطلاح حادث لا يفسر به ما ورد في الكتاب والسنة من هذه المادة والتحقيق أنهم لم يكونوا يسمون كل من يعرف هذه الفروع فقيها كما ترى من عبارة الغزالي الآتية ولغيره ما هو أوضح منها، فقد اشترطوا فيه معرفتها بدلائلها.

وذكر الغزالي في (بيان ما بدل من ألفاظ العلوم) أي لفظ الفقه تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على دقائق عللها... قال: ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب ويدلك عليه قوله تعالى: {ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم} [التوبة: 122] وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه، كما نشاهد الآن من المتجردين له. وقال تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179] وأراد به معاني الإيمان دون الفتوى اه وروي عن أبي حنيفة تفسيره بمعرفة النفس ما لها وما عليها.

وأقول ذكرت هذه المادة في عشرين موضعا من القرآن تسعة عشر منها تدل على أن المراد به نوع خاص من دقة الفهم، والتعمق في العلم، الذي يترتب عليه الانتفاع به، وأظهره نفي الفقه عن الكفار والمنافقين، لأنهم لم يدركوا كنه المراد مما نفى فقهه عنهم، ففاتتهم المنفعة من الفهم الدقيق والعلم المتمكن من النفس ومنه قول قوم نوح لنبيهم {ما نفقه كثيرا مما تقول} [هود: 91] وإن تراءى لغير الفقيه أنه ليس منه، فإنهم كانوا يفهمون كل ما يقول فهما سطحيا ساذجا لأنه يكلمهم بلغتهم، ولكن لم يكونوا يبلغون ما في أعماق بعض الحكم والمواعظ من الغايات البعيدة لعدم تصديقهم إياه، وعدم احترامهم له، ولأنه مخالف لتقاليدهم وأهوائهم الصادة لهم عن التفكير فيه والاعتبار به. وأما الموضع العشرون فهو قوله تعالى حكاية عن نبيه موسى {واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي} [طه: 27، 28] وهو لا ينافي ما ذكر لأن فصاحة لسان الداعية إلى الدين والواعظ المنذر تعين على تدبر ما يقول وفقهه.

إذا تمهد هذا فقوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها} معناه نقسم أننا قد خلقنا وبثثنا في العالم كثيرا من الجن والإنس لأجل سكنى جهنم والمقام فيها، أي كما ذرأنا للجنة مثل ذلك، وهو مقتضى استعداد الفريقين {فمنهم شقي وسعيد} [هود: 105] {فريق في الجنة وفريق في السعير} [الشورى: 7] وبماذا كان هؤلاء معدين لجهنم دون الجنة وما صفاتهم المؤهلة لذلك؟

الجواب: ذلك بأن لهم قلوبا لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها الخ أي لا يفقهون بقلوبهم ما تصلح وتتزكى به أنفسهم من توحيد الله المطهر لها من الخرافات والأوهام، ومن المهانة والصغار، فإن من يعبد الله تعالى وحده عن إيمان ومعرفة تعلو نفسه، وتسمو بمعرفة ربه رب العالمين، ومدبر الكون بتقديره وسننه، فلا تذل نفسه بدعاء غيره، والخوف منه، والرجاء فيه، والاتكال عليه، بل يطلب كل ما يحتاج إليه من ربه وحده، فإن كان مما أقدر الله تعالى عليه خلقه بإعلامهم بأسبابه وتمكينهم منها طلبه بسببه، مراعيا في طلبه ما علمه من مقادير الخلق وسننه، وذلك عين الطلب من الله تعالى ولاسيما في نظر العالم بما ذكر، وإن لم يكن كذلك توجه إلى الله وحده لهدايته إلى العلم بما لا يعلم من سببه، وإقداره على ما لا يقدر عليه من وسائله، أو تسخير من شاء من خلقه لمساعدته عليه، أو إيصاله إليه، ممن أعطاهم من أسبابه ما لم يعطه، كالأطباء لمداواة الأمراض، وأقوياء الأبدان لرفع الأثقال، والعلماء الراسخين لبيان الحقيقة وحل الإشكال... ذلك بأن لهم قلوبا لا يفقهون بها أن ترك الشرور والمنكرات، والحرص على أعمال الخيرات، وإن شئت فقل- واجتناب الرذائل، والتحلي بالفضائل- مناط سعادة الدنيا، وبها مع الإيمان بالله واليوم الآخر يتم الاستعداد لسعادة الآخرة، وأنها لا يمكن أخذ الناس بها فعلا وتركا، وسرا وجهرا، إلا بالتربية الدينية الصحيحة، ولذلك نرى أعلمهم بصفات النفس البشرية وأخلاقها، وقوانين التربية الصورية وآدابها، يجنون على أجسادهم وأنفسهم بالإسراف في الشهوات، والاحتيال على كثرة المقتنيات، والتعالي على الأقران واللذات، فيجترحون فواحش الزنا واللواط، ويقترفون جريمتي الرشوة والقمار، ويستحلون منكرات الحسد والاستكبار، ومنهم أكثر الخونة أعوان الأجانب على استعباد أمتهم، وامتلاك أوطانهم.

