61- واذكروا - أيها اليهود - أيضاً يوم سيطر البطر على أسلافكم ، ولم يؤدوا لنعمة الله حقها فقالوا لموسى : إننا لن نصبر على طعام واحد ( وهو المن والسلوى ) فادع لنا ربك كي يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقولها وقثائها وعدسها وثومها وبصلها ، فتعجب موسى من ذلك ، وأنكره عليهم فقال لهم : أتفضلون هذه الأصناف على ما هو أفضل وأحسن ، وهو المن والسلوى ؟ . . فانزلوا إذن من سيناء وادخلوا مدينة من المدن فإنكم ستجدون فيها ما تريدون ، وبسبب ذلك البطر والعناد أحاطت بهؤلاء اليهود المذلة والفقر والخنوع ، واستحقوا غضب الله عليهم لما ألفوه من العناد والعصيان ، وما جروا عليه من الكفر بآيات الله وبقتلهم الأنبياء مخالفين بذلك الحق الثابت المقرر ، وقد جرأهم على ذلك - الكفر وهذا القتل - ما رُكِّب في نفوسهم من التمرد والعدوان ومجاوزة الحد في المعاصي .
{ وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ } .
هي معطوفة على الجمل قبلها بأسلوب واحد ، وإسناد القول إلى ضمير المخاطبين جار على ما تقدم في نظائره وما تضمنته الجمل قبلها هو من تعداد النعم عليهم محضة أو مخلوطة بسوء شكرهم وبترتب النعمة على ذلك الصنيع بالعفو ونحوه كما تقدم ، فالظاهر أن يكون مضمون هذه الجملة نعمة أيضاً .
وللمفسرين حيرة في الإشارة إليها فيؤخذ من كلام الفخر أن قوله تعالى : { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } هو كالإجابة لما طلبوه يعني والإجابة إنعام ولو كان معلقاً على دخول قرية من القرى ، ولا يخفى أنه بعيد جداً لأن إعطاءهم ما سألوه لم يثبت وقوعه . ويؤخذ من كلام المفسرين الذي صدر الفخر بنقله ووجهه عبد الحكيم أن سؤالهم تعويض المن والسلوى بالبقل ونحوه معصية لما فيه من كراهة النعمة التي أنعم الله بها عليهم إذ عبروا عن تناولها بالصبر والصبر هو حمل النفس على الأمر المكروه ويدل لذلك أنه أنكر عليهم بقوله : { أتستبدلون الذي هو أدنى } فيكون محل النعمة هو الصفح عن هذا الذنب والتنازع معهم إلى الإجابة بقوله : { اهبطوا } ولا يخفى أن هذا بعيد إذ ليس في قوله { اهبطوا } إنعام عليهم ولا في سؤالهم ما يدل على أنهم عصوا لأن طلب الانتقال من نعمة لغيرها لغرض معروف لا يعد معصية كما بينه الفخر .
فالذي عندي في تفسير الآية أنها انتقال من تعداد النعم المعقبة بنعم أخرى إلى بيان سوى اختيارهم في شهواتهم والاختيار دليل عقل اللبيب ، وإن كان يختار مباحاً ، مع ما في صيغة طلبهم من الجفاء وقلة الأدب مع الرسول ومع المنعم إذ قالوا : { لن نصبر } فعبروا عن تناول المن والسلوى بالصبر المستلزم الكراهية وأتوا بما دل عليه { لن } في حكاية كلامهم من أنهم لا يتناولون المن والسلوى من الآن فإن { لن } تدل على استغراق النفي لأزمنة فعل { نصبر } من أولها إلى آخرها وهو معنى التأبيد وفي ذلك إلجاء لموسى أن يبادر بالسؤال يظنون أنهم أيأسوه من قبول المن والسلوى بعد ذلك الحين فكان جواب الله لهم في هذه الطلبة أن قطع عنايته بهم وأهملهم ووكلهم إلى نفوسهم ولم يُرهم ما عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد فلق البحر وتظليل الغمام بل قال لهم : { اهبطوا مصراً } فأمرهم بالسعي لأنفسهم وكفى بذلك تأديباً وتوبيخاً .
قال الشيخ ابن عطاء الله رحمه الله : من جهل المريد أن يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه فيقول لو كان في هذا إساءة لعوقبت فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر ولو لم يكن إلا منع المزيد ، وقد يقام مقام البعد من حيث لا يدري ، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد ، والمقصد من هذا أن ينتقل من تعداد النعم إلى بيان تلقيهم لها بالاستخفاف لينتقل من ذلك إلى ذكر انقلاب أحوالهم وأسباب خذلانهم وليس شيء من ذلك بمقتضى كون السؤال معصية فإن العقوبات الدنيوية وحرمان الفضائل ليست من آثار خطاب التكليف ولكنها من أشباه خطاب الوضع ترجع إلى ترتب المسببات على أسبابها وذلك من نواميس نظام العالم وإنما الذي يدل على كون المجزي عليه معصية هو العقاب الأخروي وبهذا زالت الحيرة واندفع كل إشكال وانتظم سلك الكلام .
وقد أشارت الآية إلى قصة ذكرتها التوراة مجملة منتثرة وهي أنهم لما ارتحلوا من برية سينا من « حوريب » ونزلوا في برية « فاران » في آخر الشهر الثاني من السنة الثانية من الخروج سائرين إلى جهات « حبرون » فقالوا : تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجاناً ( أي يصطادونه بأنفسهم ) والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم وقد يبست نفوسنا فلا ترى إلا هذا المن فبكَوا فغضب الله عليهم وسأله موسى العفو فعفا عنهم وأرسل عليهم السلوى فادخروا منها طعام شهر كامل .
والتعبير بلن المفيدة لتأبيد النفي في اللغة العربية لأداء معنى كلامهم المحكي هنا في شدة الضجر وبلوغ الكراهية منهم حدها الذي لا طاقة عنده ، فإن التأبيد يفيد استغراق النفي في جميع أجزاء الأبد أولها وآخرها فلن في نفي الأفعال مثل لا التبرئة{[131]} في نفي النكرات .
ووصفوا الطعام بواحد وإن كان هو شيئين المن والسلوى لأن المراد أنه متكرر كل يوم .
وجملة { يخرج لنا } إلى آخرها هي مضمون ما طلبوا منه أن يدعو به فهي في معنى مقول قول محذوف كأنه قيل قل لربك يخرج لنا ومقتضى الظاهر أن يقال أن يخرج لنا فعدل عن ذلك إلى الإتيان بفعل مجزوم في صورة جواب طلبهم إيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن دعا ربه أجابه حتى كأنَّ إخراج ما تنبت الأرض يحصل بمجرد دعاء موسى ربه ، وهذا أسلوب تكرر في القرآن مثل قوله : { قل لعباديَ الذين آمنوا يقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 31 ] . و { قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } [ الإسراء : 53 ] وهوكثير فهو بمنزلة شرط وجزاء كأن قيل إن تدعُ ربك بأن يخرجَ لنا يخرجْ لنا ، وهذا بتنزيل سبب السبب منزلة السبب فجزم الفعل المطلوب في جواب الأمر بطلبه لله للدلالة على تحقق وقوعه لثقتهم بإجابة الله تعالى دعوة موسى ، وفيه تحريض على إيجاد ما علق عليه الجواب كأنه أمر في مكنته فإذا لم يفعل فقد شح عليهم بما فيه نفعهم .
والإخراج : الإبراز من الأرض ، و { من } الأولى تبعيضية والثانية بيانية أو الثانية أيضاً تبعيضية لأنهم لا يطلبون جميع البقل بل بعضه ، وفيه تسهيل على المسؤول ويكون قوله : { من بقلها } حالاً من { ما } أو هو بدل من { ما تنبت } بإعادة حرف الجر ، وعن الحسن : >{[132]} .
وقد اختلف في الفُوم فقيل : هو الثُوم بالمثلثة وإبدال الثاء فاءً شائع في كلام العرب كما قالوا : جدث وجدف وثَلَغ وفَلغ ، وهذا هو الأظهر والموافق لما عد معه ولما في التوراة . وقيل الفوم الحنطة وأنشد الزجاج لأحيحة بن الجلاح :
قد كنتُ أغنى الناس شخصاً واحداً *** وردَ المدينَة من مزارع فـوم
( يريد مزارع الحنطة ) وقيل الفوم الحِمَّص بلغة أهل الشام .
