الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡأَحۡبَارِ وَٱلرُّهۡبَانِ لَيَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡبَٰطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۗ وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ} (34)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{يا أيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الأحبار}، يعني اليهود، {والرهبان}، يعني مجتهد النصارى {ليأكلون أموال الناس بالباطل} يعني أهل ملتهم، وذلك أنهم كانت لهم مأكلة كل عام من سفلتهم من الطعام والثمار على تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولو أنهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لذهبت تلك المأكلة، ثم قال: {ويصدون عن سبيل الله} يقول: يمنعون أهل دينهم عن دين الإسلام. {والذين يكنزون الذهب والفضة}، يعني بالكنز منع الزكاة، {ولا ينفقونها} يعني الكنوز {في سبيل الله} يعني في طاعة الله، {فبشرهم بعذاب أليم} يعني وجيع في الآخرة...

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

- يحيى: عن مالك، عن عبد الله بن دينار، أنه قال: سمعت عبد الله بن عمر وهو يسأل عن الكنز ما هو؟ فقال: هو المال الذي لا تؤدّى منه الزكاة. 469- السيوطي: أخرج مالك، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله وأقرّوا بوحدانية ربهم، إن كثيرا من العلماء والقرّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى "يَأْكُلُونَ أموَالَ النّاسِ بالباطِلِ "يقول: يأخذون الرُّشى في أحكامهم، ويحرّفون كتاب الله، ويكتبون بأيديهم كتباً ثم يقولون: هذه من عند الله، ويأخذون بها ثمنا قليلاً من سِفْلَتِهم. "وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ"، يقول: ويمنعون من أراد الدخول في الإسلام الدخول فيه بنهيهم إيّاهم عنه...

{وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالفِضّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ}.

يقول تعالى ذكره: "إنّ كَثِيرا مِنَ الأحْبارِ وَالرّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أمْوَالَ النّاسِ بالباطِلِ"، ويأكلها أيضا معهم "الّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالفِضّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ"، يقول: بشر الكثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، بعذاب أليم لهم يوم القيامة مُوجع من الله.

واختلف أهل العلم في معنى الكنز؛ فقال بعضهم: هو كلّ مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤدّ زكاته. قالوا: وعنى بقوله:"ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ"، ولا يؤدون زكاتها...

وقال آخرون: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم، فهو كنز، أدّيت منه الزكاة أو لم تؤدّ...

وقال آخرون: الكنز كلّ ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه...

وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، القول الذي ذُكِر عن ابن عمر: من أن كلّ مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وأن كلّ ما لم تؤدّ زكاته فصاحبه معاقب مستحقّ وعيد الله، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قل، إذا كان مما يجب فيه الزكاة.

وذلك أن الله أوجب في خمس أواق من الوَرِق على لسان رسوله رُبع عُشرها، وفي عشرين مثقالاً من الذهب مثل ذلك ربع عشرها. فإذ كان ذلك فرض الله في الذهب والفضة على لسان رسوله، فمعلوم أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوفَ ألوفٍ لو كان، وإن أدّيت زكاته من الكنوز التي أوعد الله أهلها عليها العقاب، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من ربع العشر. لأن ما كان فرضا إخراج جميعه من المال وحرامٌ اتخاذه، فزكاته الخروج من جميعه إلى أهله لا ربع عشره، وذلك مثل المال المغصوب الذي هو حرام على الغاصب إمساكه وفرضٌ عليه إخراجه من يده إلى يده، فالتطهر منه: ردّه إلى صاحبه. فلو كان ما زاد من المال على أربعة آلاف درهم، أو ما فضل عن حاجة ربه التي لا بد منها، مما يستحق صاحبه باقتنائه إذا أدّى إلى أهل السهمان حقوقهم منها من الصدقة وعيد الله، لم يكن اللازم ربه فيه ربع عشره، بل كان اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله وصرفه فيما يجب عليه صرفه، كالذي ذكرنا من أن الواجب على غاصبِ رجلٍ مالَه ردُّه على ربه. وبعد، فإن فيما: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن ثور، قال: قال معمر: أخبرني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ما مِنْ رَجُلٍ لا يُؤَدّي زَكَاةَ مالِهِ إلاّ جُعِلَ يَوْمَ القِيَامَةِ صفَائِحَ مِنْ نارٍ يُكْوَى بِها جَنْبُهُ وجَبْهَتُهُ وظَهْرُهُ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألُفَ سَنَةٍ، حتى يُقْضَى بينَ النّاسِ، ثُمّ يَرَى سَبِيلَه، وَإنْ كانَتْ إبِلاً إلاّ بُطِحَ لَهَا بِقاعٍ قَرْقَرٍ، تَطَؤُهُ بأخْفَافِها» حسبته قال: «وَتَعَضّهُ بأفْوَاهِها، يَرِدُ أُولاها على أُخْرَاها، حتى يُقْضَى بينَ النّاسِ ثُمّ يَرَى سَبِيلَهُ. وَإنْ كانَتْ غَنَما فَمِثْلُ ذلكَ، إلا أنّها تَنْطَحُهُ بقُرُونِها، وَتَطَؤُهُ بأظْلاَفِها».

وفي ذلك نظائر من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها، الدلالة الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تؤدّ الوظائف المفروضة فيها لأهلها من الصدقة، لا على اقتنائها واكتنازها.

وفيما بينا من ذلك البيان الواضح على أن الآية لخاصّ كما قال ابن عباس...: "وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ" يقول: هم أهل الكتاب، وقال: هي خاصة وعامة.

يعني بقوله: "هي خاصة وعامة"، هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤدّ زكاة ماله منهم، وعامة في أهل الكتاب، لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا...

وإنما قلنا ذلك على الخصوص، لأن الكنز في كلام العرب: كلّ شيء مجموع بعضُه على بعض، في بطن الأرض كان أو على ظهرها... وإذا كان ذلك معنى الكنز عندهم، وكان قوله:"وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الذّهَبَ والفضّةَ"، معناه: والذين يجمعون الذهب والفضة بعضَها إلى بعض، ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ، وهو عامّ في التلاوة، لم يكن في الآية بيان كم ذلك القدر من الذهب والفضة الذي إذا جمع بعضه إلى بعض، استحقّ الوعيد كان معلوما أن خصوص ذلك إنما أدرك، لوقْف الرسول عليه، وذلك كما بينا من أنه المال الذي لم يؤدّ حقّ الله منه من الزكاة، دون غيره لما قد أوضحنا من الدلالة على صحته.

وقد كان بعض الصحابة يقول: هي عامة في كلّ كنز، غير أنها خاصة في أهل الكتاب وإياهم عنى الله بها... فإن قال قائل: فكيف قيل: "ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ"، فأخرجت" الهاء "و" الألف "مخرج الكناية عن أحد النوعين؟

قيل: يحتمل ذلك وجهين: أحدهما أن يكون الذهب والفضة مرادا بها الكنوز، كأنه قيل: وَالّذِينَ يُكْنِزُونَ الكنوز ولاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّهِ، لأن الذهب والفضة هي" الكنوز "في هذا الموضع. والاَخر أن يكون استغنى بالخبر عن إحداهما في عائد ذكرهما من الخبر عن الأخرى، لدلالة الكلام على الخبر عن الأخرى مثل الخبر عنها. وذلك كثير موجود في كلام العرب وأشعارها...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قوله تعالى: (لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ) لأنهم كانوا يأكلون أموالهم بما يحرفون كتاب الله، ويبذلونه كقوله: (يحرفون الكلم عن مواضعه) [النساء: 46] وقوله: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب) الآية [آل عمران: 78] فهم إنما حرفوا ذلك وبدلوه، لتسلم لهم تلك الأموال، فذلك أكل بباطل لأنهم خافوا ذهاب تلك المنافع والأموال إذا أسلموا. فيجوز أن يكون إنما سماهم أربابا في الآية الأولى لما جعلوا أموالهم أموالا لأنفسهم وأنفسهم عبيدا لهم، فهم كالأرباب لهم. وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يحتمل أن يكون هذا صلة ما قال، (ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله) أي أخذوا أموالهم لصد الناس عن سبيل الله وكنزوها، ولم ينفقوها في سبيل الله، إنما أنفقوها لصد الناس عن سبيله... ومن أصحابها من استدل بلزوم ضم الفضة والذهب بعضه إلى بعض في الزكاة في هذه الآية لأنه ذكر كنز الذهب والفضة جميعا، والحق الوعيد بترك الإنفاق من الفضة بقوله: (ولا ينفقونها في سبيل الله) فلولا أن الضم واجب، أو يكون المؤدى عن أحدهما مؤدى عن الآخر، وإلا لم يكن لذلك معنى...

ثم في متعارف الناس أنهم يؤدون من الفضة عن الذهب لأن الذهب أعز عندهم، والفضة دونه. ثم إن كانت الآية في الكفرة فهو في القبول كقوله (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) [التوبة: 5]، وقوله (الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون) [فصلت: 7] وذلك على القول لا في الأداء نفسه...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

أكل المال بالباطل هو تملكه من الجهة المحظورة؛ ورُوي عن الحسن أنهم كانوا يأخذون الرَّشَى في الحكم. وذكر الأكل والمراد سائر وجوه المنافع والتصرف، إذْ كان أعظم منافعه الأكل والشرب. وهو كقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنكُمْ بِالبَاطِلِ} [النساء: 29] والمراد سائر وجوه المنافع، وكقوله تعالى: {ولا تَأْكُلُوا أموالهم} [النساء: 2] و {إن الذين يأكلون أموال اليتامى} [النساء: 10]...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

هذا خطاب من الله تعالى للمؤمنين يعلمهم أن كثيرا من أحبار اليهود وعلمائهم ورؤسائهم، وكثيرا من رهبان النصارى ليأكلون أموال الناس بالباطل من حيث كانوا يأخذون الرشا في الاحكام -في قول اسحاق والجبائي -، وأكل المال بالباطل تملكه من الجهات التي يحرم منها أخذه. وقيل في معنى "ليأكلون أموال الناس بالباطل "وجهان: أحدهما- أنهم يتملكون. فوضع يأكلون موضعه لأن الأكل غرضهم. والثاني -يأكلون أموال الناس من الطعام، فكأنهم يأكلون الأموال، لأنها من المأكول...

وقوله "ويصدون عن سبيل الله" معناه يمنعون غيرهم من اتباع الإسلام الذي هو سبيل الله التي دعاهم إلى سلوكها. والغرض بذلك التحذير من اتباعهم والتهوين على المسلمين مخالفتهم. وقوله "والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله" معناه الذين يخبؤون أموالهم من غير ان يخرجوا زكاتها، لانهم لو اخرجوا زكاتها وكنزوا ما بقي لم يكونوا ملومين بلا خلاف. وقوله "فبشرهم بعذاب اليم" قيل في معناه قولان: أحدهما- إن أصل البشرى مما يظهر في بشرة الوجه من فرح أو غم، إلا أنه كثر استعماله في الفرح. والثاني -أنه وضع الوعيد بالعذاب الأليم موضع البشرى بالنعيم...

جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :

- مالك، عن عبد الله بن دينار؛ أنه قال: سمعت عبد الله بن عمر وهو يسأل عن الكنز ما هو؟ هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة. قال أبو عمر: سؤال السائل لعبد الله بن عمر عن الكنز ما هو؟ إنما كان سؤالا عن معنى قول الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}. وكان أبو ذر يقول: بشر أصحاب الكنوز بكي في الجباه، وكي في الجنوب، وكي في الظهور. واختلف العلماء في الكنز المذكور في هذه الآية ومعناه، فجمهورهم على ما قاله ابن عمر، وعليه جماعة فقهاء الأمصار. وأما الكنز في كلام العرب فهو المال المجتمع المخزون فوق الأرض كان أو تحتها. هذا معنى ما ذكره صاحب "العين "وغيره، ولكن الاسم الشرعي قاض على الاسم اللغوي. (س: 9/119-122)...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

العالِمُ إذا ارتفق بأموال الناس عِوَضاً عما يُعلِّمُهم زالَتْ بركاتُ عِلْمِه، ولم يَطِبْ في طريق الزهد مَطْعَمُه. والعارِفُ إذا انتفع بخدمة المريد، أو ارتفق بشيءٍ من أحواله وأعماله زالت آثارُ هِمَّتِه، ولم تُجْدِ في حكْمِ التوحيد حالتُه. قوله جلّ ذكره: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. لهم في الآجل عقوبةٌ. والذين لا يؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فلهم في العاجل حجبة. وقليلٌ مِنْ عبادهِ مَنْ سَلِمَ من الحجاب في مُحتَضَرِه والعقاب في مُنْتَظرِه...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

قال أهل التفسير: إن المراد منه أخذ الرشاء في الأحكام والمآكل التي كانت لعلمائهم على سفلتهم، (ويصدون عن سبيل الله) معناه: أنهم يمنعون الناس عن الإسلام، وقوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) الكنز هو المال المجموع، واختلف أهل العلم في من نزلت هذه الآية، قال بعضهم: نزلت في أهل الكتاب، والأكثرون أنها نزلت في الكل. واختلفوا في الكنز، روي عن ابن عمر، وجماعة: أن الكنز كل مال لم تؤد زكاته، وأما الذي أديت زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونا. وعن علي -رضي الله عنه- أنه قال: أربعة آلاف درهم نفقة وما فوقها كنز. وقال بعضهم: ما فضل عن الحاجة فهو كنز. وقوله: (ولا ينفقونها في سبيل الله) فإن سأل سائل وقال: إنه تقدم ذكر الذهب والفضة جميعا، فكيف قال: ولا ينفقونها، ولم يقل: ولا ينفقونهما؟ الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن المعنى: ولا ينفقون الكنوز في سبيل الله. والثاني: أن معنى الآية: يكنزون الذهب ولا ينفقونه، ويكنزون الفضة ولا ينفقونها، فاكتفى بأحدهما عن الآخر قوله: (فبشرهم بعذاب أليم) معناه: ضع هذا الوعيد موضع البشارة، وإلا فالوعيد لا يكون بشارة حقيقة.