ذلك بأن لهم قلوبا لا يفقهون بها معنى الحياة الروحية، واللذات المعنوية، والسعادة الأبدية، {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}.

ذلك بأن لهم قلوبا لا يفقهون بها معنى الآيات الإلهية في الأنفس والآفاق، ولا آياته التي يؤيد بها رسله من علميات وكونيات، وأظهر آياته العلمية الباقية إلى آخر الزمان، ما أودعه منها في كتابه القرآن المنزل على رسوله الأمي صلى الله عليه وسلم كالعلوم الإلهية والتشريعية والأدبية والاجتماعية، وأخبار الغيب الماضية والآتية، فهم ينظرون في ظواهر هذه الآيات، ويتكلفون لها غرائب التأويلات، ولذلك قال تعالى في موضوع الآيات {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرّف الآيات لعلهم يفقهون} [الأنعام: 66] وقال: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} [الأنعام: 98] وقال في عدم فقههم للقرآن {ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنعام: 25] وهذه الآية جمعت حرمانهم لهداية القلوب والأسماع والأبصار فهي شاهد لكل ما جاء في الآية التي نحن بصدد تفسيرها، ومثلها في سورتي الإسراء [الآيتان: 45، 46] والكهف [الآية 55] ولكن الشاهد فيهما على نفي هداية القلوب والأسماع فقط إذ هو المناسب للموضوع.

ذلك بأن لهم قلوبا لا يفقهون بها أسباب النصر على الأعداء من روحية وعقلية، واجتماعية وآلية، التي نصر الله المؤمنين على الكافرين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ثم في عهد الخلفاء الراشدين والمدنيين في الإسلام، وجعل العشرة منهم أهلا لغلب المائة في طور القوة، والمائة أهلا لغلب المائتين في طور الضعف، وعلل ذلك بأن الكفار قوم لا يفقهون [الأنفال: 66] وقال في سورة الحشر {لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} [الحشر: 13] فمن آيات الدين في المؤمن أن يكون أفقه من الكافر بنظم الحرب وأسباب النصر الصورية والمعنوية وأكمل اتصافا بها، وتمتعا بثمرها. فأين هذا الإيمان، من مسلمي هذا الزمان؟

ذلك بأن لهم قلوبا لا يفقهون بها سنن الله تعالى في الاجتماع، وتأثير العقائد الدينية في جمع الكلمة وقوة الجماعات، ولاسيما في عهد النبوة وزمن المعجزات، ولا يفقهون بها إدالة الله لأهل الحق من أهل الباطل، بل يحكمون في ذلك بما يبدو لعقولهم القاصرة من الظواهر، دون ما وراءها من الفقه الباطن، كما حكاه الله تعالى عن المنافقين في آخر سورة التوبة من كونهم لا يزدادون بنزول سور القرآن إلا رجسا أي خبثا ونفاقا، وكونهم يفتنون ويمتحنون مرارا، ولا يفيدهم ذلك توبة ولا ادكارا، حتى إذا ما أنزلت سورة فروا من سماعها فرارا، لا يخافون أن يراهم الله ولكن يخافون أن يراهم المؤمنون {وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف اللّه قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون} [التوبة: 127].

وما حكاه تعالى عنهم في سورتهم من قصر نظرهم وظلمة بصيرتهم إذ توهموا أنهم يقنعون المؤمنين من الأنصار بترك الإنفاق على إخوانهم المهاجرين، وأن ذلك كاف في انفضاضهم من حول الرسول صلى الله عليه وسلم {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتى ينفضّوا وللّه خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون} [المنافقون: 7] أي لا يفقهون سر كفاية الله تعالى رسوله والمؤمنين وكفالته لهم، ولا يفقهون أن سبب إنفاق الأنصار الأبرار رضوان الله تعالى عليهم هو الإيمان الصادق هو أقوى البواعث على بذل المال والنفس في سبيل الله تعالى ابتغاء مرضاته فلا يؤثر فيه قولهم: لا تنفقوا على من عند رسول الله- إلا احتقارهم لهم على نفاقهم، وثباتهم هم على إنفاقهم، -لا يفقهون هذا ولا ذاك لأنهم محرومون من وجدان الإيمان، وإيثار ما عند الله تعالى على جميع ما في هذه الدار الفانية من متاع.