وقوله : { قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } هو من كلام موسى وقيل من كلام الله وهو توبيخ شديد لأنه جرده عن المقنعات وعن الزجر ، واقتصر على الاستفهام المقصود منه التعجب فالتوبيخُ . وفي الاستبدال للخير بالأدنى النداء بنهاية حماقتهم وسوء اختيارهم .
وقوله : { أتستبدلون } السين والتاء فيه لتأكيد الحدث وليس للطلب فهو كقوله : { واستغنى الله } [ التغابن : 6 ] وقولهم استجاب بمعنى أجاب ، واستكبر بمعنى تكبر ، ومنه قوله تعالى : { كان شره مستطيراً } في سورة الإنسان ( 7 ) . وفعل استبدل مشتق من البدل بالتحريك مثل شبَه ، ويقال بكسر الباء وسكون الدال مثل شِبْه ويقال بَدِيل مثل شَبيه وقد سمع في مشتقاته استبدل وأبْدَل وبَدَّل وتَبَدَّل وكلها أفعال مزيدة ولم يسمع منه فعل مجرد وكأنهم استغنوا بهذه المزيدة عن المجرد ، وظاهر كلام صاحب في سورة النساء ( 2 ) عند قوله تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } أن استبدل هو أصلها وأكثرها وأن تبدل محمول عليه لقوله والتفعل بمعنى الاستفعال غزير ومنه التعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار .
وجميع أفعال مادة البدل تدل على جعل شيء مكان شيء آخر من الذوات أو الصفات أوعن تعويض شيء بشيء آخر من الذوات أو الصفات .
ولما كان هذا معنى الحدث المصوغ منه الفعل اقتضت هذه الأفعال تعدية إلى متعلقين إما على وجه المفعولية فيهما معاً مثل تعلق فعل الجَعل ، وإما على وجه المفعولية في أحدهما والجر للآخر مثل متعلقي أفعال التعويض كاشترى وهذا هو الاستعمال الكثير ، فإذا تعدى الفعل إلى مفعولين نحو { يوم تبدل الأرض غير الأرض } [ إبراهيم : 48 ] كان المفعول الأول هو المزال والثاني هو الذي يخلُفه نحو قوله تعالى : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسناتٍ } [ الفرقان : 70 ] { يوم تبدل الأرض غير الأرض } وقولهم أبدلت الحَلْقة خاتَما ، وإذ تعدت إلى مفعول واحد وتعدت إلى الآخر بالباء وهو الأكثر فالمنصوب هو المأخوذ والمجرور هو المبذول نحو قوله هنا : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وقوله ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } [ البقرة : 108 ] وقوله في سورة النساء { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } ، وقد يجر المعمول الثاني بِمن التي هي بمعنى باء البدلية كقول أبي الشيص :
بُدِّلْتُ من مُرد الشباب ملاءة *** خَلَقا وبئس مثُوبة المقتاض
وقد يعدل عن تعدية الفعل إلى الشيء المعوض ويعدى إلى آخذ العوض فيصير من باب أعطى فينصب مفعولين وينبه على المتروك بما يدل على ذلك من نحو مِن كذا ، وبعد كذا ، كقوله تعالى : { وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } [ النور : 55 ] التقدير ليبدلن خوفهم أمناً هذا تحرير طريق استعمال هذه الأفعال .
ووقع في « الكشاف » عند قوله تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } ما يقتضي أن فعل بدل له استعمال غير استعمال فعل استبدل وتبدل بأنه إذا عدي إلى المعمول الثاني بالباء كان مدخول الباء هو المأخوذ وكان المنصوب هو المتروك والمعطى فقرره القطب في « شرحه » بما ظاهره أن بَدَّل لا يكون في معنى تعديته إلا مخالفاً لتبدل واستبدل ، وقرره التفتزاني بأن فيه استعمالين إذا تعدى إلى المعمول الثاني بالباء أحدهما يوافق استعمال تبدل والآخر بعكسه ، والأظهر عندي أن لا فرق بين بدل وتبدل واستبدل وأن كلام « الكشاف » مُشكل وحسبك أنه لا يوجد في كلام أئمة اللغة ولا في كلامه نفسه في كتاب « الأساس » .
فالأمر في قوله : { اهبطوا } للإباحة المشوبة بالتوبيخ أي إن كان هذا همكم فاهبطوا بقرينة قوله : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } فالمعنى اهبطوا مصراً من الأمصار يعني وفيه إعراض عن طلبهم إذ ليس حولهم يومئذ بلد قريب يستطيعون وصوله . وقيل : أراد اهبطوا مصرَ أي بلدَ مصرَ بلدَ القبطِ أي ارجعوا إلى مصر التي خرجتم منها والأمر لمجرد التوبيخ إذ لا يمكنهم الرجوع إلى مصر . واعلم أن مصر على هذا المعنى يجوز منعه من الصرف على تأويله بالبقعة فيكون فيه العلمية والتأنيث ، ويجوز صرفه على تأويله بالمكان أو لأنه مؤنث ثلاثي ساكن الوسط مثل هِنْد فهو في قراءة ابن مسعود بدون تنوين وأنه في مصحف أبيّ بن كعب بدون ألف وأنه ثبت بدون ألف في بعض مصاحف عثمان قاله ابن عطية ، وذكَر أن أشهب قال قال لي مالك : هي عندي مصر قريتُك مسكنُ فرعون اهـ . ويكون قول موسى لهم : { اهبطوا مصراً } أمراً قصد منه التهديد على تذكُّرهم أيام ذلهم وعنائهم وتمنيهم الرجوع لتلك المعيشة ، كأنه يقول لهم ارجعوا إلى ما كنتم فيه إذ لم تقدُروا قدر الفضائل النفسية ونعمة الحرية والاستقلال . وربما كان قوله : { اهبطوا } دون لنهبط مؤذناً بذلك لأنه لا يريد إدخال نفسه في هذا الأمر وهذا يذكر بقول أبي الطيب :
فإن كان أعجبكم عامُكم *** فعودوا إلى حِمْص في القابل
وقوله : { فإن لكم ما سألتم } الظاهر أن الفاء للتعقيب عطفت جملة { إن لكم ما سألتم } على جملة { اهبطوا } للدلالة على حصول سؤلهم بمجرد هبوطهم مصر أو ليست مفيدة للتعليل إذ ليس الأمر بالهبوط بمحتاج إلى التعليل بمثل مضمون هذه الجملة لظهور المقصود من قوله : { اهبطوا مصراً } ولأنه ليس بمقام ترغيب في هذا الهبوط حتى يشجع المأمور بتعليل الأمر والظاهر أن عدم إرادة التعليل هو الداعي إلى ذكر فاء التعقيب لأنه لو أريد التعليل لكانت إن مغنية غناء الفاء على ما صرح به الشيخ عبد القاهر في « دلائل الإعجاز » في الفصل الخامس والفصل الحادي عشر من فصول شتى في النظم إذ يقول : واعلم أن من شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه أي الذي في قول بشار :
بكرا صاحبيَّ قبل الهجير *** إن ذاك النجاحَ في التبكير
أن تغني غناء الفاء العاطفة مثلاً وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمراً عجيباً فأنت ترى الكلام بها مستأنفاً غير مستأنف مقطوعاً موصولاً معاً وقال إنك ترى الجملة إذا دخلت إن ترتبط بما قبلها وتأتلف معه حتى كأن الكلامين أفرغا إفراغاً واحداً حتى إذا أسقطت إن رأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول وتجافى معناه عن معناه حتى تجيء بالفاء فتقول مثلاً :
بكرا صاحبيَّ قبل الهجير *** بكرا فالنجاحَ في التبكير
ثم لا ترى الفاء تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة وهذا الضرب كثير في التنزيل جداً من ذلك قوله تعالى : { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم } [ الحج : 1 ] وقوله : { يا بني أقم الصلاة } إلى قوله : { إن ذلك من عزم الأمور } [ لقمان : 17 ] وقال : { وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم } ( التوبة 103 ) إلخ . فظاهر كلام الشيخ أن وجود إن في الجملة المقصود منها التعليل والربط مغن عن الإتيان بالفاء ، وأن الإتيان بالفاء حينئذ لا يناسب الكلام البليغ إذ هو كالجمع بين العوض والمعوض عنه فإذا وجدنا الفاء مع إن علمنا أن الفاء لمجرد العطف وإن لإرادة التعليل والربط بين الجملتين المتعاطفتين بأكثر من معنى التعقيب . ويستخلص من ذلك أن مواقع التعليل هي التي يكون فيها معناه بين مضمون الجملتين كالأمثلة التي ذكرها .