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

ذكر الأصم: أنه راجع إلى أهل الكتاب، لأنه مذكور بعد قوله: {إنَّ كَثِيراً مِنَ الأحبَارِ والرُّهبَان لَيَأْكُلُونَ أَموَالَ النّاسِ بِالبَاطِلِ}، وغيره حمل ذلك على كل كافر، وذلك مدلول اللفظ، ومعطوف على المتقدم باللفظ العام، لأنه وصف لما تقدم، ولأنه مستقل، وإن لم يتعلق بما تقدم. وقد روي عن أبي ذر رضي الله عنه أن قائلاً قال له وهو بالربذة: ما أنزلك هذا المنزل؟ فقال: كنا بالشام فقرأت هذه الآية، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب لا فينا، فقلت: لا، بل فينا وفيهم. وكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر يطعن فينا ويقول كذا، فكتب إليّ عثمان بالإقبال إليه، فأقبلت، فلما قدمت المدينة، كثُرَ علي الناس حتى كأنهم لم يروني فآذوني، فشكوت إلى عثمان فقال: تنح قريباً، فتنحيت إلى منزلي هذا. وأكثر العلماء على أن الوعيد على الكنز على من يمنع حق الله تعالى فيه، فما لم يؤد حق الله تعالى منه، فهو كنز كان على وجه الأرض أو تحته. وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال:"ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلا جيء يوم القيامة فيحمى ويكوى به جنبه وجبينه"، وقال: "من له مال فأدى زكاته فقد سلم". ولا خلاف في جواز دفن المال المزكى أو غير المزكى إذا أدى زكاته من موضع آخر. وقد روي عن بعض السلف، أن المراد بالآية العدول عن الإكثار وجمع المال، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء كنز أحدكم شجاع أقرع فإذا رأى صاحبه هرب منه فيطلبه فيقول: أنا كنزك". وعلى الجملة، المعقول من الآية تعليق الوعيد على من كنز ولم ينفق في سبيل الله، ولم يتعرض للواجب وغيره، غير أن صفة الكنز لا ينبغي أن تكون معتبرة، فإن من لم يكنز ومنع الإنفاق في سبيل الله، فلا بد أن يكون كذلك، فلا أثر لصفة الكنز، وليس في الآية بيان الواجب من غيره، ولكن من المعقول أن صورة الكنز كما لا تعتبر، فالامتناع من أداء ما ليس بواجب لا يعتبر أيضاً، وإذا لم يعتبر هذا ولا ذاك جملة، فليس إلا أن المراد منع الواجب من الزكاة وغيره، إلا أن الذي يخبأ تحت الأرض هو الذي يمنع إنفاقه في الواجبات عرفاً، فلذلك خص الوعيد به. وإذا كان المقصود من ذكر الكنز أن صاحبه يمسكه ولا ينفق منه في سبيل الله تعالى، فظن قوم أن من صاغ الدراهم حلياً ولا يزكي منه فهو كانز. وهذا استدلال بطريق المعنى، وإلا فاللفظ من حيث الظاهر لا يدل عليه أصلاً. ويحتمل أيضاً من وجه آخر، وهو أن هذه الآية إنما نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين، وقصور يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون والحوائج هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال زائد على قدر الحاجة، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت، وإلا فقد ثبت بالنقل المستفيض عن النبي عليه الصلاة والسلام إيجابه في مائتي درهم، خمسة دراهم، وفي عشرين دينار، نصف دينار، ولم يوجب الكل، واعتبر مدة الاستنماء، وكان في الصحابة ذوو ثروة ونعمة وأموال جمة، مثل عثمان وعبد الرحمن بن عوف. أو يحتمل أن قوله: {ولا ينفقونها} أي لا ينفقون منها تحذف من، وبينه في مواضع أخر من قوله تعالى: {خُذْ أَمَوالِهِم صَدَقَةً}. وعن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {والّذِينَ يَكنِزُونَ الذهَبَ والفضَّةَ}، فكبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام:"إن الله تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم"، فكبر عمر. فأبان بهذا الحديث أن المراد به إنفاق بعض المال لا جميعه، وأن قوله {الّذِينَ يَكنِزُونَ} المراد به منع الزكاة. وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلاّ جيء به يوم القيامة وبكنزه فيكوى به جنبه وجبينه حتى يحكم الله تعالى بين عباده". فأخبر في هذا الحديث، أن الحق الواجب في الكنز هو الزكاة دون غيرهما، إلى قوله تعالى: {فَتُكوَى بِهَا جِبَاهُهُم وَجُنُوبُهُم وَظُهُورُهُم هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُم}، يعني أنه لم يؤدوا زكاته. وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الذي لا يؤدي زكاته يمثل له ماله يوم القيامة شجاع أقرع له زبيبتان تلزمه أو يطوقه، فيقول أنا كنزك أنا كنزك"، فأخبر أن المال الذي لا يزكى هو الكنز، فبان به أن الكنز اسم لما لا يؤدى زكاته في عرف الشرع، والوعيد انصرف إليه، فاعلمه.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

- شدد الوعيد على المقصرين في الزكاة فقال: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} ومعنى الإنفاق في سبيل الله إخراج حق الزكاة. قال الأحنف بن قيس: كنت في نفر من قريش فمر أبو ذر فقال: بشر الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكي في أقفائهم يخرج من جباهم. وفي رواية: أنه يوضع على حلمة ثدي أحدهم فيخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل، وقال أبو ذر: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: (هم الأخسرون ورب الكعبة، قفلت: ومن هم؟ قال: الأكثرون أموالا، إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس). [الإحياء: 1/245].

- في حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} قال صلى الله عليه وسلم: (تبا للدنيا تبا للدينار والدرهم) فقلنا: يا رسول الله نهانا الله عن كنز الذهب والفضة، فأي شيء ندخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (تبا للدنيا تبا للدينار والدرهم) فقلنا: يا رسول الله نهانا الله عن كنز الذهب والفضة، فأي شيء ندخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ليتخذ أحدكم لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعينه على أمر آخرته). [الإحياء: 4/237].

معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :

ويكتبون بأيديهم كتبا يقولون: هذه من عند الله، ويأخذون بها ثمنا قليلا من سفلتهم وهي المآكل التي يصيبونها منهم على تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم، يخافون لو صدقوهم لذهبت عنهم تلك المآكل...

قوله عز وجل: {ولا ينفقونها في سبيل الله}، ولم يقل: ولا ينفقونهما، وقد ذكر الذهب والفضة جميعا، قيل: أراد الكنوز وأعيان الذهب والفضة. وقيل: رد الكناية إلى الفضة لأنها أعم، كما قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة} [البقرة-45]، رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم، وكقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها} [الجمعة-11] رد الكناية إلى التجارة لأنها أعم. قوله تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم}. أي: أنذرهم...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

معنى أكل الأموال على وجهين: إما أن يستعار الأكل للأخذ. ألا ترى إلى قولهم: أخد الطعام وتناوله. وإمّا على أن الأحوال يؤكل بها فهي سبب الأكل.ومعنى أكلهم بالباطل: أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام، والتخفيف والمسامحة في الشرائع {والذين يَكْنِزُونَ} يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم: أخذ البراطيل، وكنز الأموال، والضنّ بها عن الإنفاق في سبيل الخير. ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى، تغليظاً ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي منكم طيب ماله: سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم. وقيل: نسخت الزكاة آية الكنز. وقيل: هي ثابتة، وإنما عني بترك الإنفاق في سبيل الله منع الزكاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:"ما أدّى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً". وعن عمر رضي الله عنه أنّ رجلاً سأله عن أرض له باعها فقال: أحرز مالك الذي أخذت، احفر له تحت فراش امرأتك. قال: أليس بكنز؟ قال: ما أدّى زكاته فليس بكنز. وعن [ابن] عمر رضي الله عنهما: كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم يؤدّ زكاته فهو الذي ذكر الله تعالى وإن كان على ظهر الأرض فإن قلت: فما تصنع بما روى سالم بن [أبي] الجعد رضي الله عنهم أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تباً للذهب تباً للفضة "قالها ثلاثاً. فقالوا له: أيّ مال نتخذ؟ قال:"لساناً ذاكراً، وقلباً خاشعاً، وزوجة تعين أحدكم على دينه"، وبقوله عليه الصلاة والسلام: "من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها"، وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كية» وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال: «كيتان» قلت: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأمّا بعد فرض الزكاة، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن له فيه، ويؤدّي عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه. ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وعبيد الله رضي الله عنهم يقتنون ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل، وإلاّ دخل في الورع والزهد في الدنيا، والاقتناء مباح موسع لا يذمّ صاحبه، ولكل شيء حدّ. وما روي عن علي رضي الله عنه: أربعة آلاف فما دونها نفقة، فما زاد فهو كنز. كلام في الأفضل. فإن قلت: لم قيل: ولا ينفقونها، وقد ذكر شيئان؟ قلت: ذهاباً بالضمير إلى المعنى دون اللفظ: لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم، فهو كقوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} وقيل: ذهب به إلى الكنوز، وقيل: إلى الأموال. وقيل: معناه ولا ينفقونها والذهب، فإن قلت: لم خصّا بالذكر من بين سائر الأموال؟ قلت: لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلاّ من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلاً على ما سواهما.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك، واللام في {ليأكلون} لام التأكيد، وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضاً باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أي النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه، وقيل كانوا يأخذون منهم من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع، وقيل كانوا يرتشون في الأحكام، ونحو ذلك. قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى {بالباطل}، يعم هذا كله،...

و {سبيل الله} الإسلام وشريعة محمد عليه السلام، ويحتمل أن يريد ويصدون عن سبيل الله في أكلهم الأموال بالباطل، والأول أرجح... و {يكنزون} معناه يجمعون ويحفظون في الأوعية،... أي محفوظ في أوعيته، وليس من شروط الكنز الدفن لكن كثر في حفظه المال أن يدفنوه حتى تورق في المدفون اسم الكنز، ومن اللفظة قولهم رجل مكتنز الخلق أي مجتمع،... قال القاضي أبو محمد: كان مضمن الآية لا تجمعوا مالاً فتعذبوا فنسخه التقرير الذي في قوله {خذ من أموالهم} [التوبة: 103]...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}:

فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَكْلُهَا بِالرُّشَا، وَهِيَ كُلُّ هَدِيَّةٍ قُصِدَ بِهَا التَّوَصُّلُ إلَى بَاطِلٍ، كَأَنَّهَا تُسَبِّبُ إلَيْهِ؛ من الرِّشَاءِ، وَهُوَ الْحَبْلُ؛ فَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْحُكْمِ فَهُوَ سُحْتٌ، وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْجَاهِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ؛ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ)، وَالرَّائِشَ، وَهُوَ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَهُمَا، وَيَتَوَسَّطُ لِذَلِكَ مَعَهُمَا.

الثَّانِي: أَخْذُهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ). وَقَدْ بَيَّنَّاهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}:

إنْ قِيلَ فِيهِ: يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَالْقَضَاءِ بِالْعَدْلِ، أَوْ قِيلَ فِيهِ: إنَّ مَعْنَاهُ صَدُّهُمْ لِأَهْلِ دِينِهِمْ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِتَبْدِيلِهِمْ وَتَغْيِيرِهِمْ، وَإِغْوَائِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ، فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ، لَا يَدْفَعُهُ اللَّفْظُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}:

الْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَالُ الْمَجْمُوعُ، كَانَ فَوْقَ الْأَرْضِ أَوْ تَحْتَهَا، يُقَالُ: كَنَزَهُ يَكْنِزُهُ إذَا جَمَعَهُ، فَأَمَّا فِي الشَّرْعِ، وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَنَحْنُ لَا نَقُولُ: إنَّ الشَّرْعَ غَيْرُ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَهَا فِي نَفْسِهَا بِتَخْصِيصِ بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهَا، وَقَصْرِ بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهَا لِلْأَسْمَاءِ، كَالْقَارُورَةِ وَالدَّابَّةِ فِي بَعْضِ الْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ.

وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ من الْمَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ.

الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ من النَّقْدَيْنِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ حُلِيًّا.

الرَّابِعُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا دَفِينًا.

الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ.

السَّادِسُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا لَمْ تُؤَدَّ مِنْهُ الْحُقُوقُ.

السَّابِعُ: أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا مَا لَمْ يُنْفَقْ وَيُهْلَكْ فِي ذَاتِ اللَّهِ.

وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا رَوَى ابْنُ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تَأْتِي الْإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إذَا لَمْ يُعْطِ مِنْهَا حَقَّهَا، تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا. وَتَأْتِي الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إذَا لَمْ يُعْطِ مِنْهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا. قَالَ: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ، وَلَيَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارُ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك من اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ. وَيَأْتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ رُغَاءٌ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَك من اللَّهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُ).

وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ: (وَحَقُّهَا إطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِفْقَارُ ظَهْرِهَا، وَحَلْبِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا). وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لِكُلِّ جَامِعٍ فِي كُلِّ مُوطِنٍ بِكُلِّ حَالٍ.

وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي: أَنَّ الْكَنْزَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ لُغَةً فِي النَّقْدَيْنِ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ [تَحْرِيمٌ] ضُبِطَ غَيْرُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ.

وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْحُلِيَّ مَأْذُونٌ فِي اتِّخَاذِهِ وَلَا حَقَّ فِيهِ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَوَجْهُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ وَهُوَ الدَّفِينُ مَا رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا، وَفِي التَّمْرِ صَدَقَتُهُ، و مَنْ دَفَنَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً لَا يَدْفَعُهَا بَعْدَهَا لِغَرِيمٍ، وَلَا يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).

وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْخَامِسِ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ:

{وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ، إنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ، فَلِمَا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرَةً لِلْأَمْوَالِ.

وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّادِسِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِهَا: (وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا).

وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّابِعِ أَنَّ الْحُقُوقَ أَكْثَرُ من الْأَمْوَالِ، وَالْمَسَاكِينُ لَا تَسْتَقِلُّ بِهِمْ الزَّكَاةُ، وَرُبَّمَا حُبِسَتْ عَنْهُمْ، فَكَنْزُ الْمَالِ دُونَ ذَلِكَ ذَنْبٌ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ؛ فَذَهَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ. وَخَالَفَهُ أَبُو ذَرٍّ وَغَيْرُهُ، فَقَالَ: الْمُرَادُ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: مَرَرْت بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ، فَقُلْت لَهُ: مَا أَنْزَلَك مَنْزِلَك هَذَا؟ قَالَ: كُنْت بِالشَّامِ، فَاخْتَلَفْت أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. فَقُلْت: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ [رِيبَةٌ] فِي ذَلِكَ.

فَكَتَبَ إلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ أَقْدُمَ الْمَدِينَةَ. فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُثْمَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: حَتَّى آذَوْنِي. فَقَالَ لِي عُثْمَانُ: إنْ شِئْت تَنَحَّيْت فَكُنْت قَرِيبًا، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْت وَأَطَعْت.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.

وَذَهَبَ عُمَرُ إلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ؛ نَسَخَتْهَا: {خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}؛ قَالَ عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ: وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ، وَجَلَاءِ الْحَقِّ: وَذَلِكَ يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ مَدَارَكَ:

الْمُدْرَكُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكُلَّ من فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَاهَا وَقُضِيَتْ بَقِيَ الْمَالُ مُطَهَّرًا، كَمَا قَالَ عُمَرُ.

الْمُدْرَكُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ).

الْمُدْرَكُ الثَّالِثُ: تَخْلِيصُ الْحَقِّ من هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، فَنَقُولُ:

أَمَّا الْكَنْزُ فَهُوَ مَالٌ مَجْمُوعٌ، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَالٍ دِينَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ حَقٌّ، وَلَا حَقَّ لِلَّهِ سِوَى الزَّكَاةُ؛ فَإِخْرَاجُهَا يُخْرِجُ الْمَالَ عَنْ وَصْفِ الْكَنْزِيَّةِ، ثُمَّ إنَّ الْكَنْزَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ أَوْ تِبْرِهَا، وَهَذَا مَعْلُومٌ لُغَةً. ثُمَّ إنَّ الْحُلِيَّ لَا زَكَاةَ فِيهِ؛ فَيُتَنَخَّلُ من هَذَا أَنَّ كُلَّ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُمَا، أَوْ اُتُّخِذَتْ حُلِيًّا فَلَيْسَا بِكَنْزٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ...} الْآيَةَ.

وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَنْزَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خَاصَّةً، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبُ لِقَوْلِهِ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وَلَا يَتَوَجَّهُ الْعَذَابُ إلَّا عَلَى تَارِكِ الْوَاجِبِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُلِيَّ لَا زَكَاةَ فِيهِ وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قُلْنَا: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، أَصْلُهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ: لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ. وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِ شَيْءٌ.

فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَأَخَذَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي النَّقْدَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ حُلِيٍّ وَغَيْرِهِ.

وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا: إنْ قَصَدَ التَّمَلُّكَ لِمَا أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْعُرُوضِ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ، كَذَلِكَ قَصْدُ قَطْعِ النَّمَاءِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاِتِّخَاذِهِمَا حُلِيًّا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ، فَإِنَّ مَا أَوْجَبَ مَا لَمْ يَجِبْ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ، وَتَخْصِيصِ مَا عَمَّ وَشَمَلَ.

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ مَا زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ كَنْزٌ، وَعَزَوْهُ إلَى عَلِيٍّ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ يُذْكَرُ، لِبُطْلَانِهِ.

أَمَا إنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (إنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُفَرِّقُهَا).

قَالَ أَبُو ذَرٍّ: الْأَكْثَرُونَ أَصْحَابُ عَشَرَةِ آلَافٍ، يُرِيدُ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مَالًا هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوَابًا، إلَّا مَنْ فَرَّقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وَهَذَا بَيَانٌ لِنُقْصَانِ الْمَرْتَبَةِ بِقِلَّةِ الصَّدَقَةِ، لَا لِوُجُوبِ التَّفْرِقَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ، مَا عَدَا الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ، يُبَيِّنُهُ مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أُنْزِلَتْ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. لَوْ عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ؟ فَقَالَ: أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إيمَانِهِ). فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا جَوَابًا لِمَنْ عَلِمَ رَغْبَتَهُ فِي الْمَالِ فَرَدَّهُ إلَى مَنْفَعَةِ الْمَالِ، لِمَا فِيهِ من الْفَرَاغِ، وَعَدَمِ الِاشْتِغَالِ.

وَقَدْ بَيَّنَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فِي حَالَةٍ أَمْ أُخْرَى لِقَوْمٍ آخَرِينَ؟ فَقَالَ: (خَيْرُ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ الْقُطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ من الْفِتَنِ).

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا}: فَذَكَرَ ضَمِيرًا وَاحِدًا عَنْ مَذْكُورَيْنِ.

وَعَنْهُ جَوَابَانِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ} جَمَاعَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ كَنْزٌ، فَمرجعُ قَوْلِهِ:"هَا" إلَى جَمَاعَةِ الْكُنُوزِ.

الثَّانِي: أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ يَكْفِي عَنْ الثَّانِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا}. وَهُمَا شَيْئَانِ.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: إنَّمَا وَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ، لِأَجْلِ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا من الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}، يَعْنِي من أَهْلِ الْكِتَابِ، فَرَجَعَ قَوْلُهُ: {وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} إلَيْهِمْ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ من وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ وَخُصُوصَهُ لَا يُؤْثِرُ فِي آخَرَ الْكَلَامِ وَعُمُومِهِ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا [بِنَفْسِهِ].

الثَّانِي: أَنَّ هَذَا إنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ لَوْ قَالَ: وَيَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ. أَمَا وَقَدْ قَالَ: وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَقَدْ اسْتَأْنَفَ مَعْنًى آخَرَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، لَا وَصْفًا لِجُمْلَةٍ عَلَى وَصْفٍ لَهَا.

وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: جَلَسْت إلَى مَلَأٍ من قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الشَّعْرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ، حَتَّى قَامَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ: (بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ من نُغْضِ كَتِفِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ من حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ). ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إلَى سَارِيَةٍ، وَجَلَسْت إلَيْهِ، وَلَا أَدْرِي مَنْ هُوَ، فَقُلْت لَهُ: لَا أَرَى الْقَوْمَ إلَّا قَدْ كَرِهُوا مَا قُلْت لَهُمْ. قَالَ: إنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا قَالَ لِي خَلِيلِي. قُلْت: مَنْ خَلِيلُك؟ قَالَ: النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَا أَبَا ذَرٍّ؛ أَتُبْصِرُ أَحَدًا؟ فَنَظَرْت إلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ من النَّهَارِ، وَأَنَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ. قُلْت: نَعَمْ. قَالَ لِي: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ، إلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ، إنَّمَا يَجْمَعُونَ لِلدُّنْيَا، وَاَللَّهِ لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا، وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ، حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ).

قَالَ الْقَاضِي: الْحَلَمَةُ: طَرَفُ الثَّدْيِ، وَالنُّغْضُ، بَارِزُ عَظْمِ الْكَتِفِ الْمُحَدَّدِ. وَرِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ لِهَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحَةٌ، وَتَأْوِيلُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ جَامِعٍ لِلْمَالِ مُحْتَجِزٍ لَهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَنْ احْتَجَنَهُ وَاكْتَنَزَهُ عَنْ الزَّكَاةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوِّفُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بِشَدْقَيْهِ- يَقُولُ: أَنَا مَالُك، أَنَا كَنْزُك. ثُمَّ قَرَأَ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ...} الآية. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

قَالَ الْقَاضِي: قَوْلُهُ: مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ، يُرِيدُ أَوْ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَفَّكِ الْأَسِيرِ، وَحَقِّ الْجَائِعِ، وَالْعَطْشَانِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُقُوقَ الْعَارِضَةَ كَالْحُقُوقِ الْأَصْلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا يَعْنِي حَيَّةً. وَهَذَا تَمْثِيلُ حَقِيقَةٍ؛ لِأَنَّ الشُّجَاعَ جِسْمٌ وَالْمَالَ جِسْمٌ، فَتَغَيُّرُ الصِّفَاتِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَاحِدَةٌ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فَإِنَّ تِلْكَ طَرِيقَةٌ أُخْرَى. وَإِنَّمَا خَصَّ الشُّجَاعَ؛ لِأَنَّهُ الْعَدُوُّ الثَّانِي لِلْخَلْقِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فِيهِنَّ: (مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ). وَقَوْلُهُ: أَقْرَعُ، يَعْنِي الَّذِي ابْيَضَّ رَأْسُهُ من السُّمِّ.

وَالزَّبِيبَتَانِ: زُبْدَتَانِ فِي شِدْقَيْ الْإِنْسَانِ إذَا غَضِبَ وَأَكْثَرَ من الْكَلَامِ، قَالَتْ أُمُّ غَيْلَانَ بِنْتُ جَرِيرٍ: رُبَّمَا أَنْشَدْت أَبِي حَتَّى تَزَبَّبَ شَدْقَايَ.

ضَرَبَ مَثَلًا لِلشُّجَاعِ الَّذِي يَتَمَثَّلُ كَهَيْئَةِ الْمَالِ، فَيَلْقَى صَاحِبَهُ غَضْبَانَ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُمَا نُقْطَتَانِ سَوْدَاوَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ. وَقِيلَ: هُوَ الشُّجَاعُ الَّذِي كَثُرَ سُمُّهُ حَتَّى ظَهَرَ عَلَى شَدْقَيْهِ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزَّبِيبَتَيْنِ.

وَكَتَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ شُجَاعٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ كَتَبُوهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وقرأوه مَنْصُوبًا لِئَلَّا يُشْكِلَ بِالْمَمْدُودِ، وَكَذَلِكَ نُظَرَاؤُهُ.