وجملة القول أن نفي الفقاهة عن قلوب المخلوقين لجهنم يشمل كل ما ذكرنا وما في معناه من أمور الدين وأمور الدنيا من حيث علاقتها بالدين وتكميل النفس. ومن العبرة فيه أن الذين يدعون الإيمان في هذا الزمان لهم قلوب لا يفقهون بها ما ذكر، ولا يعلمون أن من فقهه فهو المخلوق للجنة كما يؤخذ من الحكم على أن من لم يفقهه مخلوق لجهنم، بل صار كثير ممن لا يوصفون بإيمان ولا إسلام يفقهون من سنن الله تعالى المشار إلى بعضها في القرآن ما لا يفهمون كأسباب النصر في الحرب ولذلك نراهم ينصرون فيها على هؤلاء. والله تعالى يقول للمؤمنين {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد: 7] ويقول فيهم {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} [الروم: 47] وليس المعنى أنه ينصرهم بخوارق العادات، بل أنهم بمقتضى الإيمان هم الذين يفقهون أسباب النصر المادية والمعنوية، وفقاهة الأمر تقتضي العمل بموجبه، والآيات حجة على المسلمين الجغرافيين بأنهم غير مؤمنين، وأن لدى أعدائهم من العلم وأخلاق الإيمان أكثر مما عندهم، وإن لم يبلغوا بها مرتبة الإيمان الإسلامي الكامل. ثم إنهم بعد ذلك يعدون جهلهم وخذلانهم على الإسلام، ويزعمون أنه هو سبب حرمانهم النصر والترقي في معارج العمران، {ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} حقيقة الإسلام، ولا يدرون ما الكتاب وما الإيمان، فالقرآن حجة عليهم وهم أجهل وأضل من أن يكونوا حجة على القرآن.

وقوله تعالى: {لهم قلوب لا يفقهون بها} أبلغ من أن يقال: ليس لهم قلوب يفقهون بها. لأن إثبات خلق القلوب لهم، هو موضع قيام الحجة عليهم، والتعبير الآخر يصدق بأمرين: بعدم وجود القلوب لهم بالمرة، وبوجود قلوب لا يفقهون بها، وفي الحالة الأولى لا تقوم عليهم حجة لأنهم لم يؤتوا آلة التكليف وهو العقل والوجدان. فلا تكون العبارة نصا في قيام الحجة لاحتمالها عدم التكليف. وإنما قال: (لا يفقهون بها) ولم يقل "لا تفقه "لبيان أنهم هم المؤاخذون بعدم توجيه إرادتهم لفقه الأمور واكتناه الحقائق، ويقال مثل هذا وما قبله فيما بعد وهو:

{ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها} معنى الجملتين يفهم إجمالا مما فسرنا به فقه القلوب تفصيلا، أي ولهم أبصار وأسماع لا يوجهونها إلى التأمل والتفكر فيما يرون من آيات الله في خلقه، وفيما يسمعون من آيات الله المنزلة على رسله ومن أخبار التاريخ الدالة على سننه تعالى في خلقه، فيهتدوا بكل منها إلى ما فيه سعادتهم في دنياهم وآخرتهم. وأما التفصيل فيؤخذ من آيات القرآن الكثيرة المرشدة إلى النظر في آياته تعالى في الأنفس والآفاق وفي تدبر القرآن، وكذا الاستفادة مما يروى ويؤثر من تاريخ البشر، فإن الآذان قد خلقت للإنسان ليستفيد من كل ما يسمع، لا من القرآن فقط، كما أن الأبصار خلقت له ليستفيد من كل ما يبصر، وإنما يكون ذلك على كماله بتوجيه إرادته إلى استعمال كل منهما فيما خلق له. قال تعالى في آخر سورة ألم السجدة {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون * أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون} [السجدة: 26، 27] فهذان مثلان للآيات البصرية والسمعية وأمثالهما كثير، ولكن أكثير الذين يسمون أنفسهم أهل القرآن لا يفقهون شيئا منها، وليس الفقه عندهم إلا تقليد علماء فروع الأحكام العملية فيما كتبوه منها، وقد يكون في حكايتها دون العمل بها!!