وجعل أبو حيان في « البحر المحيط » جملة { فإن لكم ما سألتم } جواباً للأمر زعم أن الأمر كما يجاب بالفعل يجاب بالجملة الاسمية ولا يخفى أن كلا المعنيين ضعيف ههنا لعدم قصد الترغيب في هذا الهبوط حتى يعلل أو يعلق ، وإنما هو كلام غضب كما تقدم . واقتران الجملة بإن المؤكدة لتنزيلهم منزلة من يشك لبعد عهدهم بما سألوه حتى يشكون هل يجدونه من شدة شوقهم ، والمحب بسوء الظن مُغرى .
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } .
عطف على الجمل المتقدمة بالواو وبدون إعادة إذ ، فأما عطفه فلأن هاته الجملة لها مزيد الارتباط بالجمل قبلها إذ كانت في معنى النتيجة والأثر لمدلول الجمل قبلها من قوله : { وإذ نجيناكم من آل فرعون } [ البقرة : 49 ] فإن مضمون تلك الجمل ذكر ما منَّ الله تعالى به عليهم من نعمة تحريرهم من استعباد القبط إياهم وسوقهم إلى الأرض التي وعدهم فتضمن ذلك نعمتي التحرير والتمكين في الأرض وهو جعل الشجاعة طوع يدهم لو فعلوا فلم يقدروا قدر ذلك وتمنوا العود إلى المعيشة في مصر إذ قالوا { لن نصبر على طعام واحد } كما فصلناه لكم هنالك مما حكته التوراة وتقاعسوا عن دخول القرية وجبنوا عن لقاء العدو كما أشارت له الآية الماضية وفصلته آية المائدة فلا جرم إذ لم يشكروا النعمة ولم يقدروها أن تنتزع منهم ويسلبوها ويعوضوا عنها بضدها وهو الذلة المقابلة للشجاعة إذ لم يثقوا بنصر الله إياهم والمسكنة وهي العبودية فتكون الآية مسوقة مساق المجازاة للكلام السابق فهذا وجه العطف .
وأما كونه بالواو دون الفاء فليكون خبراً مقصوداً بذاته وليس متفرعاً على قول موسى لهم : { أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير } لأنهم لم يشكروا النعمة فإن شكر النعمة هو إظهار آثارها المقصودة منها كإظهار النصر للحق بنعمة الشجاعة وإغاثة الملهوفين بنعمة الكرم وتثقيف الأذهان بنعمة العلم فكل من لم يشكر النعمة فهو جدير بأن تسلب عنه ويعوض بضدها قال تعالى : { فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل } [ سبأ : 16 ] الآية ، ولو عطف بغير الواو لكان ذكره تبعاً لذكر سببه فلم يكن له من الاستقلال ما ينبه البال .
فالضمير في قوله : { وضربت عليهم . . . وباءوا } إلخ عائدة إلى جميع بني إسرائيل لا إلى خصوص الذين أبوا دخول القرية والذين قالوا : { لن نصبر على طعام واحد } بدليل قوله { ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيئين بغير الحق } فإن الذين قتلوا النبيئين هم أبناء الذين أبوا دخول القرية وقالوا : { لن نصبر } فالإتيان بضمير الغيبة هنا جار على مقتضى الظاهر لأنهم غير المخاطبين فليس هو من الالتفات إذ ليس قوله : { وضربت عليهم الذلة } إلخ من بقية جواب موسى إياهم لما علمت من شموله للمتحدث عنهم الآبين دخول القرية ولغيرهم ممن أتى بعدهم فقد جاء ضمير الغيبة على أصله ، أما شموله للمخاطبين فإنما هو بطريقة التعريض وهو لزوم توارث الأبناء أخلاق الآباء وشمائلهم كما قررناه في وجه الخطابات الماضية من قوله : { وإذ فرقنا بكم البحر } [ البقرة : 50 ] الآيات ويؤيده التعليل الآتي بقوله : { ذلك بأنهم كانوا يكفرون } المشعر بأن كل من اتصف بذلك فهو جدير بأن يثبت له من الحكم مثل ما ثبت للآخر .
والضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة ، يقال ضرب بعصا وبيده وبالسيف وضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق . فمنه ضرب في الأرض : سار طويلاً ، وضرب قبة وبيتاً في موضع كذا بمعنى شدها ووثقها من الأرض . قال عبدة بن الطبيب :
* إن التي ضربتْ بيتاً مُهاجرة *
* في قبة ضربت على ابن الحشرج *
وضربَ الطين على الحائط ألصقه ، وقد تقدم ما لجميع هذه المعاني عند قوله تعالى : { إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها } [ البقرة : 26 ] .
فقوله : { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } استعارة مكنية إذ شبهت الذلة والمسكنة في الإحاطة بهم واللزوم بالبيت أو القبة يضربها الساكن ليلزمها وذكر الضرب تخييل لأنه ليس له شبيه في علائق المشبه . ويجوز أن يكون ضربت استعارة تبعية وليس ثمة مكنية بأن شبه لزوم الذلة لهم ولصوقها بلصوق الطين بالحائط ، ومعنى التبعية أن المنظور إليه في التشبيه هو الحدث والوصف لا الذات بمعنى أن جريان الاستعارة في الفعل ليس بعنوان كونه تابعاً لفاعل كما في التخييلية بل بعنوان كونه حدثاً وهو معنى قولهم أجريت في الفعل تبعاً لجريانها في المصدر وبه يظهر الفرق بين جعل ضربت تخييلاً وجعله تبعية وهي طريقة في الآية سلكها الطيبي في { شرح الكشاف } وخالفه التفتزاني وجعل الضرب استعارة تبعية بمعنى الإحاطة والشمول سواء كان المشبه به القبة أو الطين ، وهما احتمالان مقصودان في هذا المقام يشعر بهما البلغاء .
ثم إن قوله تعالى : { وضربت عليهم الذلة } ليس هو من باب قول زياد الأعجم :
إن السماحة والمروءة والندى *** في قبة ضربت على ابن الحشرج{[133]}
لأن القبة في الآية مشبه بها وليست بموجودة والقبة في البيت يمكن أن تكون حقيقة فالآية استعارة وتصريح والبيت حقيقة وكناية كما نبه عليه الطيبي وجعل التفتزاني الآية على الاحتمالين في الاستعارة كناية عن كون اليهود أذلاء متصاغرين وهي نكت لا تتزاحم .
والذلة الصغار وهي بكسر الذال لا غير وهي ضد العزة ولذلك قابل بينهما السموأل أو الحارثي في قوله :
وما ضَرَّنا أنا قَليل وجارُنا *** عَزِيز وجارُ الأكثرين ذَليل
والمسكنة الفقر مشتقة من السكون لأن الفقر يقلل حركة صاحبه . وتطلق على الضعف ومنه المسكين للفقير . ومعنى لزوم الذلة والمسكنة لليهود أنهم فقدوا البأس والشجاعة وبدا عليهم سيما الفقر والحاجة مع وفرة ما أنعم الله عليهم فإنهم لما سئموها صارت لديهم كالعدم ولذلك صار الحرص لهم سجية باقية في أعقابهم .
والبوء الرجوع وهو هنا مستعار لانقلاب الحالة مما يرضي الله إلى غضبه .
{ ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
استئناف بياني أثاره ما شنع به حالهم من لزوم الذلة والمسكنة لهم والإشارة إلى ما تقدم من قوله : { وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب } . وأفرد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور وهو أولى بجواز الإفراد من إفراد الضمير في قول رؤبة :
فِيها خطوط من سَواد وَبَلقْ *** كأنَّه في الجِلْدِ توليع البَهَق
قال أبو عبيدة لرؤبة : إن أردت الخطوط فقل كأنها وإن أردت السواد والبياض فقل كأنهما فقال رؤبة : « أردت كأن ذلك ويلك » وإنما كان ما في الآية أولى بالإفراد لأن الذلة والمسكنة والغضب مما لا يشاهد فلا يشار إلى ذاتها ولكن يشار إلى مضمون الكلام وهو شيء واحد أي مذكور ومقول ومن هذا قوله تعالى :
{ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم } [ آل عمران : 58 ] أي ذلك القصص السابق . ومنه قوله تعالى : { عوان بين ذلك } [ البقرة : 68 ] وسيأتي .