وَاللِّهْزِمَةُ: الشَّدْقَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ. وَقِيلَ: هُمَا فِي أَصْلِ الْحَنَكِ. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: (إنَّهُ يَمْثُلُ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا يَتَّبِعُهُ فَيَضْطَرُّهُ فَيُعْطِيهِ يَدَهُ فَيَقْضِمَهَا كَمَا يَقْضِمُ الْفَحْلُ).

فَأَمَّا حَبْسُهُ لِيَدِهِ فَلِأَنَّهُ شَحَّ بِالْمَالِ وَقَبَضَ بِهَا عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَخْذُهُ بِفَمِهِ فَلِأَنَّهُ أَكَلَهُ، وَأَمَّا خُرُوجُهُ من حَلَمَةِ ثَدْيِهِ إلَى نُغْضِ كَتِفِهِ فَلِتَعْذِيبِ قَلْبِهِ وَبَاطِنِهِ حِينَ امْتَلَأَ بِالْفَرَحِ بِالْكَثْرَةِ فِي الْمَالِ وَالسُّرُورِ فِي الدُّنْيَا؛ فَعُوقِبَ فِي الْآخِرَةِ بِالْهَمِّ وَالْعَذَابِ.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ لَمْ يَكْنِزْ وَلَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلَيْسَ يَكُونُ هَذَا حُكْمَهُ؟ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ الْكَنْزِ؟

قُلْنَا: إذَا لَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَكْنِزْ، وَلَكِنَّهُ بَذَّرَ مَالِهِ فِي السَّرَفِ وَالْمَعَاصِي فَهَذَا يَعْلَمُ أَنَّ حاله يَكُونُ مِثْلَ هَذَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ من طَرِيقِ الْأَوْلَى.

فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ:

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَفَقْرِ الصَّحَابَةِ، وَفَرَاغِ خِزَانَةِ بَيْتِ الْمَالِ.

قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ قَدْ كَانَتْ شُرِعَتْ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَغْنِيَاءً، وَبَعْضُهُمْ فُقَرَاءً، وَقَدْ كَانَ الْفَقِيرُ مِنْهُمْ يَرْبِطُ بَطْنَهُ بِالْحِجَارَةِ من الْجُوعِ، وَبُيُوتُ الصَّحَابَةِ الْأَغْنِيَاءِ مَمْلُوءَةٌ من الرِّزْقِ، يَشْبَعُ أُولَئِكَ، وَيَجُوعُ هَؤُلَاءِ، فَيَنْدُبَهُمْ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إلَى الصَّدَقَةِ، وَيُرَغِّبَهُمْ فِي الْمُوَاسَاةِ، وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجَ عَنْ جَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق، وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس، تنبيها على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر، أخذ أموال الناس بالباطل، ولعمري من تأمل أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وفي شرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله... فالله تعالى حكى عن كثير منهم أنهم ليأكلون أموال الناس بالباطل، وفيه أبحاث:

البحث الأول: أنه تعالى قيد ذلك بقوله: {كثيرا} ليدل بذلك على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا طريقة الكل، فإن العالم لا يخلو عن الحق وإطباق الكل على الباطل كالممتنع هذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل، فكذلك سائر الأمم.

...

البحث الثالث: أنه قال: {ليأكلون أموال الناس بالباطل} وقد اختلفوا في تفسير هذا الباطل على وجوه:

الأول: أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع.

والثاني: أنهم كانوا يدعون عند الحشرات والعوام منهم، أنه لا سبيل لأحد إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم، وبذل الأموال في طلب مرضاتهم والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب.

الثالث: التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فأولئك الأحبار والرهبان، كانوا يذكرون في تأويلها وجوها فاسدة، ويحملونها على محامل باطلة، وكانوا يطيبون قلوب عوامهم بهذا السبب، ويأخذون الرشوة.

والرابع: أنهم كانوا يقررون عند عوامهم أن الدين الحق هو الذي هم عليه، فإذا قرروا ذلك قالوا: وتقوية الدين الحق واجب.

ثم قالوا: ولا طريق إلى تقويته إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقواما عظماء أصحاب الأموال الكثيرة والجمع العظيم، فبهذا الطريق يحملون العوام على أن يبذلوا في خدمتهم نفوسهم وأموالهم، فهذا هو الباطل الذي كانوا به يأكلون أموال الناس، وهي بأسرها حاضرة في زماننا، وهو الطريق لأكثر الجهال والمزورين إلى أخذ أموال العوام والحمقى من الخلق...

قال المصنف رضي الله عنه: غاية مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه، فبين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين، فالمال هو المراد بقوله: {ليأكلون أموال الناس بالباطل} وأما الجاه فهو المراد بقوله: {ويصدون عن سبيل الله} فإنهم لو أقروا بأن محمدا على الحق لزمهم متابعته، وحينئذ يبطل حكمهم وتزول حرمتهم فلأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة، وفي منع الخلق من قبول دينه الحق والإتباع لمنهجه الصحيح...

واعلم أن الطريق الحق أن يقال الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير، إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع، فالأول محمول على التقوى والثاني على ظاهر الفتوى، أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فبوجوه:...

الوجه الأول: أن الإنسان إذا أحب شيئا فكلما كان وصوله إليه أكثر والتذاذه بوجدانه أكثر، كان حبه له أشد وميله أقوى. فالإنسان إذا كان فقيرا فكأنه لم يذق لذة الانتفاع بالمال وكأنه غافل عن تلك اللذة، فإذا ملك القليل من المال وجد بقدره اللذة، فصار ميله أشد، فكلما صارت أمواله أزيد، كان التذاذه به أكثر، وكان حرصه في طلبه وميله إلى تحصيله أشد، فثبت أن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب، فالحرص متعب للروح والنفس والقلب وضرره شديد، فوجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس.

وأيضا قد بينا أنه كلما كان المال أكثر كان الحرص أشد، فلو قدرنا أنه كان ينتهي طلب المال إلى حد ينقطع عنده الطلب ويزول الحرص، لقد كان الإنسان يسعى في الوصول إلى ذلك الحد. أما لما ثبت بالدليل أنه كلما كان تملك الأموال أكثر كان الضرر الناشئ من الحرص أكبر، وأنه لا نهاية لهذا الضرر ولهذا الطلب، فوجب على الإنسان أن يتركه في أول الأمر...

والوجه الثاني: أن كسب المال شاق شديد، وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب، فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل، وأخرى في تعب الحفظ، ثم إنه لا ينتفع بها إلا بالقليل وبالآخر يتركها مع الحسرات والزفرات، وذلك هو الخسران المبين...

والوجه الثالث: أن كثرة المال والجاه تورث الطغيان، كما قال تعالى: {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} والطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن، ويوقعه في الخسران والخذلان...

الوجه الرابع: أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال، ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه...

فإن قيل: لم قال عليه السلام: «اليد العليا خير من اليد السفلى»؟ قلنا: اليد العليا إنما أفادته صفة الخيرية، لأنه أعطى ذلك القليل، فبسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليلة حصلت له الخيرية، وبسبب أنه حصل للفقير تلك الزيادة القليلة حصلت المرجوحية...

{فبشرهم بعذاب أليم} أي فأخبرهم على سبيل التهكم لأن الذين يكنزون الذهب والفضة إنما يكنزونهما ليتوصلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة، فقيل هذا هو الفرج. كما يقال تحيتهم ليس إلا الضرب وإكرامهم ليس إلا الشتم، وأيضا فالبشارة عن الخير الذي يؤثر في القلب، فيتغير بسببه لون بشرة الوجه، وهذا يتناول ما إذا تغيرت البشرة بسبب الفرح أو بسبب الغم...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

فيه إحدى عشرة مسألة:

الأولى -قوله تعالى:"ليأكلون أموال الناس بالباطل" دخلت اللام على يفعل، ولا تدخل على فعل لمضارعة يفعل الأسماء. والأحبار علماء اليهود. والرهبان مجتهدو النصارى في العبادة. "بالباطل "قيل: إنهم كانوا يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك، مما يوهمونهم أن النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله تعالى، وهم خلال ذلك يحجبون تلك الأموال، كالذي ذكره سلمان الفارسي عن الراهب الذي استخرج كنزه، ذكره ابن إسحاق في السير. وقيل: كانوا يأخذون من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع. وقيل: كانوا يرتشون في الأحكام، كما يفعله اليوم كثير من الولاة والحكام. وقوله: "بالباطل" يجمع ذلك كله. "ويصدون عن سبيل الله" أي يمنعون أهل دينهم عن الدخول في دين الإسلام، واتباع محمد صلى الله عليه وسلم.

الثانية- قوله تعالى: "والذين يكنزون الذهب والفضة" الكنز أصله في اللغة الضم والجمع ولا يختص ذلك بالذهب والفضة. ألا ترى قوله عليه السلام: (ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة). أي يضمه لنفسه ويجمعه.

قال ابن خويز منداد: تضمنت هذه الآية زكاة العين، وهي تجب بأربعة شروط: حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين. والنصاب مائتا درهم أو عشرون دينارا. أو يكمل نصاب أحدهما من الآخر وأخرج ربع العشر من هذا وربع العشر من هذا. وإنما قلنا إن الحرية شرط؛ فلأن العبد ناقص الملك. وإنما قلنا إن الإسلام شرط، فلأن الزكاة طهرة والكافر لا تلحقه طهرة، ولأن الله تعالى قال: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" [البقرة:43]، فخوطب بالزكاة من خوطب بالصلاة. وإنما قلنا إن الحول شرط، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول). وإنما قلنا إن النصاب شرط، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس في أقل من مائتي درهم زكاة، وليس في أقل من عشرين دينارا زكاة). ولا يراعى كمال النصاب في أول الحول، وإنما يراعى عند آخر الحول، لاتفاقهم أن الربح في حكم الأصل. يدل على هذا أن من كانت معه مائتا درهم فتجر فيها فصارت آخر الحول ألفا أنه يؤدي زكاة الألف، ولا يستأنف للربح حولا. فإذا كان كذلك لم يختلف حكم الربح، كان صادرا عن نصاب أو دونه. وكذلك اتفقوا أنه لو كان له أربعون من الغنم، فتوالدت له رأس الحول ثم ماتت الأمهات إلا واحدة منها، وكانت السخال تتمة النصاب فإن الزكاة تخرج عنها.

...

...

...

الخامسة -واختلف العلماء في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزا أم لا؟ فقال قوم: نعم. ورواه أبو الضحاك عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه، قال علي: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته، ولا يصح. وقال قوم: ما أديت زكاته منه أو من غيره عنه فليس بكنز. قال ابن عمر: ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. ومثله عن جابر، وهو الصحيح. وروى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني شدقيه -ثم يقول أنا مالك أنا كنزك- ثم تلا -"ولا يحسبن الذين يبخلون" [آل عمران: 180] الآية. وفيه أيضا عن أبي ذر، قال: انتهيت إليه- يعني النبي صلى الله عليه وسلم -قال: (والذي نفسي بيده- أو والذي لا إله غيره أو كما حلف -ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس). فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا. وقد بين ابن عمر في صحيح البخاري هذا المعنى، قال له أعرابي: أخبرني عن قول الله تعالى: "والذين يكنزون الذهب والفضة" قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال. وقيل: الكنز ما فضل عن الحاجة. روى عن أبي ذر، وهو مما نقل من مذهبه، وهو من شدائده ومما انفرد به رضي الله عنه. قلت: ويحتمل أن يكون مجمل ما روي عن أبي ذر في هذا، ما روي أن الآية نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين وقصر يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون الجوائح هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال إلا على قدر الحاجة، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت. فلما فتح الله على المسلمين ووسع عليهم أوجب صلى الله عليه وسلم في مائتي درهم خمسة دراهم وفي عشرين دينارا نصف دينار ولم يوجب الكل واعتبر مدة الاستنماء، فكان ذلك منه بيانا صلى الله عليه وسلم. وقيل: الكنز ما لم تؤد منه الحقوق العارضة، كفك الأسير وإطعام الجائع وغير ذلك. وقيل: الكنز لغة المجموع من النقدين، وغيرهما من المال محمول عليهما بالقياس. وقيل: المجموع منهما ما لم يكن حليا، لأن الحلي مأذون في اتخاذه ولا حق فيه. والصحيح ما بدأنا بذكره، وأن ذلك كله يسمى كنزا لغة وشرعا. والله أعلم. قال علماؤنا: ظاهر الآية تعليق الوعيد على من كنز ولا ينفق في سبيل الله ويتعرض للواجب وغيره، غير أن صفة الكنز لا ينبغي أن تكون معتبرة، فإن من لم يكنز ومنع الإنفاق في سبيل الله فلا بد وأن يكون كذلك، إلا أن الذي يخبأ تحت الأرض هو الذي يمنع إنفاقه في الواجبات عرفا، فلذلك خص الوعيد به. والله أعلم.

لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان} قد تقدم معنى الأحبار والرهبان وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى، وفي قوله سبحانه وتعالى: {إن كثيراً} دليل على أن الأقل من الأحبار والرهبان لم يأكلوا أموال الناس بالباطل ولعلهم الذين كانوا قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وعبر عن أخذ الأموال بالأكل في قوله تعالى: {ليأكلون أموال الناس بالباطل} لأن المقصود الأعظم من جمع المال الأكل فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصد. واختلفوا في السبب الذي من أجله أكلوا أموال الناس بالباطل فقيل إنهم كانوا يأخذون الرشا من سفلتهم في تخفيف الشرائع والمسامحة في الأحكام وقيل إنهم كانوا يكتبون بأيديهم كتباً يحرفونها ويبدلونها ويقولون هذه من عند الله ويأخذون بها ثمناً قليلاً وهي المآكل التي كانوا يصيبونها من سفلتهم على تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته في كتبه، لأنهم كانوا يخافون لو آمنوا به وصدقوه لذهب عنهم تلك المآكل وقيل إن التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على نعت النبي صلى الله عليه وسلم وكان الأحبار والرهبان يذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدة باطلة ويحرفون معانيها طلباً للرياسة وأخذ الأموال ومنع الناس عن الإيمان به وذلك قوله تعالى: {ويصدون عن سبيل الله} يعني ويمنعون الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والدخول في دين الإسلام. {والذين يكنزون الذهب والفضة} أصل الكنز في اللغة جعل المال بعضه على بعض وحفظه ومال مكنوز مجموع، واختلفوا في المراد بهؤلاء الذين ذمهم الله بسبب كنز الذهب والفضة فقيل هم أهل الكتاب. قال معاوية بن أبي سفيان: لأن الله سبحانه وتعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بالباطل ثم وصفهم بالبخل الشديد وهو جمع المال ومنع إخراج الحقوق الواجبة منه. وقال ابن عباس: نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قبح طريق الأحبار والرهبان في الحرص على أخذ الأموال بالباطل، حذر المسلمين من ذلك وذكر وعيد من جمع المال ومنع حقوق الله منه. وقال أبو ذر: نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين. ووجه هذا القول أن الله سبحانه وتعالى وصف أهل الكتاب بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ثم ذكر بعده وعيد من جمع المال ومنع الحقوق الواجبة فيه سواء كان من أهل الكتاب أو من المسلمين: (خ). عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا بأبي ذر فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت في الشأم فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذين أنزلني هذا المنزل ولو أمر على عبد حبشي لسمعت وأطعت. واختلف العلماء في معنى الكنز فقيل هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد زكاته، وروي عن ابن عمر: أنه قال له أعرابي أخبرني عن قول الله عز وجل: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}، قال ابن عمر من كنزها فلم يؤد زكاتها ويل له هذا كان قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهراً للأموال. أخرجه البخاري. وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار قال: سمعت عبد الله بن عمر وهو يسأل عن الكنز ما هو فقال: هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة ورواه الطبري بسنده عن ابن عمر قال: كل مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً، وكل مال لم تؤد زكاته فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن يكوى به صاحبه وإن لم يكن مدفوناً. وروي عن علي بن أبي طالب قال: أربعة آلاف فما فوقها كنز وما دونها نفقة. وقيل: الكنز كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه. وروي الطبري بسنده عن أبي أمامة قال: توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلم كية ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال النبي صلى الله عليه وسلم كيتان كان هذا في أول الإسلام قبل أن تفرض الزكاة، فكان يجب على كل من فضل معه شيء من المال إخراجه لاحتياج غيره إليه فلما فرضت الزكاة نسخ ذلك الحكم. عن ابن عباس قال: «لما نزلت هذه الآية: والذين يكنزون الذهب والفضة، كبر على المسلمين فقال عمر: أنا أفرج عنكم. فانطلق فقال: يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال: إن الله لم يفرض الزكاة إلا لتطييب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم. قال: فكبَّر عمر ثم قال له: ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته». أخرجه أبو داود عن ثوبان قال «لما نزلت:"والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله"، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه أنزلت في الذهب والفضة فلو علمنا أي المال خيراً اتخذناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن. والصحيح من هذه الأقوال القول الأول وهو ما ذكرنا عن ابن عمر أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز ولا يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر، وإن كان كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب عليه وإن قل إذا كان مما تجب فيه الزكاة ويستحق على منع الزكاة والوعيد من الله إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه بعفوه وغفرانه. ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمى عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره كلما ردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقتضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» قيل يا رسول الله فالإبل قال: «ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ومن حقها حلبها يوم ورودها إلا إذا كان يوم القيامة بطح له بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»، قيل يا رسول الله فالبقر والغنم قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا غضباء تنطحه بقرونها وتطؤه باظلافها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقدار خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» أخرجه مسلم بزيادة فيه قوله: "كلما ردت أعيدت له "هكذا هو في بعض نسخ صحيح مسلم ردت بضم الراء وفي بعضها بردت بالباء وهذا هو الصواب والرواية الأولى هي رواية الجمهور. قوله حلبها هو بفتح اللام على المشهور وحكى إسكانها وهو ضعيف قوله بقاع قرقر هو المستوى من الأرض الواسع الأملس والعقصاء هي الشابة الملتوية القرنين وإنما استثناها لأنها لا تؤلم بنطحها وكذا الجلحاء وهي الشاة التي لا قن لها وكذا العضباء وهي الشاة المكسورة القرن (خ) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- ثم يقول أنا مالك أنا كنزك ثم تلا قوله سبحانه وتعالى {ولا تحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيراً لهم}» الآية الشجاع الحية والأقرع صفة له بطول العمر لأن مَن طال عمره تمزق شعره وذهب وهي صفة أخبث الحيات، والزبيبتان هما الزبدتان في الشدقين واللهزمتان عظمان ناتئان في اللحيين تحت الأذنين. وقوله تعالى: {ولا ينفقونها في سبيل الله} يعني ولا يؤدون زكاتها وإنما قال ولا ينفقونها ولم يقل ينفقونهما لأنه رد الكناية إلى المال المكنوز وهي أعيان الذهب والفضة، وقيل رد الكناية إلى الفضة لأنها أغلب أموال الناس {فبشرهم بعذاب أليم} يعني الكافرين الذين لا يؤدون زكاة أموالهم (ق). عن أبي ذر قال: «انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة قال فجئت حتى جلست فلم أتقار حتى قمت فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمي منهم؟ قال: هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يده ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضي بين الناس» هذا لفظ مسلم وفرقه البخاري في موضعين...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

قال السدي: الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى. وهو كما قال، فإن الأحبار هم علماء اليهود، كما قال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 63] والرهبان: عباد النصارى، والقسيسون: علماؤهم، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] والمقصود: التحذير من علماء السوء وعُبَّاد الضلال كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان فيه شبه من النصارى. وفي الحديث الصحيح: "لتركبنّ سَنَن من كان قبلكم حَذْو القُذّة بالقُذّة". قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟".

وفي رواية: فارس والروم؟ قال: "وَمَن الناس إلا هؤلاء؟ "

والحاصل التحذير من التشبه بهم في أحوالهم وأقوالهم؛ ولهذا قال تعالى: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس، يأكلون أموالهم بذلك، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف، ولهم عندهم خَرْج وهدايا وضرائب تجيء إليهم، فلما بعث الله رسوله، صلوات الله وسلامه عليه استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم، طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات، فأطفأها الله بنور النبوة، وسلبهم إياها، وعوضهم بالذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله. وقوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق، ويُلبسون الحق بالباطل، ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير، وليسوا كما يزعمون، بل هم دعاة إلى النار، ويوم القيامة لا ينصرون. وقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} هؤلاء هم القسم الثالث من رءوس الناس، فإن الناس عالة على العلماء، وعلى العُبَّاد، وعلى أرباب الأموال، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس، كما قال بعضهم:

وَهَل أفْسَدَ الدِّينَ إلا المُلوكُ *** وَأحبارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُها

وأما الكنز، فقال مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه قال: هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة. وروى الثوري وغيره عن عُبَيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: ما أُدِّي زكاتُه فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز وقد رُوي هذا عن ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا وعمر بن الخطاب، نحوه، رضي الله عنهم:"أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض".

وروى البخاري من حديث الزهري، عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر، فقال: هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت جعلها الله طُهرًا للأموال وكذا قال عمر بن عبد العزيز، وعراك بن مالك: نسخها قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة: 103] وقال سعيد بن محمد بن زياد، عن أبي أمامة أنه قال: حلية السيوف من الكنز ما أحدثكم إلا ما سمعت. وقال الثوري، عن أبي حصين، عن أبي الضُّحَى، عن جَعْدَة بن هبيرة، عن علي، رضي الله عنه، قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة، فما كان أكثر منه فهو كنز. وهذا غريب.

وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منهما، أحاديث كثيرة؛ ولنورد منها هنا طرفا يدل على الباقي، فقال عبد الرازق: أخبرنا الثوري، أخبرني أبو حصين، عن أبي الضحى، بن جعدة بن هبيرة، عن علي، رضي الله عنه، في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَبّا للذهب، تَبّا للفضة "يقولها ثلاثا، قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: فأي مال نتخذ؟ فقال: عمر، رضي الله عنه، أنا أعلم لكم ذلك فقال: يا رسول الله، إن أصحابك قد شق عليهم [و] قالوا: فأيَّ مال نتخذ؟ قال: "لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه "

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، حدثني سالم، حدثني عبد الله بن أبي الهُذَيْل، حدثني صاحب لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تبا للذهب والفضة". قال: فحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، قولك: "تبا للذهب والفضة"، ماذا ندخر؟. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وزوجة تُعين على الآخرة "

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان قال: لما نزل في الفضة والذهب ما نزل قالوا: فأي المال نتخذ؟ قال [عمر: أنا أعلم ذلك لكم فأوضع على بعير فأدركه، وأنا في أثره، فقال: يا رسول الله، أي المال نتخذ؟ قال] ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين أحدكم في أمر الآخرة". ورواه الترمذي، وابن ماجه، من غير وجه، عن سالم بن أبي الجعد وقال الترمذي: حسن، وحكي عن البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان.

قلت: ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلا والله أعلم. حديث آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا حميد بن مالك، حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي، حدثنا أبي، حدثنا غَيْلان بن جامع المحاربي، عن عثمان أبي اليقظان، عن جعفر بن إياس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية، كَبُر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا أن يترك لولده ما لا يبقى بعده. فقال عمر: أنا أفرِّج عنكم. فانطلق عمر واتبعه ثوبان، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبيَّ الله، إنه قد كَبُر على أصحابك هذه الآية. فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم". قال: فكبَّر عمر، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته". ورواه أبو داود، والحاكم في مستدركه، وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى، به وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه.

حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس، رضي الله عنه، في سفر، فنزل منزلا فقال لغلامه: ائتنا بالشَّفْرَةِ نعْبَث بها. فأنكرت عليه، فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخْطمُها وأزمُّها غير كلمتي هذه، فلا تحفظونها علي، واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم، إنى أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب"...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما حقر أمرهم بتقسيم اعتمادهم على رؤسائهم، وحالهم معروف في أنه لا نفع عندهم ولا ضر، وأعلى أمر أهل الله باجتماعهم عليه وهو القادر على كل شيء، وكان الإقبال على الدنيا أعظم أمارة على الخذلان ولو أنه بحق فكيف إذا بالباطل! أقبل سبحانه وعز شأنه على أهل وده مستعطفاً متلطفاً منادياً باسم الإيمان الذي بنى أمره في أول هذا الكتاب على الإنفاق لا على التحصيل ولو كان بحق، فكيف إذا كان بباطل، ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون، منبهاً على سفه من ترك من لا يسأله على بذل الهدى والدعوة إلى دين الحق أجراً وهو سفير محض لا ينطق عن الهوى، ولم يعتقده رسولاً واتخذ مربوباً مثله وهو يأخذ ماله بالباطل ربواً، وذلك مقتض لتحقيرهم لا لمطلق تعظيمهم فضلاً عن الرتبة التي أنزلوهم بها وأهلوهم لها مع الترفع عليهم لقصد أكل أموالهم بالباطل... {في سبيل الله} أي الوجه الذي أمر الملك الأعلى بإنفاقها فيه...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{*يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (35)} هاتان الآيتان متصلتان بسياق الكلام في أهل الكتاب، متممتان له، ومقررتان لموعظة عامة تقتضيها المناسبة. ذلك بأنه تقدم في هذا السياق أن اليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وأنهم ما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً فعبدوا غيره من دونه، وأنهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على عباده برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله لا يريد إطفاءه؛ بل يريد إتمامه وقد فعل، فناسب أن يبين مع هذا شيئا من سيرة جمهور هؤلاء الرؤساء الدينيين العملية، ليعرف المسلمون حقيقة حالهم والأسباب التي تحملهم على محاولة إطفاء نور الله تعالى، وأن أكثرهم يعبدون أهواءهم وشهواتهم.

وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [النساء: 29]، وإسناد هذه الجريمة المزرية إلى الكثيرين منهم دون جميعهم من دقائق تحري الحق في عبارات الكتاب العزيز، فهو لا يحكم على الأمة الكبيرة بفساد جميع أفرادها أو فسقهم أو ظلمهم، بل يسند ذلك إلى الكثير أو الأكثر، أو يطلق اللفظ العام ثم يستثني منه. فمن الأول قوله تعالى في اليهود {وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} [المائدة:62،63]، ومن الثاني قوله تعالى قبل هاتين الآيتين فيهم {قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثرهم فاسقون} [المائدة: 59]، ومن الثالث قوله في المحرفين للكلم الطاعنين في الإسلام منهم {ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} [النساء: 46]، وقد نبهنا في تفسير هذه الآيات وأمثالها على هذا العدل الدقيق في أحكام القرآن على البشر، وإنما نكرره لعظيم شأنه، وذكرنا منه هنا بعض ما نزل في أهل الكتاب، من قبيل تفسير القرآن بالقرآن...

والمعنى العام لأكل أموال الناس بالباطل هو أخذها بغير وجه شرعي من الوجوه التي بذل الناس فيها هذه الأموال بحق يرضاه الله عز وجل، وهو أنواع: منها: ما يبذله كثير من الناس لمن يعتقدون أنه عابد قانت لله، زاهد في الدنيا، ليدعو لهم ويشفع لهم عند الله في قضاء حاجاتهم وشفاء مرضاهم؛ لاعتقادهم أن الله يستجيب دعاءه ولا يرد شفاعته، والدعاء مشروع دون أخذ المال به أو عليه، والرجاء باستجابته حسن، واعتقاده بالجزم جهل. أو لظنهم أن الله تعالى أعطاه سلطاناً وتصرفاً في الكون، فهو يقضي الحاجات من دفع الضر عمن شاء، وجلب الخير لمن شاء متى شاء، كما هو المعهود من الوثنيين في الأصل، وممن طرأت عليهم العقائد الوثنية من أتباع الأنبياء عليهم السلام، وتأولها لهم الرؤساء الدينيون المضلون بأنها لا تنافي التوحيد الذي جاء به الرسل، وقد بينا فساد هذه النزعات الشركية في مواضع كثيرة من هذا التفسير، ومنه أن غير أتباع الرسل من المشركين يقولون بمثل هذه الأقوال. ومنها: ما يأخذه سدنة قبور الأنبياء والصالحين والمعابد التي بنيت بأسمائهم من الهدايا والنذور التي يحملها إلى تلك المواضع أمثال من ذكرنا ممن لا يعقلون معنى التوحيد المجرد، والنصارى يبنون الكنائس والأديار بأسماء القديسين والقديسات، فتحبس عليها الأراضي والعقارات، وتقدم لها النذور والهدايا تقرباً إلى تلك الأسماء أو المسميات، وهذا وما قبله مما اتبع المسلمون فيه سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، مصداقاً للحديث النبوي الصحيح...

؛ لاعتقادهم أن الله يستجيب دعاءه ولا يرد شفاعته، والدعاء مشروع دون أخذ المال به أو عليه، والرجاء باستجابته حسن، واعتقاده بالجزم جهل. أو لظنهم أن الله تعالى أعطاه سلطاناً وتصرفاً في الكون، فهو يقضي الحاجات من دفع الضر عمن شاء، وجلب الخير لمن شاء متى شاء، كما هو المعهود من الوثنيين في الأصل، وممن طرأت عليهم العقائد الوثنية من أتباع الأنبياء عليهم السلام، وتأولها لهم الرؤساء الدينيون المضلون بأنها لا تنافي التوحيد الذي جاء به الرسل، وقد بينا فساد هذه النزعات الشركية في مواضع كثيرة من هذا التفسير، ومنه أن غير أتباع الرسل من المشركين يقولون بمثل هذه الأقوال. ومنها: ما يأخذه سدنة قبور الأنبياء والصالحين والمعابد التي بنيت بأسمائهم من الهدايا والنذور التي يحملها إلى تلك المواضع أمثال من ذكرنا ممن لا يعقلون معنى التوحيد المجرد، والنصارى يبنون الكنائس والأديار بأسماء القديسين والقديسات، فتحبس عليها الأراضي والعقارات، وتقدم لها النذور والهدايا تقرباً إلى تلك الأسماء أو المسميات، وهذا وما قبله مما اتبع المسلمون فيه سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، مصداقاً للحديث النبوي الصحيح. والوقف على الدير أو الكنيسة عندهم كالوقف على المسجد عندنا قربة حقيقية، وأخذ المال وإعطاؤه في بناء المعابد حق في أصل كل دين سماوي، وإنما البدع الوثنية في المعابد هي المتعلقة بعبادة من ينسب إليه المعبد، ويوضع له فيه قبر أو صورة أو تمثال فيدعى فيه مع الله تارة، ومن دونه تارة، وينذر له وحده آونة ومع الله آونة، فهذه بدع تتبرأ منها أديان الأنبياء الموحاة إليهم من الله عز وجل، والنفقة فيها كلها من الباطل، وآكلوها من رؤساء الدين وسدنة المعابد من الذين يأكلون أموال الناس بالباطل. ومنها: ما هو خاص بالنصارى؛ بل ببعض فرقهم كالأرثوذكس والكاثوليك، وهو ما يأخذونه جعلا على مغفرة الذنوب أو ثمناً لها. ويتوسلون إليها بما يسمونه سر الاعتراف. وهو أن يأتي الرجل أو المرأة القسيس أو الراهب المأذون له من الرئيس الأكبر بسماع أسرار الاعتراف ومغفرة الذنوب فيخلو به أو بها، فيقص عليه الخاطئ ما عمل من الفواحش والمنكرات بأنواعها لأجل أن يغفرها له، لأن من عقائد الكنيسة أن ما يغفره هؤلاء يغفره الله تعالى. وقد كان لبيع البابوات للغفران نظام متبع في القرون الوسطى للنصرانية (أعني الوسطى في الزمن لا في الاعتدال)، وكان الثمن يتفاوت بقدر ثروة المشترين من الملوك والأمراء والنبلاء وكبار الأغنياء فمن دونهم، وكانوا يعطون بالمغفرة صكوكاً يحملونها ليلقوا الله تعالى بها. وكان هذا الخطب الكبير من غلو الكاثوليك في استغلال سلطتهم الدينية أعظم أسباب الخروج عليهم والانقلاب الكبير الذي يسمونه الإصلاح (البروتستانت)، إذ ترتب عليه فساد كبير في استباحة الفواحش وكبائر المعاصي. والاعتراف في الأصل لم يوضع له ثمن، ولكن سوء استعمال بعض رجال الدين له أغراهم بجعله وسيلة لسلب المال، وفي القوانين السرية لبعض الرهبنات الكاثوليكية مواد صريحة في ذلك.

ومنها: ما يؤخذ على فتاوى تحليل الحرام وتحريم الحلال، فأولو المطامع والأهواء يفتون الملوك والأمراء وكبار الأغنياء بما يساعدهم على إرضاء شهواتهم، والانتقام من أعدائهم، أو ظلم رعاياهم ومعامليهم، بضروب من الحيل والتأويل يصورون به النوازل بغير صورها، ويلبسون به المسائل أثواباً من الزور تلتبس بحقيقتها، وفي المادة الثانية من الفصل الثاني من التعاليم السرية للرهبنة المشار إليها آنفا وجوب التساهل مع الملوك وعشائرهم في الزواج غير الشرعي، وغفران أمثال هذه الخطيئة وغيرها لهم، واستخراج براءة من البابا لهم بالمغفرة؛ بل في تلك المادة نص في وجوب التساهل في الاعتراف والمغفرة حتى لخدم الملوك والأمراء... أثواباً من الزور تلتبس بحقيقتها، وفي المادة الثانية من الفصل الثاني من التعاليم السرية للرهبنة المشار إليها آنفا وجوب التساهل مع الملوك وعشائرهم في الزواج غير الشرعي، وغفران أمثال هذه الخطيئة وغيرها لهم، واستخراج براءة من البابا لهم بالمغفرة؛ بل في تلك المادة نص في وجوب التساهل في الاعتراف والمغفرة حتى لخدم الملوك والأمراء. ومن هذا النوع ما خاطب الله تعالى به أحبار اليهود خطاب الاحتجاج والتوبيخ بقوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} [الأنعام: 91]. ومنها: ما يتيسر لهم سلبه من أموال المخالفين لهم في جنسهم أو دينهم من خيانة وسرقة وغيرها، كما قال تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} [آل عمران: 75]، يعنون أن الله حرم عليهم أكل أموال إخوانهم الإسرائيليين بالباطل دون الأميين وهم العرب وكذا سائر الطوائف، وقد سبق تفسيره من سورة آل عمران، وفي هؤلاء يقول البوصيري في سرد ما خالف اليهود فيه الحق، وادعوا أنه مشروع لهم: وبأن أموال الطوائف حللت لهم ربا وخيانة وغلولا ومنها: الرشوة وهو ما يأخذه صاحب السلطة الدينية أو المدنية رسمية أو غير رسمية من المال وغيره لأجل الحكم أو المساعدة على إبطال حق، أو إحقاق باطل، وهو في معنى الأخذ على الفتوى، وهما مما اتبع فيه بعض فقهاء المسلمين وحكامهم سنن أهل الكتاب أيضاً. ومنها: الربا حتى الفاحش منه، وهو فاش عند اليهود والنصارى، ولكن منه ما يحله لهم رجال الدين، ومنه ما يحرمونه في الفتوى وكتب الشرع، واليهود أساتذة المرابين في العالم كله، وأحبارهم يفتونهم بأكل الربا من غير إخوتهم الإسرائيليين، ويأكلونه معهم مستحلين له بنص في توراتهم المحرفة بدلاً من نهيهم عنه. وقد تكرر في التوراة النهي عن أخذ الربا والمرابحة، وإقراض النقد والطعام بالربا مطلقاً، وذكر الأخ في نصوص النهي سببه أنه نص في المعاملة مع الخاضعين لشريعتهم وهم لا يكونون إلا منهم لأنها خاصة بهم...

ومن هذا النوع ما خاطب الله تعالى به أحبار اليهود خطاب الاحتجاج والتوبيخ بقوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} [الأنعام: 91]. ومنها: ما يتيسر لهم سلبه من أموال المخالفين لهم في جنسهم أو دينهم من خيانة وسرقة وغيرها، كما قال تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} [آل عمران: 75]، يعنون أن الله حرم عليهم أكل أموال إخوانهم الإسرائيليين بالباطل دون الأميين وهم العرب وكذا سائر الطوائف، وقد سبق تفسيره من سورة آل عمران،...

. ومنها: الربا حتى الفاحش منه، وهو فاش عند اليهود والنصارى، ولكن منه ما يحله لهم رجال الدين، ومنه ما يحرمونه في الفتوى وكتب الشرع، واليهود أساتذة المرابين في العالم كله، وأحبارهم يفتونهم بأكل الربا من غير إخوتهم الإسرائيليين، ويأكلونه معهم مستحلين له بنص في توراتهم المحرفة بدلاً من نهيهم عنه. وقد تكرر في التوراة النهي عن أخذ الربا والمرابحة، وإقراض النقد والطعام بالربا مطلقاً، وذكر الأخ في نصوص النهي سببه أنه نص في المعاملة مع الخاضعين لشريعتهم وهم لا يكونون إلا منهم لأنها خاصة بهم...