وفي معنى ما هنا من صفات أهل جهنم قوله تعالى في الذين علم الله رسوخهم في الكفر وثباتهم عليه من سورة البقرة {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة: 6] فقد بين بضرب من التشبيه البليغ عدم انتفاعهم بمواهب القلوب والأسماع والأبصار التي هي آلات العلم والعرفان، وطرق الهدى والإيمان. وقوله في المنافقين بتشبيه أبلغ {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} [البقرة: 17] ومثله المثل {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} [البقرة: 166] وقوله فيهم من سورة النحل {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون} [النحل: 108] وقوله في سورة الجاثية {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون} [الجاثية: 22] وقوله في سورة الأحقاف بعد ذكر هلاك عاد {ولقد مكّناهم فيما إن مكّناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات اللّه} [الأحقاف: 25] وقوله تعالى في سورة الأنفال {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 19- 22] أي ولو أسمعهم سماع تفقه واعتبار والحال أنه قد علم أنهم لا خير فيهم – لتولوا عن الاستجابة له وهم معرضون.

كرر الرب الحكيم بيان هذه الحقيقة بأساليب مختلفة في البلاغة كالتشبيه والتمثيل والاحتجاج، وبيان السنن الاجتماعية لأجل التأثير والتذكير والإنذار، لمن لم يفقد استعداد الهداية من الكافرين، ولأجل العظة والذكرى للمؤمنين، كما ترى في آيات الأنفال، ومع هذا التكرار البالغ حد الإعجاز في البلاغة نرى أكثر المسلمين أشد إهمالا من غيرهم لاستعمال أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم في النظر في آيات الله في الأنفس والآفاق، لأنهم من أجهل الشعوب بالعلوم التي تعرف بها آياته تعالى في أعضاء الإنسان ومشاعره وقواه العقلية وانفعالاته النفسية وآياته في الجماد والنبات والحيوان، والهواء والماء والبخار، والغازات التي تتركب منها هذه المواد وغيرها، وسنن النور والكهرباء، والهيئة الفلكية، ومن أصاب منهم حظا من هذه العلوم فإنما أخذه عن الإفرنج أو تلاميذهم المتفرنجين فكان مقلدا فيه لهم لا مستقلا، ولم يتجاوز طريقتهم في البحث عن منافع هذه الأشياء لأجل الانتفاع بها في هذه الحياة الدنيا، من غير ملاحظة كونها آيات دالة على أن لها ربا خالقا مدبرا عليما حكيما، مريدا قديرا رحيما، يجب أن يعبد وحده، وأن يخشى ويحب فوق كل أحد، وأن تكون معرفته والزلفى عنده ورجاء لقائه في الآخرة منتهى كل غاية من الحياة.

ولو قصد أولئك العلماء هذا من العلم لأصابوه فإن الأمور بمقاصدها و (إنما الأعمال بالنيات) ولكنهم غفلوا عنه، لتعلق إرادتهم بما دونه، ولهذا كان علمهم على سعته ناقصا أقبح نقص، وكان الانتفاع به مشوبا بضرر عظيم باستعمال ما هداهم إليه العلم من خواص الأشياء في الحرب وآلات القتال، التي تدمر العمران وتسحق الألوف الكثيرة من البشر في وقت قصير- وبهذا يصدق على هؤلاء العلماء الذين استعملوا عقولهم وأبصارهم وأسماعهم في استنباط حقائق العلوم ونفعها المادي العاجل ما يصدق على الذين أهملوا استعمالها، وآثروا الجهل على العلم بها، من قوله عز وجل:

{أولئك كالأنعام بل هم أضل} أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات السلبية كالأنعام من إبل وبقر وغنم في كونهم لا حظ لهم من عقولهم ومشاعرهم إلا استعمالها فيما يتعلق بمعيشتهم في هذه الحياة الدنيا، بل هم أضل سبيلا من الأنعام لأن هذه لا تجني على أنفسها بتجاوز سنن الفطرة وحدود الحاجة الطبيعية في أكلها وشربها ونزواتها، بل تقف فيه عند قدر الحاجة التي تحفظ بها الحياة الشخصية والنوعية، وأما عبيد الشهوات من الناس فهم يسرفون في كل ذلك إسرافا يتولد منه أمراض كثيرة يقل فيهم من يسلم منها كلها، ومن الناس من يجاهد هذه الشهوات جهادا يفرط فيه بحقوق البدن فلا يعطيه الغذاء الكافي، ويقصر في حقوق الزوجية، أو يقطع على نفسه طريقها بالرهبانية، فيجني على شخصه وعلى نوعه بالتفريط كما يجني عليهما عبيد اللذات بالإفراط، دع الجناية على الأخلاق والآداب وعلى الأمم والشعوب، وهداية الإسلام تحظر هذا وذاك وتوجب الأكل من الطيبات والزواج بشرطه وتحرم الإسراف في كل شيء. فلو اهتدى الناس بالقرآن في فقه أسرار الخلق ومنافعه لجمعوا بها بين ارتقائهم في معاشهم، واستعدادهم لمعادهم، واتقوا هذا الإسراف في الشهوات والتنازع عليها الذي أفسد مدنية الإفرنج بما يشكون منه جميع حكمائهم ويجزمون بأنه لابد أن يقضي عليهم.