وقال صاحب « الكشاف »{[134]} « والذي حسن ذلك أن أسماء الإشارة ليست تثنيتها وجمعها وتأنيثها على الحقيقة وكذلك الموصولات ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع » اهـ قيل أراد به أن جمع أسماء الإشارة وتثنيتها لم يكن بزيادة علامات بل كان بألفاظ خاصة بتلك الأحوال فلذلك كان استعمال بعضها في معنى بعض أسهل إذا كان على تأويل ، وهو قليل الجدوى لأن المدار على التأويل والمجاز سواء كان في استعمال لفظ في معنى آخر أو في استعمال صيغة في معنى أخرى فلا حسن يخص هذه الألفاظ فيما يظهر فلعله أراد أن ذا موضوع لجنس ما يشار إليه . والذي موضوع لجنس ما عرف بصلة فهو صالح للإطلاق على الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث وإن ما يقع من أسماء الإشارة والموصولات للمثنى نحو ذان وللجمع نحو أولئك ، إنما هو اسم بمعنى المثنى والمجموع لا أنه تثنية مفرد ، وجمع مفرد ، فذا يشار به للمثنى والمجموع ولا عكس فلذلك حسن استعمال المفرد منها للدلالة على المتعدد .
والباء في قوله : { بأنهم كانوا يكفرون } سببية أي إن كفرهم وما معه كان سبباً لعقابهم في الدنيا بالذلة والمسكنة وفي الآخرة بغضب الله وفيه تحذير من الوقوع في مثل ما وقعوا فيه .
وقوله : { ويقتلون النبيئين بغير الحق } خاص بأجيال اليهود الذين اجترموا هذه الجريمة العظيمة سواء في ذلك من باشر القتل وأمر به ومن سكت عنه ولم ينصر الأنبياء . وقد قتل اليهود من الأنبياء أشعياء بن أموص الذي كان حياً في منتصف القرن الثامن قبل المسيح ، قتله الملك منسى ملك اليهود سنة 700 قبل المسيح نشر نشراً على جذع شجرة . وأرمياء النبيء الذي كان حياً في أواسط القرن السابع قبل المسيح وذلك لأنه أكثر التوبيخات والنصائح لليهود فرجموه بالحجارة حتى قتلوه وفي ذلك خلاف . وزكرياء الأخير أبا يحيى قتله هيرودس العبراني ملك اليهود من قبل الرومان لأن زكرياء حاول تخليص ابنه يحيى من القتل وذلك في مدة نبوءة عيسى ، ويحيى بن زكرياء قتله هيرودس لغضب ابنة أخت هيرودس على يحيى .
وقوله : { بغير الحق } أي بدون وجه معتبر في شريعتهم فإن فيها : { أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } [ المائدة : 32 ] فهذا القيد من الاحتجاج على اليهود بأصول دينهم لتخليد مذمتهم ، وإلا فإن قتل الأنبياء لا يكون بحق في حال من الأحوال ، وإنما قال ( الأنبياء ) لأن الرسل لا تسلط عليهم أعداؤهم لأنه مناف لحكمة الرسالة التي هي التبليغ قال تعالى :
{ إنا لننصر رسلنا } [ غافر : 51 ] وقال : { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] ومن ثم كان ادعاء النصارى أن عيسى قتله اليهود ادعاء منافياً لحكمة الإرسال ولكن الله أنهى مدة رسالته بحصول المقصد مما أرسل إليه .
وقوله : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } يحتمل أن تكون الإشارة فيه إلى نفس المشار إليه بذلك الأولى فيكون تكريراً للإشارة لزيادة تمييز المشار إليه حرصاً على معرفته ، ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة ولغضب الله تعالى عليهم ، والآية حينئذ من قبيل التكرير وهو مغن عن العطف مثل قوله تعالى : { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } [ الأعراف : 179 ] .
ويجوز أن يكون المشار إليه بذلك الثاني هو الكفر بآيات الله وقتلهم النبيئين فيكون { ذلك } إشارة إلى سبب ضرب الذلة إلخ فما بعد كلمة { ذلك } هو سبب السبب تنبيهاً على أن إدمان العاصي يفضي إلى التغلغل فيها والتنقل من أصغرها إلى أكبرها .
والباء على الوجهين سببية على أصل معناها . ولا حاجة إلى جعل إحدى الباءين بمعنى مع على تقدير جعل اسم الإشارة الثاني تكريراً للأول أخذاً من كلام « الكشاف » الذي احتفل به الطيبي فأطال في تقريره وتفنين توجيهه فإن فيه من التكلف ما ينبو عنه نظم القرآن . وكان الذي دعا إلى فرض هذا الوجه هو خلو الكلام عن عاطف يعطف { بما عصوا } على { بأنهم كانوا يكفرون } إذا كانت الإشارة لمجرد التكرير . ولقد نبهناك آنفاً إلى دفع هذا بأن التكرير يغني غناء العطف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فلما طال عليهم المن والسلوى، سألوا موسى نبات الأرض، فذلك قوله عز وجل: {وإذ قلتم يا موسى} في التيه.
{لن نصبر على طعام واحد}، يعني المن والسلوى.
{فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها} يعني الثوم،
{وعدسها وبصلها}، فغضب موسى، عليه السلام،
{قال أتستبدلون الذي هو أدنى}، يقول: الذي هو دون المن والسلوى من نبات الأرض {بالذي هو خير}، يعني المن والسلوى، فقال موسى:
{فإن لكم ما سألتم} من نبات الأرض.
{وضربت عليهم الذلة}، يعني على اليهود الذلة، وهي الجزية.
{وباءو بغضب من الله}، يعني استوجبوا غضب الله عز وجل.
{ذلك} الذل والمسكنة الذي نزل بهم.
{بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله}.
{ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} في أديانهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
واذكروا إذ قلتم يا معشر بني إسرائيل: لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد، وذلك الطعام الواحد هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم، وهو السلوى في قول بعض أهل التأويل، وفي قول وهب بن منبه هو الخبز النّقيّ مع اللحم. فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء. وما سمى الله مع ذلك وذكر أنهم سألوه موسى. وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا عن قتادة...قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كان لهم بمصر، فسألوه موسى، فقال الله تعالى:"اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ"...
فتأويل الكلام إذا على ما وصفنا من أمر من ذكرنا: فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها. والبقل والقثاء والعدس والبصل، هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها. وأما الفوم، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه. فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز.
وهو في بعض القراءات «وثومها». وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا فوما من اللغة القديمة، حكي سماعا من أهل هذه اللغة: فوّموا لنا، بمعنى اختبزوا لنا وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود «وثومها» بالثاء. فإن كان ذلك صحيحا فإنه من الحروف المبدلة، كقولهم: وقعوا في عاثور شرّ وعافور شرّ، وكقولهم للأثافي أثاثي، وللمغافير مغاثير، وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء...
"أتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أدْنَى بالّذِي هُوَ خَيْرٌ": قال لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخسّ خطرا وقيمة وقدرا من العيش، بدلاً بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا، وذلك كان استبدالهم. وأصل الاستبدال: هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك.
ومعنى قوله: "أدْنى": أخسّ وأوضع وأصغر قدرا وخطرا، وأصله من قولهم: هذا رجل دنيّ بيّن الدناءة، وإنه ليدني في الأمور -بغير همز- إذا كان يتتبع خسيسها... ولا شكّ أن من استبدل بالمنّ والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم، فقد استبدل الوضيع من العيش بالرفيع منه.
وقد تأول بعضهم قوله: "الّذي هُوَ أدْنَى "بمعنى الذي هو أقرب، ووجه قوله: "أدنى" إلى أنه أفعل من الدنوّ الذي هو بمعنى القرب...
" اهْبِطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ": فدعا موسى فاستجبنا له، فقلنا لهم: اهبطوا مصر. وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه. وقد دللنا فيما مضى على أن معنى الهبوط إلى المكان إنما هو النزول إليه والحلول به.
فتأويل الآية إذا: "وَإذْ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ على طَعامٍ وَاحِدٍ فادْعُ لَنا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثائها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها" قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخسّ وأردأ من العيش بالذي هو خير منه؟ فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه، فاستجاب الله له دعاءه، فأعطاهم ما طلبوا، وقال الله لهم: "اهْبطُوا مِصْرا فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ".