...والظاهر أنهم يعدون عرب فلسطين المالكين لمعظم أرضها أعداء حربيين كالذين كانوا فيها عند مقاتلة يوشع لهم، ويستحلون سلب أموالهم وسفك دمائهم إن استطاعوا؛ لأنهم يزعمون أن أنبياءهم وعدوهم بأن هذه البلاد كلها وما فيها من موضع هيكل سليمان ستعود إليهم وعد الرب أجدادهم من قبل يجعلها لهم، ولكن وعد أنبيائهم مقيد بإتيان المسيح، وقد أتى وكذبه أكثرهم، فإن كانوا ينتظرون غيره فليصبروا إلى أن يأتي ويصدق بشارات الأنبياء، وأما التعدي على أهل البلاد ومحاولة سلب أرضهم وعقارهم منهم بتسخير بعض الدول التي تعبد المال بمالهم لمساعدتهم على هذا الظلم فليس له شبهة في تلك البشارات. ولكن عند المسلمين بشارة أصح وأصرح من بشاراتهم، وهو إخباره صلى الله عليه وسلم لهم بأن اليهود يقاتلونهم فيظهرهم الله تعالى عليهم... {فانتظروا إنا منتظرون} [الأنعام: 158]. على أن اليهود لم يقفوا في الربا عند حد فقد صاروا يأكلون الربا من إخوتهم الفقراء، وهم منهيون في التوراة عنه بلفظ « شعبي الفقير»...،

وإن لبعض رهبناتهم جمعيات غنية معظم ثروتها من الربا، منها جمعية كانت قد أسست بأرض فرنسة مصرفاً مالياً (بنكا) جمعوا فيه من الأمانات ألوف الألوف، ثم ادعوا إفلاسه، فضاعت تلك الأمانات الكثيرة على مودعيها في مَصرفهم، فهاج عليهم الناس هيجة شؤمى، فكانوا يهجمون عليهم في أديارهم ويقتلونهم تقتيلاً، ثم طردتهم فرنسة من بلادها، وإنما تساعدهم في مستعمراتها وغيرها من بلاد الشرق لترويجهم لسياستها. وقد اطلعت على نظام في الطرق الخفية التي يجمعون بها الأموال من أهل دينهم ومذهبهم، ومن أهمها حمل الأغنياء -ولا سيما المثريات من النساء- على الوصية لجمعيتهم، أو بعض أديارهم وكنائسهم، أو الوقف عليها مما لا حاجة في هذا التفسير إلى تفصيله...

.

وأما صدهم عن سبيل الله فهو منعهم الناس عن الإسلام، فإن سبيل الله في الدين هي طريق معرفته الصحيحة وعبادته القويمة التي ترضيه، ورأس معرفته التوحيد والتنزيه، وهم مشركون غير موحدين، ومشبهون غير منزهين، كما علم من الآيات السابقة من هذا السياق وغيره مما مر في السور الطوال الأولى: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة، وأما عبادته القويمة فهي أن يعبد وحده بما شرعه هو دون البشر وليسوا كذلك، فاليهود قد تركوا جل ما شرعه لهم حتى القرابين والتقدمات، إذ يزعمون أن شرطها أن تفعل في هيكل سليمان، مع أن الله شرع الشرائع على لسان موسى قبل سليمان عليهما السلام، ثم كفروا بالمسيح المصلح الأكبر في شريعتهم، والنصارى يعبدون المسيح وأمه والقديسين، وجل عبادتهم من صلاة وصيام مبتدعة لم تكن في عهد المسيح. فمعرفة الله تعالى وعبادته على الوجه الحق المرضي له تعالى محصورة في الإسلام الذي حفظ الله كتابه المنزل، وما بينه من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكل ما ابتدعه جهلة المسلمين والكائدون له من غيرهم فالقرآن الحكيم والسنة الصحيحة حجة على بطلانه وعلى أهله، يقيمها أنصار السنة عليهم في كل زمان، فسبيل الله إذاً هذا الإسلام إسلام القرآن والسنة الصحيحة. وأما طرق صدهم عن الإسلام فهي تختلف باختلاف الزمان والمكان والإمكان، وقد انفرد النصارى بالعناية بهذا الصد من طريقي السياسة والدعوة معا كما بيناه في تفسير {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم} [التوبة: 32] من هذا السياق بالإجمال، وفصلنا القول فيه في مواضع أخرى من التفسير والمنار، وكل ذلك داخل في معنى الآية؛ لأن الخبر فيها بصيغة المضارع يدل على الحال والاستقبال، وهي من كلام علام الغيوب، وهم لا يقنعون بصد أهل مللهم عن الإسلام، بل يصدون أهله عنه ويدعونهم إلى دينهم الملفق من الأديان الوثنية القديمة كما تقدم، وقسمت أممهم ودولهم البلاد الإسلامية إلى مناطق نفوذ دينية تبشيرية، تابعة لمناطق النفوذ السياسية الدولية، وقد اشتدت ضراوتهم بعد الحرب العامة بسلب البلاد الإسلامية ما بقي من استقلالها، وتعميم النصرانية في جميع أهلها، حتى جزيرة العرب مهد الإسلام ومعقله ومأزره، وعقدوا للتنصير عدة مؤتمرات دولية، وألفوا للتمهيد له كتباً كثيرة، وقد سخروا بعض أمراء المسلمين المستعبدين وشيوخ الطريق والفقه المنافقين لشد أزرهم، فماذا تنكر بعد هذا من تسخير زنادقتهم وملاحدتهم. وماذا يفيد المسلم من قراءة مثل هذه الآية ومن تفسير علماء الألفاظ والروايات لها إذا لم يعرف مضمونها التفصيلي العملي في عصره، ويسعى لتدارك خطبه؟ وإنما فصلنا القول فيها لتفنيد تلك الدعاية، ونقض تلك المصنفات بالإجمال، وإرشاد المسلمين إلى ما يستمدون منه التفصيل. هذا وإن أشد طرقهم في الصد عن الإسلام فظاعة وقبحاً وإهانة لهو الطعن في النبي الأعظم والقرآن، وأشر منه وأضر تعليم المدارس التي يفسدون عقائد النشء الذي يتربى ويتعلم فيها، ولكن أكثر مسلمي الأمصار لا يعقلون كنه مفاسدها وسوء عاقبتها في الدين والأدب وسياسة الأمة واستقلالها...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

هذا تحذير من اللّه تعالى لعباده المؤمنين عن كثير من الأحبار والرهبان، أي: العلماء والعباد الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، أي: بغير حق، ويصدون عن سبيل اللّه، فإنهم إذا كانت لهم رواتب من أموال الناس، أو بذل الناس لهم من أموالهم فإنه لأجل علمهم وعبادتهم، ولأجل هداهم وهدايتهم، وهؤلاء يأخذونها ويصدون الناس عن سبيل اللّه، فيكون أخذهم لها على هذا الوجه سحتا وظلما، فإن الناس ما بذلوا لهم من أموالهم إلا ليدلوهم إلى الطريق المستقيم. ومن أخذهم لأموال الناس بغير حق، أن يعطوهم ليفتوهم أو يحكموا لهم بغير ما أنزل اللّه، فهؤلاء الأحبار والرهبان، ليحذر منهم هاتان الحالتان: أخذهم لأموال الناس بغير حق، وصدهم الناس عن سبيل اللّه. {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} أي: يمسكونها {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: طرق الخير الموصلة إلى اللّه، وهذا هو الكنز المحرم، أن يمسكها عن النفقة الواجبة، كأن يمنع منها الزكاة أو النفقات الواجبة للزوجات، أو الأقارب، أو النفقة في سبيل اللّه إذا وجبت.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يخطو السياق الخطوة الأخيرة في هذا المقطع من السورة، مصوراً كيف أن أهل الكتاب لا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله، بعد ما أشار إلى هذه الحقيقة في قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه) التي فسرها رسول اللّه -[ص]- بأنهم "أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم".. فبين أنهم إذن لا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله، إنما يحرمون ما حرمه عليهم الأحبار والرهبان! يخطو السياق الخطوة الأخيرة في بيان هذه الحقيقة مخاطباً بها الذين آمنوا كاشفاً لهم في هذا الخطاب عن حقيقة أهل الكتاب: (يا أيها الذين آمنوا، إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل اللّه. والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون)..

وفي الآية الأولى استطراد في بيان دور الأحبار والرهبان الذين اتخذهم أهل الكتاب أرباباً من دون اللّه، فاتبعوهم فيما يشرعون لهم من المعاملات ومن العبادات سواء. فهؤلاء الأحبار والرهبان يجعلون من أنفسهم ويجعلهم قومهم أرباباً تتبع وتطاع؛ وهم فيما يشرعون يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه. وأكل أموال الناس كان يتمثل في صور شتى وما يزال: منها ما يأخذونه على فتاوى تحليل الحرام وتحريم الحلال لصالح من يملكون المال أو السلطان. ومنها ما يأخذه القسيس أو الكاهن مقابل الاعتراف له بالخطايا وغفرانه -بالسلطان المخول للكنيسة في زعمهم- لتلك الخطايا! ومنها الربا -وهو أوسع أبوابها وأبشعها- وغيرها كثير. كذلك ما يجمعونه من أموال الناس لمحاربة دين الحق؛ وقد كان الرهبان والأساقفة والكرادلة والبابوات يجمعون مئات الملايين في الحروب الصليبية، وما يزالون يجمعونها للتبشير والاستشراق للصد عن سبيل اللّه. ولابد أن نلحظ الدقة القرآنية والعدل الإلهي في قول اللّه تعالى في ذلك. (إن كثيراً من الأحبار والرهبان..). للاحتراز من الحكم على القليل منها الذي لا يزاول هذه الخطيئة. ولا بد من أفراد في أية جماعة من الناس فيهم بقية خير.. ولا يظلم ربك احداً.. والكثير من الأحبار والرهبان يكنزون هذه الأموال التي يأكلونها بالباطل. وقد شهد تاريخ هؤلاء الناس أموالاً ضخمة تنتهي إلى أيدي رجال الدين وتؤول إلى الكنائس والأديرة. وقد جاء عليهم زمان كانوا أكثر ثراء من الملوك المتسلطين والأباطرة الطغاة!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف ابتدائي لتنبيه المسلمين على نقائص أهل الكتاب، تحقيراً لهم في نفوسهم، ليكونوا أشدّاء عليهم في معاملتهم، فبعد أن ذكر تأليه عامتهم لأفاضل من أحبارهم ورهبانهم المتقدّمين: مثل عُزير، بين للمسلمين أنّ كثيراً من الأحبار والرهبان المتأخّرين ليسوا على حال كمال، ولا يستحقّون المقام الديني الذي ينتحلونه، والمقصود من هذا التنبيه أن يعلم المسلمون تمالأ الخاصّة والعامّة من أهل الكتاب، على الضلال وعلى مناواة الإسلام، وأنّ غرضهم من ذلك حبّ الخاصة الاستئثار بالسيادة، وحبّ العامّة الاستئثار بالمزية بين العرب. وافتتاح الجملة بالنداء واقترَانها بحرفي التأكيد، للاهتمام بمضمونها ورفع احتمال المبالغة فيه لغرابته...

والباطل يشمل وجوها كثيرة، منها تغيير الأحكام الدينية لموافقة أهواء الناس، ومنها القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحبِ الحقّ حقّه المعين له في الشريعة، ومنها جحد الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم، ومنها أكل أموال اليتامى، وأموال الأوقاف والصدقات...

والأجل ما في الصدّ من معنى صدّ الفاعل نفسَه أتت صيغة مضارعهِ بضمّ العين: اعتباراً بأنّه مضاعف متعدّ، ولذلك لم يجيء في القرآن إلاّ مضموم الصاد ولو في المواضع التي لا يراد فيها أنّه يصدّ غيره، وتقدّم ذكر شيء من هذا عند قوله تعالى: {الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً} في... {والذين يكنزون الذهب والفضة ثم لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} جملة معطوفة على جملة {يأيها الذين آمنوا إن كثيراً} والمناسبة بين الجمْلتين: أنّ كلتيهما تنبيه على مساوي أقوام يضَعُهم الناس في مقامات الرفعة والسؤدد وليسوا أهلاً لذلك، فمضمون الجملة الأولى بيان مساوي أقوام رفع الناس أقدارهم لعلمهم ودينهم، وكانوا منطوين على خبائث خفيّة، ومضمون الجملة الثانية بيان مساوي أقوام رفعهم الناس لأجل أموالهم، فبين الله أنّ تلك الأموال إذا لم تنفق في سبيل الله لا تغني عنهم شيئاً من العذاب...

وأمّا وجه مناسبة نزول هذه الآية في هذه السورة: فذلك أنّ هذه السورة نزلت إثر غزوة تبوك، وكانت غزوة تبوك في وقت عُسرة، وكانت الحاجة إلى العُدّةِ والظهر كثيرة، كما أشارت إليه آية {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92] وقد ورد في « السيرة» أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حض أهل الغنى على النفقة والحُمْلان في سبيل الله، وقد أنفق عثمان بن عفان ألفَ دينار ذهباً على جيش غزوة تبوك وحَمَل كثيرٌ من أهل الغنى فالذين انكمشوا عن النفقة هم الذين عنتهم الآية ب {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} ولا شكّ أنّهم من المنافقين...

و {سبيل الله} هو الجهاد الإسلامي وهو المراد هنا. فالموصول مراد به قوم معهودون يَعرِفون أنّهم المراد من الوعيد، ويعرفهم المسلمون فلذلك لم يثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنبَ قوماً بأعيانهم...