{أولئك هم الغافلون} أي أولئك الموصوفون بكل ما ذكر هم الغافلون التامّو الغفلة عما فيه صلاحهم وسعادتهم في الحياتين الدنيا والآخرة جميعا أو خيرهما وأكملهما وأدومهما وهي الثانية، فهم طبقات على درجات في الغفلة، الغافلون عن أنفسهم، الغافلون عن استعمال عقولهم ومشاعرهم في أفضل ما خلقت لأجله من معرفة الله تعالى، الغافلون عن آيات الله في الأنفس والآفاق التي تهدي إلى معرفة العبد نفسه وربه، الغافلون عن ضروريات حياتهم الشخصية، وحياتهم القومية، وحياتهم الملية، الذين يعدون كالأنعام من وجه آخر غير الذي تقدم من مجافاة سنن الفطرة، وهو حقارتهم ومهانتهم الشخصية والقومية بين الأمم والدول وتسخير غيرهم لهم كما يسخر الأنعام في سبيل معيشته.

فالقسم الأول من الغافلين هم الذين قال الله تعالى فيهم في أوائل سورة يونس بعد التذكير بخلق السماوات والأرض واستوائه على عرشه وتدبيره أمر العالم، وكونه يبدئ الخلق ثم يعيده- والإعادة في العادة أهون من البدء- والتذكير بآياته في جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل ليعلم منها عدد السنين والحساب- وآياته في اختلاف الليل والنهار وخلق السماوات والأرض- قال بعد ذلك- {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} [يونس: 6، 7] فهذا نص في أن النار مأوى الغافلين عن هذه الآيات أي عن دلالتها على وجود خالقهما ومدبر النظام فيها وكون إعادة خلق البشر وغيرهم في طور آخر لا يتعاصى على قدرته، وهو من مقتضى علمه وحكمته، وعن كون معرفته تعالى أعلى أنواع المعرفة، وكون التنعم الروحاني بلقائه عز وجل في دار الكرامة أسمى أنواع النعيم. وإن كان هؤلاء الغافلون عما ذكر من أكبر العلماء بسنن الله تعالى وحكمه في خلق العالم العلوي والعالم السفلي، بل حجة الله على هؤلاء العلماء أبلغ وأظهر لأنهم لو فطنوا لدلالتها على ما ذكر وفقهوه كما يجب لكانوا أسعد في هذه الحياة الدنيا وأبعد عن شرورها ومفاسدها مما هي عليه الآن، ولاستعدوا بذلك لسعادة الآخرة أكمل استعداد.

كذلك يصدق عليهم قوله تعالى في أول سورة الروم {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 6] فانظر إلى بلاغة القرآن في إعادة ضمير (هم) وهو للتأكيد الذي اقتضاه وصفهم بالعلم الذي من شأن صاحبه عدم الغفلة.

تلك الصفات هي صفات من خلقوا لسكنى الجحيم، وما يقابلها فهو صفات أهل دار النعيم، فأهل النار بنص كتاب الله تعالى هم الأغبياء الجاهلون الغافلون، الذين لا يستعملون عقولهم في فقه حقائق الأمور، ولا يستعملون أسماعهم وأبصارهم في استنباط المعارف واستفادة العلوم، ومعرفة آيات الله الكونية، وفقه آياته التنزيلية، وهما سبب كمال الإيمان، والباعث النفسي على كمال الإسلام والإحسان، ولن ترى في كتب التفاسير الكثيرة من نبه قراء كتاب الله تعالى إلى هذه المعاني الهادية إلى سبيله وصراطه المستقيم، على أن أكثر المسلمين قد اتخذوا كتاب الله مهجورا، فإذا سألت أشهرهم بعلم التفسير عن معنى هذه الآية قال لك إن الله تعالى خلق للنار خلقا هم على الكفر والمعاصي مجبرون، (لهم قلوب ليس من شأنها أن يفهموا بها شيئا مما من شأنه أن يفهم، فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولا أوليا- ولهم أعين لا يبصرون بها شيئا من المبصرات فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق اندراجا أوليا- ولهم آذان لا يسمعون بها شيئا من المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية على طرز ما سلف) اه ملخصا من روح المعاني.