ثم اختلف القرّاء في قراءة قوله: مِصْرا؛ فقرأه عامة القرّاء: «مصرا» بتنوين المصر وإجرائه وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه. فأما الذين نوّنوه وأجروه، فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار لا مصرا بعينه، فتأويله على قراءتهم: اهبطوا مصرا من الأمصار، لأنكم في البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي، وإنما يكون في القرى والأمصار، فإن لكم إذا هبطتموه ما سألتم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك بالإجراء والتنوين، كان تأويل الكلام عنده: اهبطوا مصرا البلدة التي تعرف بهذا الاسم وهي «مصر» التي خرجوا عنها، غير أنه أجراها ونوّنها اتباعا منه خط المصحف، لأن في المصحف ألفا ثابتة في مصر، فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين سبيل من قرأ: "قَوَارِيرا قَوَارِيرا" مِنْ فِضّةٍ منوّنة اتباعا منه خط المصحف. وأما الذي لم ينوّن مصر فإنه لا شك أنه عنى مصر التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها.
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك نظير اختلاف القرّاء في قراءته:
عن قتادة [وغيره]: "اهْبِطُوا مِصْرا" أي مصرا من الأمصار فإنّ لَكُمْ ما سألْتُمْ.
وقال آخرون: هي مصر التي كان فيها فرعون.
ومن حجة من قال: إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: "اهْبُطُوا مِصْرا" مصرا من الأمصار دون مصر فرعون بعينها، أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر، وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة إذ قال لهم: "يا قَوْمُ ادْخُلُوا الأرْضُ المُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لكُمْ وَلاَ تَرْتَدّوا على أدْبارِكُم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسَى إنّ فِيهَا قَوْما جَبّارِينَ" إلى قوله: "إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدا ما دَامُوا فِيها فاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قَاعِدُونَ". فحرّم الله جل وعز على قائل ذلك فيما ذكر لنا دخولها حتى هلكوا في التيه وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة، ثم أهبط ذرّيتهم الشام، فأسكنهم الأرض المقدسة، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون بعد وفاة موسى بن عمران. فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردّهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها، فيجوز لنا أن نقرأ اهبطوا مصر، ونتأوّله أنه ردّهم إليها.
قالوا: فإن احتجّ محتجّ بقول الله جل ثناؤه: "فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وأوْرَثْناها بَنِي إسْرَائِيلَ". قيل لهم: فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك فملكهم إياها ولم يردّهم إليها، وجعل مساكنهم الشأم.
وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: "اهْبِطُوا مِصْرا" مِصْرَ، فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: "فأخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأوْرَثْنَاها بَنِي إسْرَائِيلَ" وقوله: "كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنِعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كذلِكَ وأوْرَثْناها قَوْما آخَرِينَ". قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورّثهم ذلك وجعلها لهم، فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها، وإلا فلا وجه للانتفاع بها إن لم يصيروا أو يصر بعضهم إليها. قالوا: وأخرى أنها في قراءة أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود: «اهْبِطُوا مِصْرَ» بغير ألف، قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها مصر بعينها.
والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر، وأهل التأويل متنازعون تأويله.
فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض على ما بينه الله جل وعز في كتابه وهم في الأرض تائهون، فاستجاب الله لموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه، وجائز أن يكون ذلك القرار مصر، وجائز أن يكون الشأم. فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين: "اهْبِطُوا مِصْرا" وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين، واتفاق قراءة القراء على ذلك. ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينها.
" وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ".
يعني بقوله: "وَضُرِبَتْ" أي فُرضت، ووضعت عليهم الذلة وأُلزموها من قول القائل: ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة، وضرب الرجل على عبده الخراج: يعني بذلك وضعه، فألزمه إياه، ومن قولهم: ضرب الأمير على الجيش البعث، يراد به ألزمهموه.
وأما الذلة، فهي الفعلة من قول القائل: ذلّ فلان يذلّ ذلاً وذلة، والذلة: هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم، فقال جل وعز: "قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلاَ بالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِين أُوتُوا الكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ"... عن الحسن وقتادة في قوله: "وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ" قالا: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
وأما "المسكنة"، فإنها مصدر المسكين، يقال: ما فيهم أسكن من فلان وما كان مسكينا ولقد تمسكن مسكنة. ومن العرب من يقول: تمسكن تمسكنا. والمسكنة في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة، وهي خشوعها وذلها... [وهي] الفقر.
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: "وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالمَسْكَنَةُ": قال هؤلاء يهود بني إسرائيل. قلت له: هم قبط مصر، قال: وما لقبط مصر وهذا؟ لا والله ما هم هم، ولكنهم اليهود، يهود بني إسرائيل؛ فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعزّ ذلاّ، وبالنعمة بؤسا، وبالرضا عنهم غضبا، جزاءً منه لهم على كفرهم بآياته وقتلهم أنبياءه ورسله اعتداءً وظلما منهم بغير حقّ، وعصيانهم له، وخلافا عليه.
"وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ": انصرفوا ورجعوا، ولا يقال باءوا إلا موصولاً إما بخير وإما بشرّ، يقال منه: باء فلان بذنبه يبوء به بَوْءا وَبَواءً. ومنه قول الله عزّ وجلّ "إني أرِيد أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ" يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني.
فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم منه سخط...
" ذلكَ بأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرون بآياتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الحَقّ".
يعني بقوله جل ثناؤه: «ذلك» ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وإحلاله غضبه بهم. فدل بقوله: «ذلك» وهو يعني به ما وصفنا على أن قول القائل ذلك يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها.
" بِأنّهُمْ كانُوا يَكْفُرونَ": من أجل أنهم كانوا يكفرون، يقول: فعلنا بهم من إحلال الذلّ والمسكنة والسخط بهم من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحقّ... يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا، وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا. وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى الكفر: تغطية الشيء وستره، وأن آيات الله: حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله.
فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده، وتصديق رسله ويدفعون حقيتها، ويكذبون بها.
ويعني بقوله: "وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الحَقّ": ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم لإنباء ما أرسلهم به عنه لمن أرسلوا إليه. وهم جماع واحدهم نبيّ غير مهموز، وأصله الهمز، لأنه من أنبأ عن الله، فهو ينبئ عنه إنباء، وإنما الاسم منه منبئ ولكنه صرف وهو «مُفعِل» إلى «فَعِيل»، كما صرف سميع إلى فعيل من مفعل، وبصير من مبصر، وأشباه ذلك... وقد قال بعضهم: النبي والنبوّة غير مهموز، لأنهما مأخوذان من النّبْوَة، وهي مثل النجوة، وهو المكان المرتفع. وكان يقول: إن أصل النبي الطريق...يقول: إنما سمي الطريق نبيا، لأنه ظاهر مستبين من النّبوّة.
" وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الحَقّ": أنهم كانوا يقتلون رسل الله بغير إذن الله لهم بقتلهم منكرين رسالتهم جاحدين نبوّتهم.
"ذلكَ بمَا عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ".
وقوله: "ذلكَ": ردّ على «ذلك» الأولى. ومعنى الكلام: وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله، من أجل كفرهم بآيات الله، وقتلهم النبيين بغير الحقّ، من أجل عصيانهم ربهم، واعتدائهم حدوده فقال جل ثناؤه: "ذلك بِمَا عَصَوْا" والمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين. والاعتداء: تجاوز الحدّ الذي حدّه الله لعباده إلى غيره، وكل متجاوز حدّ شيء إلى غيره فقد تعدّاه إلى ما جاوز إليه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك بما عصوا أمري، وتجاوزوا حدّي إلى ما نهيتهم عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(وضربت عليهم الذلة) قيل فيه بوجوه: قيل (الذلة) ذلة احتمال المؤنة والشدائد لما سألوا من الأطعمة المختلفة، وقيل: (الذلة) ذلة الجزية والصغار، بعصيانهم ربهم، وقيل (الذلة) ذلة الكسب والعمل لأن الأول كان يأتيهم من غير كسب ولا مؤنة.
قوله تعالى: (والمسكنة) قيل: قطع رجائهم عن الآخرة لما عصوا ربهم.
وقوله تعالى: (وباءوا بغضب من الله) قيل فيه بوجوه: قيل: باءوا رجعوا، وقيل: باءوا استوجبوا، وقيل: باءوا أقروا، وكله يرجع إلى واحد...
[و] الآيات، هي الحجج التي أعطى الرسل، وأجراها على أيديهم...