والوعيد منوط بالكَنز وعدمِ الإنفاق، فليس الكنز وحْده بمتوعد عليه، وليست الآية في معرض أحكام ادّخار المال، وفي معرض إيجاب الإنفاق، ولا هي في تعيين سبل البرّ والمعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تُؤدّ زكاته حين وجوبها، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة، ولا إلى تأويل {سبيل الله} بالصدقات الواجبة، لأنّه ليس المراد باسم الموصول العموم بل أريد به العهد، فلا حاجة إلى ادّعاء أنّها نسختها آية وجوب الزكاة، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وإن الله تعالى حافظ دينه، وإذا كان المسلمون قد غلبوا على أمرهم بعمل حكامهم، فإنه لا تزال طائفة منهم قائمة على الحق تنادي به وتحفظه. بعد أن بين الله الضلال الذي أضل به الأحبار والرهبان اليهود والنصارى إذ اتخذوا أربابا من دون الله، وذكر أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد أرسل بالهدى والدين الحق ليزيل ضلالهم، وليظهر بالحق على الدين عاد إلى الكلام في الأحبار وكيف فسدوا وأفسدوا، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35). الخطاب للذين آمنوا والنداء لهم بالبعيد، والخبر عن أحبار اليهود ورهبان النصارى، فلماذا كان الإخبار للذين آمنوا؟، ألمجرد القصص الحكيم الذي تكون فيه العبرة أم له ولأمر آخر يطويه الإخبار بقول إن القصص لا ريب فيه العبرة كما قال تعالى: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (يوسف)، ولكنه يطوي أمرين آخرين، وهما. أولا: ألا يثق المؤمنون بهم بما يلبسونه من طقوس، ومسوح يلقون بها بين الناس المهابة منهم والثقة فيبين الله للمؤمنين أنهم يتجرون بعلمهم، ويأخذون الرشا وسحت المال، والاتجار بالعلم في ذاته غير جائز، فكيف إذا كان الثمن رشا وبراطيل وسحت المال. وثانيا: ليكون ذلك تحذيرا لمن يتعلمون علم الإسلام بألا يتخذوه متجرا يتجرون به، فعلم الإسلام أعلى ما يدخره العلماء فلا يبيعونه ولا يحطون به على هوى الحكام، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير: (والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال سفيان الثوري: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى ...

...

والحاصل التحذير من التشبيه بهم في أقوالهم وأحوالهم، ويقول في ذلك الفقيه عبد الله بن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها. {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ} معناها يأخذونها بغير مسوغ ديني، وعبر عن الأخذ بالأكل لأن الأكل في الأصل هو أوضح الغايات، ولأنه ينبئ عن الشره والطمع في الأموال وأخذها بغير حق، وذلكم أنهم كانوا يأخذون سحت الأموال، ويبيعون ما يحلونه لأنفسهم من الدين، ويأخذون البراطيل، وكلما زادت ثقة الناس فيهم ازدادوا طمعا في أموالهم، بل فيما هو أفحش من باطل الأموال، وبعد أن ضعف الدين في قلوب علمائنا كان منهم من يفعل مثل فعلهم، ويقول في ذلك ابن كثير: (وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين، ومناصبهم، ورياستهم في الناس يأكلون بها أموالهم، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف، ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم، فلما بعث رسوله صلى الله عليه وآله وسلم استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات فأطفأها الله بنور النبوة، وسلبهم إياها). وإن نور النبوة المحمدية بعد أن بزغ، وعم ضياؤه كان مزيلا لما يشيعه الأحبار والقسيسون من إفساد وضلال، ولذلك لما فتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية كان بعده الإصلاح المسيحي، مع أن حال المسلمين لم تكن كما أراد لها الإسلام. كلمة (والأحبار) فسرناها من قبل بالعلماء الذين يحبرون العلم، ويزينونه بحسن الأداء والبيان واللسان والقلم، ولكن بعض المفسرين يفسرون الأحبار بأنهم علماء اليهود، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت} (المائدة 63) وأما علماء النصارى فيقال عنهم قسيسون، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} (المائدة 82) والرهبان عباد النصارى ولعلهم يقابلون الربانيين في اليهودية ولا مانع من هذه التسمية، ولعن إطلاق الأحبار بما يسع القسيسين ليكون سيرا على الأصل اللغوي من معنى كلمة الأحبار. وعبر سبحانه وتعالى عن كل كسب خبيث بقوله تعالى: {بالباطل}؛ لأن الباطل يشمل أخذ المال بغير حق، يبرر الأخذ بالخديعة أو بالغش والتدليس والاتجار بدين الله تعالى. ومع أنهم كانوا يخدعون الناس بتدينهم الآنف، وخصوصا الرهبان كانوا يصدون عن سبيل الله تعالى، فقال تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} فكأنهم يتخذون مسوحهم ورياستهم الدينية، لابتزاز الأموال، وأخذها بغير حقها، والعبث بها، واكتنازها متخذين في ذلك مظاهرهم ذريعة لمآثمهم، يصدون ويمنعون أتباعهم الذين اتخذوهم فريسة لأهوائهم من أن يتبعوا الحق، والنور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو سبيل الحق الذي لا يمترى فيه عاقل، ولا ذو قلب، وبصر، كما قال تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام 153). وإن الأموال التي يأخذونها يجمعونها، ويكنزونها، ومأواهم جهنم، ولذا قال سبحانه بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم}. وهذا النص الكريم يبين أن جمع المال لا يجدي، ويضر صاحبه، ومآله شر في الدنيا والآخرة، والكنز في اللغة: الضم والجمع لكل شيء ثمين سواء دفن في باطن الأرض، أو لم يدفن، ولكن شاع استعماله فيما يدفن في باطن الأرض، ولكن شيوعه لا يمنع أصل إطلاقه، ولا يمنع الشيوع من أن يطلق على الأصل اللغوي القوى، ولذا قال شيخ المفسرين الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها. وظاهر الآية يدل على أنها عامة تعم الأحبار والرهبان وغيرهم من المسلمين وغيرهم، ولكمنها سيقت في مقام الكلام على أكل الرهبان والأحبار لأموال الناس بالباطل، ولا يمنع ذلك من عموم؛ لأن لفظها عام، والعبرة بعموم اللفظ، وقد جرت مناقشة في ذلك بين أبي ذر الصحابي الجليل، ومعاوية بن أبي سفيان، ولنذكر بعضها: قال الحافظ ابن كثير: (كان من مهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتى بذلك، ويحث الناس عليه ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه). كان الصحابي الطاهر المؤمن يعيش في الشام، والأمير معاوية، وأبو ذر يجهر برأيه ويحث الناس عليه ويستنكر النعيم الذي يرفل فيه معاوية، ومن يواليه، فأبلغ أمره إلى أمير المؤمنين عثمان ذى النورين، فأحضر أبا ذر، فاختار أبو ذر أن يقيم بالربذة، ولكن الراجح من الروايات أن عثمان هو الذي أنزله بها، وبها مات رضي الله عنه. وقد روى البخاري عن زيد بن وهب: مررت بالربذة، فإذا بأبي ذر فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟، قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ}. فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك، فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها، فكثر علي الناس كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال: إن شئت تنحين فسكنت قريبا، فقال: فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمر علي عبد حبشي لسمعت وأطعت. وإن هذا الحديث يدل على أنه اختار هذا البعد، وربما يكون قد اختار الربذة بالذات. وفي المناقشة بينه وبين معاوية أغلظ، وقد أراد معاوية أن يغويه بالمال أو يختبره وهو عنده، أيوافق عمله أم لا، فبعث إليه بألف دينار، ففرقها على الفقراء من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها، فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت، فهات الذهب، فقال: ويحك إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبتك. وفي الحق أن أبا ذر قد أصاب كل الإصابة في قوله: إن الآية تعم الأحبار والرهبان وأتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخطأ معاوية، وما لمعاوية وفقه القرآن!. ويحق إذن أن نقول أن الآية عامة لا تخص الأحبار والرهبان، ولا نسير إلى المدى الذي يسير إليها سيدنا أبو ذر الصحابي المخلص بحيث لا يبيح لذي المال إلا ما يكفيه وعياله كما كان يفعل في ذات نفسه، ويدعو إليه. روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه، ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، فقضت منها سبعة، فقلت: لو ادخرت لحاجة بيوتك، وللضيف ينزل بك، فقال: إن خليلي أوصاني أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله إفراغا. ولقد قال ابن عبد البر: (وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على معاني الزكاة). ونحن نتبع جمهور الصحابة؛ وذلك لأنه إذا لم يبق شيء من المال بعد نفقاته ونفقات عياله لم يكن ثمة زكاة، لعدم وجود وعاء لها، فشرعية الزكاة توجب مالا مدخرا حولا، وذلك ينافي ما ذهب إليه أبو ذر رضي الله عنه. وأيضا فإن الأخذ برأي الصحابي الجليل ينافي الميراث؛ لأن الميراث يكون في المال الذي يبقى، وقد منع الصحابي الجليل بقاء أي مال يورث أو تجب فيه الزكاة. وأيضا فإن معنى رأيه إلغاء الوصية مع الميراث، وقد شرعت الوصية بالقرآن، وبالحديث" النبوي، فقد روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال: (إن الله تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث مالكم فضعوه حيث شئتم) (1). ولقد كان من الصحابة منت لهم ثروات في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما استنكرها عليهم، فعثمان كان ثريا وتاجرا، وعبد الرحمن بن عوف كان ثريا وتاجرا، وأبو بكر وعمر كانا من ذوي الأموال. وإنه لو أخذ برأي أبي ذر ما كانت التجارات، فأسواقها تقوم على رؤوس الأموال، وما كانت الصناعات، فهي أيضا تقوم على رؤوس الأموال. من أجل هذا كان لا بد من تخصيص كنز الذهب والفضة الذي أوعد الله تعالى، وقد خصصوه من ذات النص القرآني فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ}، إن الوعيد على الأمرين مجتمعين لا على أمر واحد منهما. فليس الوعيد على الكنز، وإنما الوعيد على الأمرين معا، على الكنز وعلى عدم الإنفاق في سبيل الله تعالى، فإذا وجدا معا كان التبشير بالعذاب الأليم، وكان الوعيد الشديد لمن يمنع الإنفاق مع أنه يكنز المال، ولذا تضاربت الروايات على أن من يعطي الزكاة لا يكون عليه إثم الكانزين، بل إنه لا يعد كانزا لأمن يخرج حقه في سبيل الله، وإنما الكانز هو الجامع للمال الذي يمنع حقه. وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بأن الإنفاق يمتنع إثم الكانز الذي يجمع المال، وإنما ورد في الأثر الصحيح: (نعم المال الصالح في يد العبد الصالح) (1). ويجب أن نشير هنا إلى أن الآية تشير إلى أن المال لا يكنز من الذهب والفضة، بل يجب أن يخرج للاستغلال الحلال بالاتجار، والصناعة، والزراعة، ولا يبقى في الخزائن، كالماء العطن الذي لا ينتفع به، وفي الآية إشارات بيانية: منها – قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} فإن في الآية تهكما عليهم؛ لأن العذاب الأليم لا يبشر به، بل يهدد به، وفي التعبير بقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم} تهكم بهم، إذ إنهم كانوا يرتقبون خيرات في الآخرة من تكاثرهم في المال واكتنازه فجاءت العقبى غير ما يرتقبون. ومنها – أن الضمير أعيد على الذهب والفضة بضمير المؤنث في قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ}، لملاحظة المعنى وهو الدنانير من الذهب، والدراهم من الفضة، وهي جمع، فأعيد عليها بضمير المؤنث، وهو ما لا يعقل يكون بالضمير المؤنث. والثالثة – أنه ذكر الكنز في الذهب والفضة دون غيرهما مع أن الأموال كثيرة، وكان المال يطلق على النعم دون غيرها، وأجيب عنها بأن الذهب والفضة تطلق على كل المال، وهما مقياس التقدير لكل الأموال، وقد قال في ذلك الزمخشري: إنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما، لم يعدم سائر أجناسي المال، فكان ذكر كنزهما دليلا على ما سواهما. هذا معنى الآية الكريمة فيما يظهر لنا، ويجب أن ننبه إلى أنه لا يصح النهم في المال إلا للقيام بمصلحة عامة، ولا يصح أن يكون المال مطلبا ذاتيا، وغرضا مقصودا لذاته لا للتمكن من النعم، فإنه حينئذ يلهى عن المقاصد السامية، كما قال تعالى: {ألهاكم التكاثر (1) حتى زرتم المقابر (2)} (التكاثر) (1)، ولأنه يصير عبدا للمال، لا سيدا متصرفا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول/: (تعس عبد الدرهم) – وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (تبا للذهب تبا للفضة) قالها ثلاثا فقالوا له: أي مال نتخذ: قال: (لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا، وزوجة تعين أحدكم على دينه (2) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها) (3)...