وما زاد عليه فيه فكلام في الإعراب ونكت التعبير وتحقيق لمعنى الجبر عند بعض المتكلمين وهو زبدة ما في كتب التفسير. وأهل النار عندهم من يسمونهم كافرين، وأهل الجنة من يسمونهم مسلمين، وإن كانوا يجهلون حقائق هذه الأمور، ويصرون على الفجور، اتكالا على شفاعة أهل القبور، الذين يدعونهم مع الله أو من دون الله لمهمات الأمور، ويذبحون لهم النسائك وينذرون لهم النذور، وهي عبادات لغير الله يخرجون بها من حظيرة الإيمان، والاحتجاج بالآية على الجبر غفلة وجهل، بل هي كسائر الآيات الدالة على نوط الجزاء بالعمل، ومعناها إن هؤلاء المكلفين من الجن والإنس قد تركوا استعمال عقولهم ومشاعرهم الباطنة والظاهرة في علم الهدى الذي يترتب عليه الأعمال المزكية للنفس فكانوا بذلك أهل جهنم، وليس فيها أنه تعالى ذرأهم لجهنم لذواتهم فإن ذوات الجنسين كلها متشابهة، ولم يقل إنه خلقهم عاجزين عن استعمال تلك القوى في أسباب الهدى بل قال إنهم هم لم يستعملوها في ذلك {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} [الملك: 10، 11] ولكن الجدل في المذاهب هو الذي أوهمهم.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

...

غفلوا عن أنفع الأشياء، غفلوا عن الإيمان باللّه وطاعته وذكره. خلقت لهم الأفئدة والأسماع والأبصار، لتكون عونا لهم على القيام بأوامر اللّه وحقوقه، فاستعانوا بها على ضد هذا المقصود. فهؤلاء حقيقون بأن يكونوا ممن ذرأ اللّه لجهنم وخلقهم لها، فخلقهم للنار، وبأعمال أهلها يعملون. وأما من استعمل هذه الجوارح في عبادة اللّه، وانصبغ قلبه بالإيمان باللّه ومحبته، ولم يغفل عن اللّه، فهؤلاء، أهل الجنة، وبأعمال أهل الجنة يعملون...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن هؤلاء الكثيرين من الجن والإنس مخلوقون لجهنم! وهم مهيأون لها! فما بالهم كذلك؟ هنالك اعتباران:

الاعتبار الأول: أنه مكشوف لعلم الله الأزلي أن هؤلاء الخلق صائرون إلى جهنم.. وهذا لا يحتاج إلى بروز العمل الذي يستحقون به جهنم إلى عالم الواقع الفعلي لهم. فعلم الله سبحانه شامل محيط غير متوقف على زمان ولا على حركة ينشأ بعدها الفعل في عالم العباد الحادث.

والاعتبار الثاني: أن هذا العلم الأزلي -الذي لا يتعلق بزمان ولا حركة في عالم العباد الحادث- ليس هو الذي يدفع هذه الخلائق إلى الضلال الذي تستحق به جهنم. إنما هم كما تنص الآية: (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها)...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

.. والذرْء الخلق وقد تقدم في قوله: {وجعلوا لله مما ذَرَأ من الحرث والأنعام نصيباً} في سورة الأنعام (136). واللام في لجهنم} للتعليل، أي خلقنا كثيراً لأجل جهنم.

وجهنم مستعملة هنا في الأفعال الموجبة لها بعلاقة المسببية، لأنهم خلقوا لأعمال الضلالة المفضية إلى الكون في جهنم، ولم يُخلقوا لأجل جهنم، لأن جهنم لا يقصد إيجاد خلق لتعميرها، وليست اللام لام العاقبة؛ لعدم انطباق حقيقتها عليها، وفي « الكشاف» جعلهم لاغراقهم في الكفر، وأنهم لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار، مخلوقين للنار دلالة على تمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار اه، وهذا يقتضي أن تكون الاستعارة في {ذرأنا} وهو تكلف راعى به قواعد الاعتزال في خَلق أفعال العباد وفي نسبة ذلك إلى الله تعالى.

وتقديم المجرور على المفعول في قوله: {لجهنم كثيراً} ليظهر تعلقه ب {ذرَأنَا}.

ومعنى خلق الكثير لأعمال الشر المفضية إلى النار: أن الله خلق كثيراً فجعل في نفوسهم قُوَى من شأنها إفساد ما أودعه في الناس من استقامة الفطرة المشار إليها في قوله: {وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 172] وهي قوى الشهوة والغضب فخلقها أشد سلطانا على نفوسهم من القوة الفطرية المسماة الحكمة، فجعلت الشهوةُ والغضب المسمّيْن بالهوى تغلب قوة الفطرة، وهي الحكمة والرشاد، فترجح نفوسهم دواعيَ الشهوة والغضب فتتبعها وتُعرض عن الفطرة، فدلائلُ الحق قائمة في نفوسهم، ولكنهم ينصرفون عنها؛ لغلبة الهوى عليهم فَبِحَسَب خلقة نفوسهم غير ذات عزيمة على مقاومة الشهوات: جُعلوا كأنهم خلقوا لجهنم، وكأنهم لم تخلق فيهم دواعي الحق في الفطرة.