(ويقتلون النبيئين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) يحتمل أن يكون هذا في غيرهم لأنه لم يكن في زمن موسى نبي سوى هارون، وهم لم يقتلوه، إلا أن يقال: إن ذلك كان من أولادهم بعد موسى أو كان من غيرهم سوى هؤلاء وأولادهم على أن قتل الأنبياء في بني إسرائيل كان ظاهرا حتى قيل: قتل في يوم كذا كذا نبيا، ولم يذكر قتل رسول من الرسل؛ وذلك، والله أعلم، لقوله: (إنا لننصر رسلنا) [غافر: 51] ولقوله: (إنهم لهم المنصورون) [الصافات: 172]. أخبر أنه ينصرهم وأنهم منصورون؛ ومن كان الله ناصره فهو المنصور أبدا، ولأن الرسل هم الذين أوتوا الآيات التي كانت معهم. وأما الأنبياء فلم يكن معهم تلك الآيات المعجزة، وإنما كانوا يدعون الخلق إلى دين الله بالآيات التي كانت للرسل والحجج التي كانت معهم. لذلك كان ما ذكر، والله أعلم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{ويقتلون النبيّين بِغَيْرِ الْحَقِّ} مثل أشعيا وزكريا ويحيى وسائر من قتل اليهود من الأنبياء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كانوا فلاحة فنزعوا إلى عَكَرِهم فأَجَموا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء {على طَعَامٍ واحد} أرادوا ما رزقوا في التيه من المنّ والسلوى. فإن قلت: هما طعامان فما لهم قالوا على طعام واحد؟ قلت: أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها، قيل: لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً يراد بالوحدة نفي التبدّل والاختلاف.
ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد، لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والتترف، ونحن قوم فِلاَحَةٍ أهل زراعات، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة كالحبوب والبقول ونحو ذلك.
ومعنى {يُخْرِجْ لَنَا} يظهر لنا و يوجد.
والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر. والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها...
{اهبطوا مِصْرًا} وقرئ «اهبُطوا» بالضم: أي انحدروا إليه من التيه. يقال: هبط الوادي إذا نزل به، وهبط منه، إذا خرج...
{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضربت عليه. أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب، كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة، إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم، خيفة أن تضاعف عليهم الجزية.
{وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله} من قولك: باء فلان بفلان، إذا كان حقيقاً بأن يقتل به، لمساواته له ومكافأته، أي صاروا أحقاء بغضبه.
فإن قلت: قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير الحق، فما فائدة ذكره؟ قلت: معناه أنهم قتلوهم بغير الحق عندهم، لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا. وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقون به القتل عندهم.
وقرأ عليّ رضي الله عنه «ويقتِّلون» بالتشديد
{بِمَا عَصَواْ} بسبب ارتكابهم أنواع المعاصي واعتدائهم حدود الله في كل شيء، مع كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء. وقيل: هو اعتداؤهم في السبت. ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر وقتل الأنبياء على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم؛ لأنهم انهمكوا فيهما وغلوا حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء، أو ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا.
واعلم أن سؤال النوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض:
الأول: أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين سنة ملوه فاشتهوا غيره،
الثاني: لعلهم في أصل الخلقة ما تعودوا ذلك النوع وإنما تعودوا سائر الأنواع ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيسا فوق رغبته فيما لم يعتده وإن كان شريفا.
الثالث: لعلهم ملوا من البقاء في التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس تلك الأطعمة.
الرابع: أن المواظبة على الطعام الواحد سبب لنقصان الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة والاستكثار من الأنواع يعين على تقوية الشهوة وكثرة الالتذاذ، فثبت أن تبديل النوع بالنوع يصلح أن يكون مقصود العقلاء...
{ويقتلون النبيين بغير الحق} فالمعنى أنهم يستحقون ما تقدم لأجل هذه الأفعال أيضا وفيه سؤالات.
السؤال الأول: أن قوله تعالى: {يكفرون} دخل تحته قتل الأنبياء فلم أعاد ذكره مرة أخرى؟ الجواب: المذكور ههنا الكفر بآيات الله، وذلك هو الجهل والجحد بآياته فلا يدخل تحته قتل الأنبياء.
السؤال الثاني: لم قال: {بغير الحق} وقتل الأنبياء لا يكون إلا على هذا الوجه؟ الجواب من وجهين:
(الأول): أن الإتيان بالباطل قد يكون حقا لأن الآتي به اعتقده حقا لشبهة وقعت في قلبه. وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلا، ولا شك أن الثاني أقبح فقوله: {ويقتلون النبيين بغير الحق} أي أنهم قتلوهم من غير أن كان ذلك القتل حقا في اعتقادهم وخيالهم بل كانوا عالمين بقبحه ومع ذلك فقد فعلوه.
(وثانيها): أن هذا التكرير لأجل التأكيد كقوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به} ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان.
(وثالثها): أن الله تعالى لو ذمهم على مجرد القتل لقالوا: أن الله يقتلهم ولكنه تعالى قال: القتل الصادر من الله قتل بحق ومن غير الله قتل بغير حق...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا ضرب آخر مما ذكر الله تعالى به بني إسرائيل في سياق دعوتهم إلى الإسلام قال صاحب الكشاف: كانوا قوما فلاحة فنزعوا إلى عكرهم فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة وطلبت أنفسهم الشقاء ا ه وقال الأستاذ الإمام في تفسيره ونقده ورده، ما نصه: فلاحة بتشديد اللام جمع فلاح بمعنى الزراع، وعكرهم بكسر العين أصلهم، وأجم الطعام من باب ضرب وعلم كرهه من المداومة عليه. وهو بيان لما بعثهم على أن يسألوا موسى أن يدعو ربه ليخرج لهم تلك الأشياء التي طلبوها والسبب في جهرهم بذلك وثورتهم عليه كأنه يقول: إن الحامل لهم على ذلك هو تمكن العادة من نفوسهم فلما خرجوا منها وجاءهم ما لم يكونوا يألفون نزعوا إلى ما كانوا قد عودوه من قبل. ولو كان الأمر كما قال لكان في ذلك التماس عذر لهم، ولما عد الله هذا القول في خطاياهم، بل إن السآمة من تناول طعام واحد قد يكون من لوازم الطباع البشرية إلا ما شذ منها لعادة أو ضرورة ولا يعد ما هو من منازع الطباع جرما إذا لم يسقط ذلك في محظور. وسياق الآيات قبلها وما يلحق بعد ذلك من قوله تعالى {وإذ أخذنا ميثاقكم} الخ كل ذلك يدل على أن ما عدد من أفاعيلهم مع تضافر الآيات بين أيديهم وتوارد نعم الله عليهم كله من خطاياهم، ومن ذلك قوله تعالى {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبث الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها} ويؤكد ذلك إيراد تلك العقوبة الشديدة من ضرب الذلة والمسكنة واستحقاق غضب الله تعالى عقب مقالهم هذا.
والذي يقع عليه الفهم من الآية أن النزق قد استولى على طباعهم وملك البطر أهواءهم حتى كانوا يستخفون بذلك الأمر العظيم الذي هيأهم الله له من التمكن في الأرض الموعودة والخروج من الخسف الذي كانوا فيه. ومع كثرة ما شاهدوا من آيات الله القائمة على صدق وعده لهم لم تستيقنه أنفسهم، بل كانوا على ريب منه، وكانوا يظنون أن موسى عليه السلام خدعهم بإخراجهم من مصر وجاء بهم في البرية ليهلكهم، فلذلك دأبوا على إعناته والإكثار من الطلب فيما يستطاع وما لا يستطاع حتى ييأس منهم فيرتد بهم إلى مصر حيث ألفوا الذلة ولهم مطمع في العيش وأمل في الخلاص من الهلكة، فما ذكره الله عنهم في هذه الآية على حد قولهم {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} ويرشد إلى ما فيه من الإعنات قولهم: {لن نصبر على طعام واحد}. فقد عبر عن مسألتهم بما فيه حرف النفي الذي يأتي لسلب الفعل في مستقبل الزمان مع تأكيده فكأنهم قالوا: اعلم أنه لم يبق لك أمل في بقائنا معك على هذه الحالة من التزام طعام واحد فإن كانت لك منزلة عند الله كما تزعم فادعه يخرج لنا ما يمكن معه أن نبقى معك إلى أن يتم الوعد الذي وعدك ووعدتنا – وهم يعلمون أنهم كانوا في برية غير منبتة، وربما لم يكن قولهم هذا عن سآمة ولا أجم من وحدة الطعام، ولكنه نزق وبطر كما بينا وطلب للخلاص مما يخشون على أنفسهم. ويؤيد ذلك ما هو معروف في أخباره. ووصفوا الطعام بالواحد مع أنه نوعان – المن والسلوى – لأنهما طعام كل يوم، والعرب تقول لمن يأكل كل يوم عدة ألوان لا تتغير: إنه يأكل من طعام واحد. كأنهم ينظرون إلى أن مجموع الألوان هي غذاؤه الذي لا يتغير فهي غذاء واحد فإذا تغيرت الألوان تغير نوع الغذاء فكان طعاما متعددا.