والجن خَلْق غير مَرْئي لنا، وظاهر القرآن أنهم عقلاء، وأنهم مطبوعون على ما خلقوا لأجله من نفع أو ضر، وخير أو شر، ومنهم الشياطين، وهذا الخلق لا قبل لنا بتفصيل نظامه ولا كيفيات تلقيه لمراد الله تعالى منه.

وقوله: {لهم قلوب} حال أو صفة لخصوص الإنس، لأنهم الذين لهم: قلوب، وعقول، وعيون وآذان، ولم يعرف للجن مثلُ ذلك، وقد قدم الجن على الإنس في الذكر، ليتعين كون الصفات الواردة من بعدُ صفات للإنس وبقرينة قوله: {أولئك كالأنعام}.

و {القلوب} اسم لموقع العُقول في اللغة العربية، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} في سورة البقرة (7).

والفقه تقدم عند قوله: {لعلهم يفقهون} في سورة الأنعام (65).

ومعنى نفي الفقه والإبصار والسمع عن آلالتها الكائنة فيهم أنهم عطلوا أعمالها بترك استعمالها في أهم ما تصلح له: وهو معرفة ما يحصل به الخير الأبدي، ويدفع به الضر الأبدي، لأن الآت الإدراك والعلم خلقها الله لتحصيل المنافع ودفع المضار، فلما لم يستعملوها في جلب أفضل المنافع ودفع أكبر المضار، نفي عنهم عملها على وجه العموم للمبالغة، لأن الفعل في حيز النفي يعم، مثل النكرة، فهذا عام أريد به الخصوص للمبالغة لعدم الاعتداد بما يعلمون من غير هذا، فالنفي إستعارة بتشبيه بعض الموجود بالمعدوم كله.

وليس في تقديم الأعين على الآذان مخالفة لما جرى عليه اصطلاح القرآن من تقديم السمع على البصر لتشريف السمع يتلقى ما أمر الله به كما تقدم عند قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ} [البقرة: 7] لأن الترتيب في آية سورة الأعراف هذه سلك طريق الترقي من القلوب التي هي مقر المدركات إلى الآت الإدراك الأعين ثم الآذان فللآذان المرتبة الأولى في الارتقاء.

وجملة: {أولئك كالأنعام} مستأنفة لابتداء كلام بتفظيع حالهم فجعل ابتداء كلام ليكون أدعى للسامعين. وعرّفوا بالإشارة لزيادة تمييزهم بتلك الصفات، وللتنبيه على أنهم بسببها أحرياء بما سيذكر من تسويتهم بالأنعام أو جعلهم أضل من الأنعام، وتشبيههم بالأنعام في عدم الانتفاع بما ينتفع به العقلاء فكأن قلوبهم وأعينهم وآذانهم، قلوب الأنعام وأعينها وآذانها، في أنها لا تقيس الأشياء على أمثالها، ولا تنتفع ببعض للدلائل العقلية فلا تعرف كثيراً مما يفضي بها إلى سوء العاقبة.

و (بل) في قوله: {بل هم أضل} للانتقال والترقي في التشبيه في الضلال وعدم الانتفاع بما يمكن الانتفاع به، ولما كان وجه الشبه المستفاد من قوله: {كالأنعام} يؤول إلى معنى الضلال، كان الارتقاء في التشبيه بطريقة اسم التفضيل في الضلال.

ووجه كونهم أضل من الأنعام: أن الأنعام لا يبلغ بها ضلالها إلى إيقاعها في مهاوي الشقاء الأبدي، لأن لها إلهاماً تتفصى به عن المهالك كالتردي من الجبال والسقوط في الهوّات، هذا إذا حمل التفضيل في الضلال على التفضيل في جنسه وهو الأظهر، وإن حمل على التفضيل في كيفية الضلال ومقارناته كان وجهه أن الأنعام قد خلق إدراكها محدوداً لا يتجاوز ما خلقت لأجله، فنقصان انتفاعها بمشاعرها ليس عن تقصير منها، فلا تكون بمحل الملامة، وأما أهل الضلالة فإنهم حجروا أنفسهم عن مدركاتهم، بتقصير منهم وإعراض عن النظر والاستدلال فهم أضل سبيلاً من الأنعام.