والبقل من النبات ما ليس بشجر دقّ ولا جل كما ذكره ابن سيده. وقال أبو حنيفة ما ينبت في بزرة ولا ينبت في أرومة ثابتة. وفرق ما بين البقل ودق الشجر أن البقل إذا رعي لم يبق له ساق، والشجر تبقى له سوق وإن دقت.
وأرادوا من البقل ما يطعمه الإنسان من أطايب الخضر... والقثاء هي أخت الخيار...
{قال} موسى عليه السلام تقريعا لهم على أشرهم وإنكارا لتبرمهم {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟} أي أتطلبون هذه الأنواع الخسيسة بدل ما هو خير منها وهو المن والسلوى؟ والمن فيه الحلاوة التي تألفها أغلب الطباع البشرية والسلوى من أطيب لحوم الطير وفي مجموعها غذاء تقوم به البنية وليس فيما طلبوه ما يساويهما لذة وتغذية. أقول: والأدنى في اللغة الأقرب، واستعير للأخس والأدون كما استعير البعد للرفعة. والاستبدال طلب شيء بدل من آخر، والباء تدخل المبدل منه المراد تركه. ثم قال {اهبطوا مصرا} من الأمصار {فإن لكم ما سألتم} أي فإنكم إن هبطتموه ونزلتموه وجدتم فيه ما سألتم. أما هذه الأرض التي قضى الله أن تقيموا فيها إلى أجل محدود فليس من شأنها أن تنبت هذه البقول وإن الله جل شأنه لم يقض عليكم بالتيه في هذه البرية إلا لجبنكم وضعف عزائمكم عن مغالبة من دونكم من أهل الأمصار، فلو صح ما تزعمون من كراهتكم للطعام الواحد فأنتم الذين قضيتم به على أنفسكم بما فرط منكم. فإن أردتم الخلاص مما كرهتم فأقدموا على محاربة من يليكم من سكان الأرض الموعودة، فإن الله كافل لكم النصر عليهم، وعند ذلك تجدون طلبتكم فالتمسوا الخير في أنفسكم وفي أفعالكم فإن الله لا يضيع أجر العاملين.
قال تعالى {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} الذلة والذل خلق خبيث من أخلاق نفس الإنسان يضاد الإباء والعزة، وأصل المادة فيه معنى اللين. فالذل بالكسر اللين وبالضم والكسر ضد الصعوبة، وإذا تتبعت المادة وجدتها لا تخلو من هذا المعنى. صاحب هذا الخلق لين ينفعل لكل فاعل، ولا يأبى ضيم ضائم. غير أن هذا الخلق الذي يهون على النفس قبول كل شيء لا يظهر أثره غالبا على البدن وفي القول إلا عند الاستدلال والقهر، وكثيرا ما ترى الأذلاء تحسبهم أعزاء، يختالون في مشيتهم من الكبرياء، ويباهون بما لهم من سلف وآباء، وربما فاخروا من لا يخشون سطوته من الكبراء.
وإذا ما خلا الجبان بأرض***طلب الطعن وحده والنزالا
ولكن متى شعر الذليل بنية من نفس القاهر أو طاف بذهنه خيال يد تمتد إليه استخذى واستكان، وظهر السكون على بدنه، واشتمل الخشوع على قوله وفعله، وهذا الأثر الذي يسطع من النفس على البدن هو الذي يسمى المسكنة. وإنما سمي الفقر مسكنة لأن العائل المحتاج تضعف حركته ويذهب نشاطه فهو بعدم ما يسد عوزه كأنه يقرب من عالم الجماد، فلا تظهر فيه حاجة الاحياء فيسكن. والمشاهدة ترشدنا إلى تحقيق ما عليه أهل المسكنة في أوضاع أعضائهم، وما يبدو على وجوههم، وما طبع في أقوالهم وأعمالهم. فضرب الذلة والمسكنة على اليهود هو جعل الذل وضعف العزيمة محيطين بهم كما تحيط القبة المضروبة بمن فيها. أو إلصاقهما بطباعهم كما تطبع الطغرى على السكة.
{وباؤوا بغضب من الله} أي رجعوا به كما يقال رجع أو عاد بصفقة المغبون – إذا كان ذلك آخر شوطه ومنتهى سعيه. وكذلك كان آخر أطوار اليهود في بغيهم أيام ملكهم. والمراد به فقد الملك وما يتبعه. وقال شيخنا استحقوا غضبه ومن استحقه فقد أصابه، فقد غضب الله عليهم، وتنكير الغضب دلالة على أنه نوع عظيم من سخطه جل شأنه.
{ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله} (أقول) أي ذلك العقاب بضرب الذلة والمسكنة وبالغضب الإلهي بسبب ما جروا عليه من الكفر بآيات الله الخ فإنهم بإحراجهم لموسى عليه السلام وإعناتهم له في المطالب، مع كثرة ما شاهدوا من العجائب، وما أظهر الله لهم من الغرائب، قد دلوا على أن لا أثر للآيات في نفوسهم، فهم بها كافرون في الحقيقة. ونسيان الآيات وعدها كأن لم تكن يعده الكتاب العزيز كفرا كما قال شيخنا.
{ويقتلون النبيين بغير الحق} مع أن الكتاب يحرم عليهم قتل غير الأنبياء فضلا عنهم إلا بحقه المبين فيه، كل ذلك دل فيهم على طباع بعيدة عن الكرم، وقلوب غلف دون الفهم، ومن كان هذا شأنه فالأجدر به أن يكون ذليلا مقهورا، ثم هو مهبط غضب الله ومحط نقمه، لأنه أشد الناس كفرا لنعمه، وقوله {بغير الحق} مع أن قتل النبيين لا يكون إلا كذلك يزيد في شناعة حالهم، ويصرح بأنهم لم يكونوا مخطئين في الفهم، ولا متأولين للحكم، بل ارتكبوا هذا الجرم العظيم عامدين، وهم يعلمون أنهم بارتكابه مخالفون لما شرع الله تعالى لهم في كتاب دينهم.
{ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} قال الأستاذ: ذلك الذل وتلك الخلاقة بالغضب إنما لزماهم لأنهم عصوا الله فيما أمرهم أن يأخذوا به من الأحكام، ولأنهم اعتدوا تلك الحدود التي حدها الله لهم في شرائع أنبيائهم، وقد كانت تلك الأحكام والحدود هي الوسيلة لإخراجهم من الذل وتمكين العز والسلطان لهم في الأرض الموعودة لأنها كانت الكافلة بنظامهم، الحافظ لبناء جماعتهم، فإذا أهملوها فسدت ألفتهم، وانهدم بناؤهم، وأسرعت إليهم الذلة التي لم تكن فارقتهم، إلا منهزمة من يدي سلطان الشريعة، ولم يكن يصدها عنهم إلا معاقل النظام تحت رعايته، ولزمتهم الذلة والمسكنة بعد هذا لزوم الطابع للمطبوع.
والمتبادر وعده الأستاذ احتمالا أن ترجع الإشارة في (ذلك) إلى الثاني أي الكفر بآيات الله وقتل النبيين. أي إن كفرهم وجراءتهم على النبيين بالقتل إنما منشؤها عصيانهم واعتداؤهم حدود دينهم، لأن الذي يدين بدين أو شريعة أيا كانت يتهيب لأول الأمر مخالفتها، فإذا خالفها لأول مرة تركت المخالفة أثرا في نفسه، وضعفت هيبة الشريعة في نظره، فإذا عاد زاد ضعف سلطة الشريعة على إرادته، ولا يزال كذلك حتى تصير المخالفة طبعا ورينا، وينسى ما قام على الشريعة من دليل وما كان لها من سيطرة، ويضرى بالعدوان، كما يضرى الحيوان بالافتراس وكل عمل يسترسل فيه العامل تقوى ملكته فيه خصوصا ما اتبع فيه الهوى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لقد كانوا بين الصحراء بجدبها وصخورها، والسماء بشواظها ورجومها. فأما الحجر فقد أنبع الله لهم منه الماء، وأما السماء فأنزل لهم منها المن والسلوى: عسلا وطيرا.. ولكن البنية النفسية المفككة، والجبلة الهابطة المتداعية، أبت على القوم أن يرتفعوا إلى مستوى الغاية التي من أجلها أخرجوا من مصر، ومن أجلها ضربوا في الصحراء.. لقد أخرجهم الله -على يدي نبيهم موسى- عليه السلام -من الذل والهوان ليورثهم الأرض المقدسة، وليرفعهم من المهانة والضعة.. وللحرية ثمن، وللعزة تكاليف، وللأمانة الكبرى التي ناطهم الله بها فدية. ولكنهم لا يريدون أن يؤدوا الثمن، ولا يريدون أن ينهضوا بالتكاليف، ولا يريدون أن يدفعوا الفدية. حتى بأن يتركوا مألوف حياتهم الرتيبة الهينة. حتى بأن يغيروا مألوف طعامهم وشرابهم، وأن يكيفوا أنفسهم بظروف حياتهم الجديدة، في طريقهم إلى العزة والحرية والكرامة. إنهم يريدون الأطعمة المنوعة التي ألفوها في مصر. يريدون العدس والثوم والبصل والقثاء.. وما إليها! وهذا ما يذكرهم القرآن به. وهم يدعون في المدينة دعاواهم العريضة:
(وإذ قلتم: يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. قال: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم.. وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)..