وجملة: {أولئك هم الغافلون} تعليل لكونهم أضل من الأنعام وهو بلوغهم حد النهاية في الغفلة، وبلوغهم هذا الحد أفيد بصيغة القصر الادعائي إذ ادُّعي انحصار صفة الغفلة فيهم بحيث لا يوجد غافل غيرهم لعدم الاعتداد بغفلة غيرهم كل غفلة في جانب غفلتهم كلا غفلة، لأن غفلة هؤلاء تعلقت بأجدر الأشياء بأن لا يغفل عنه، وهو ما تقضي الغفلة عنه بالغافل إلى الشقاء الأبدي، فهي غفلة لا تدارك منها، وعثرة لا لعى لها.

والغفلة عدم الشعور بما يحق الشعور به، وأطلق على ضلالهم لفظ الغفلة بناء على تشبيه الإيمان بأنه أمر بيّن واضح يعد عدم الشعور به غفلة، ففي قوله: {هم الغافلون} استعارة مكنية ضمنية، والغفلة من روادف المشبه به، وفي وصف {الغافلون} استعارة مصرحة بأنهم جاهلون أو منكرون.

وقد وقع التدرج في وصفهم بهذه الأوصاف من نفي انتفاعهم، بمداركهم ثم تشبيههم بالأنعام، ثم الترقي إلى أنهم أضل من الأنعام، ثم قصر الغفلة عليهم.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

وكلمة كثير لا تعني أن المقابل قليل، فقد يكون الشيء كثيرا ومقابله أيضا كثير، والحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} (من الآية 18 سورة الحج). إذن كل الكائنات من جمادات ونباتات وحيوانات تسجد لله سبحانه وتسبيحه، ولكن الأمر انقسم عند الإنسان فقط، حيث يقول الحق في ذات الآية {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} (من الآية 18 سورة الحج). أي أن هناك كثير يسجدون ويخضعون لله. ومقابل ذلك كثير كفروا ولم يسجدوا وحق عليهم العذاب. وإذا كان المولى تبارك وتعالى يقول: {وَلَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}. فقد يثور في الأذهان سؤال هو: هل أنت خالقهم يا رب لجهنم. ماذا يستطيعون إذن؟ ولا شيء في قدرتهم ما دمت قد خلقتهم لذلك؟. ونقول: لا. ولنلفت الأنظار إلى أن في اللغة ما يسمى "لام العاقبة"، وهو ما يؤول إليه الأمر بصورة تختلف عما كنت تقصده وتريده؛ لأن القصد في الخلق هو العبادة مصداقا لقوله الحق تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (سورة الذاريات). ومعنى العبادة طاعة الأمر، والكف عن المنهي عنه، والمأمور صالح أن يفعل وألا يفعل، فالعبادة إذن تستدعي وجود طائع ووجود عاص،..

والحق سبحانه لم يخلق البشر من أجل الجنة والنار. لكنه عز وجل خلقهم ليعبدوه، فمنهم من آمن وأصلح فدخل الجنة، ومنهم من عصى فدخل النار وهذا اسمه "لام العاقبة"، أي ما صار إليه الأمر غير مرادك منه، ومثال ذلك حينما قال الله سبحانه لأم موسى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} (من الآية 7 ومن الآية 8 سورة القصص). هل التقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا؟ لا، لأن زوجة فرعون قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} (من الآية 9 سورة القصص). فقد كانت علة الالتقاط إذن هي أن يكون قرة عين، لكنه صار عدوا في النهاية، وهذا اسمه كما قلت لام العاقبة. وهكذا لا تكون علة الخلق أن يدخل كثير من الجن والإنس النار، في قوله الحق: {وَلَقَدْ ذَرَأنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}...

ثم يأتي الحق بالحيثيات لذلك وهي أولا: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} (من الآية 179 سورة الأعراف). وثانيا: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} (من الآية 179 سورة الأعراف). وثالثا: {وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} (من الآية 179 سورة الأعراف). ولقائل أن يقول: إن كانت قلوبهم مخلوقة بحيث لا تفقه فما ذنبهم هم؟. ومادامت عيونهم مخلوقة بحيث لا ترى ما ذنبهم؟ وكذلك ما دامت الآذان مخلوقة بحيث لا تسمع فلماذا يعاقبون؟. ونقول: لا، لم يخلقهم الله للعذاب، لكنهم انشغلوا بما استحوذ عليهم من شهواتهم، وصارت عقولهم لا تفكر في شيء غيره وتخطط فقط للحصول على الشهوة، وكذلك العيون لا ترى إلا ما يستهويها، وكذلك الآذان. وكل منهم يرى غير مراد الرؤية، ويسمع غير مراد السمع...

{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (من الآية 179 سورة الأعراف). ولا تظنن أن الضلال لعدم وجود منهج، أو لعدم مذَكِّر، أو لعدم وجود مُنْذر أو مُبَشِّر. بل هي غفلة منهم، فالأمور واضحة أمامهم، لكنهم يهملونها ويَغْفَلون عنها...

.