ولقد تلقى موسى- عليه السلام -طلبهم بالاستنكار:
(أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟)..
أتريدون الدنية وقد أراد الله لكم العلية؟
(اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم)..
إما بمعنى أن ما يطلبونه هين زهيد، لا يستحق الدعاء؛ فهو موفور في أي مصر من الأمصار، فاهبطوا أية مدينة فإنكم واجدوه فيها.. وإما بمعنى عودوا إذن إلى مصر التي أخرجتم منها.. عودوا إلى حياتكم الدارجة المألوفة. إلى حياتكم الخانعة الذليلة.. حيث تجدون العدس والبصل والثوم والقثاء! ودعوا الأمور الكبار التي ندبتم لها.. ويكون هذا من موسى- عليه السلام -تأنيبا لهم وتوبيخا.
وأنا أرجح هذا التأويل الذي استبعده بعض المفسرين، أرجحه بسبب ما أعقبه في السياق من قوله تعالى:
(وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله)..
فإن ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وعودتهم بغضب الله، لم يكن- من الناحية التاريخية -في هذه المرحلة من تاريخهم؛ إنما كان فيما بعد، بعد وقوع ما ذكرته الآية في ختامها: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون).
وقد وقع هذا منهم متأخرا بعد عهد موسى بأجيال. إنما عجل السياق بذكر الذلة والمسكنة والغضب هنا لمناسبته لموقفهم من طلب العدس والبصل والثوم والقثاء! فناسب أن يكون قول موسى لهم، (اهبطوا مصرا) هو تذكير لهم بالذل في مصر، وبالنجاة منه، ثم هفوة نفوسهم للمطاعم التي ألفوها في دار الذل والهوان!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يؤخذ من كلام المفسرين... أن سؤالهم تعويض المن والسلوى بالبقل ونحوه معصية لما فيه من كراهة النعمة التي أنعم الله بها عليهم، إذ عبروا عن تناولها بالصبر والصبر هو حمل النفس على الأمر المكروه، ويدل لذلك أنه أنكر عليهم بقوله: {أتستبدلون الذي هو أدنى}...
فالذي عندي في تفسير الآية أنها انتقال من تعداد النعم المعقبة بنعم أخرى إلى بيان سوء اختيارهم في شهواتهم، والاختيار دليل عقل اللبيب، وإن كان يختار مباحاً، مع ما في صيغة طلبهم من الجفاء وقلة الأدب مع الرسول ومع المنعم إذ قالوا: {لن نصبر} فعبروا عن تناول المن والسلوى بالصبر المستلزم الكراهية وأتوا بما دل عليه {لن} في حكاية كلامهم من أنهم لا يتناولون المن والسلوى من الآن فإن {لن} تدل على استغراق النفي لأزمنة فعل {نصبر} من أولها إلى آخرها وهو معنى التأبيد وفي ذلك إلجاء لموسى أن يبادر بالسؤال يظنون أنهم أيأسوه من قبول المن والسلوى بعد ذلك الحين، فكان جواب الله لهم في هذه الطلبة أن قطع عنايته بهم وأهملهم ووكلهم إلى نفوسهم ولم يُرهم ما عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد فلق البحر وتظليل الغمام بل قال لهم:
{اهبطوا مصراً} فأمرهم بالسعي لأنفسهم وكفى بذلك تأديباً وتوبيخاً. قال الشيخ ابن عطاء الله رحمه الله: من جهل المريد أن يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه فيقول لو كان في هذا إساءة لعوقبت فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر ولو لم يكن إلا منع المزيد، وقد يقام مقام البعد من حيث لا يدري، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد. والمقصد من هذا أن ينتقل من تعداد النعم إلى بيان تلقيهم لها بالاستخفاف، لينتقل من ذلك إلى ذكر انقلاب أحوالهم وأسباب خذلانهم، وليس شيء من ذلك بمقتضى كون السؤال معصية؛ فإن العقوبات الدنيوية وحرمان الفضائل ليست من آثار خطاب التكليف، ولكنها من أشباه خطاب الوضع، ترجع إلى ترتب المسببات على أسبابها، وذلك من نواميس نظام العالم، وإنما الذي يدل على كون المجزي عليه معصية، هو العقاب الأخروي.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن بني إسرائيل شأنهم دائما ألا يستقروا، بل هم في تململ مستمر، ولا يهمهم إلا الطعام والشراب؛ ولذا قالوا لموسى عليه السلام الذي ابتلى بهم: {يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.
كان اليهود (لعنهم الله) لا يهمهم إلا ما يطعمون، فسألوا الأكل أولا ثم سألوا الماء ثانيا، ثم سألوا تلون الأطعمة، ولم يفكروا في أمر معنوي، لم يفكروا في العزة بعد الذلة، ولا في النجاة بعد القتل، ولا في المعاني الروحية التي جاء بها موسى عليه السلام، ولا في الإيمان بعد الكفر، ولا في الرفعة بعد الحطة.
لم يفكروا في شيء من هذا إنما فكروا في الطعام وألوانه، لم يطلبوا الهداية، ولكن طلبوا ألوان الطعام، وقال تعالى عنهم: {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد} والمعنى: اذكروا معشر الحاضرين ما قلتم أنتم وأسلافكم، ولا تفكير لكم في جهاد تجاهدونه، ولكن في طعام تأكلونه، نادوا موسى وهو لهم كالأم الرؤوم: {يا موسى لن نصبر على طعام واحد} وهو المن والسلوى... إن الرجل المادي يسأم ما يقدم له كل يوم، ولو كان أشهى، وقالوا يائسين من أن يرضوا: لن نصبر على طعام، فأكدوا النفي ب "لن"، ودلوا على تململهم بقولهم: "لن نصبر"، أي لن نستطيع أن نضبط أنفسنا فنحملها على الرضا بطعام واحد.
ورتبوا على نفيهم الصبر نفيا مؤكدا قولهم: {فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها}، الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر دل عليه قولهم لن نصبر تقديره؛ فإذا كنا لا نصبر، {فادع لنا ربك} ومعناه اضرع إلى ربك الذي خلقك وربك لا إلى أن يهدينا بل إلى أن يخرج لنا مما تنبت الأرض، وقوله "يخرج "في معنى جواب الأمر، أي إن تدع ربك فإنه يخرج لنا، فهم لتلهفهم على ما يأكلون افترضوا أن الدعاء قد وقع، وافترضوا أن إجابة الدعاء قد تمت، فقالوا هذا الكلام الدال على رغبتهم في الإجابة السريعة...
ولكن موسى عليه السلام لم يسارع بالدعوة التي طلبوها، ولم تكن الإجابة التي رغبوها لإشباع نهمتهم، بل ذاكرهم فيما يطلبون، وبين لهم أنهم يطلبون غير الحسن ويتركون الحسن، فقال لهم: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير}، أي أتتركون الخير، وتطلبون بدلا منه الذي هو أدنى منه وإن كان من نعمة الله تعالى.
وعبر عن الذي طلبوه بأنه هو الذي أدنى في الرتبة والمنزلة الغذائية وأنه خلق كذلك، وإن كان نعمة في ذاته ولكن رتبته دون ما أنتم فيه، وعبر بقوله تعالى: {الذي هو أدنى} أي أنه في ذاته دان في رتبته ولا يعلو عنها ولا يصل إلى الذي هو خير في ذاته، وثابت على الخيرية؛ لا يزيل صفة الخيرية ما تطلبون.
والأدنى معناه القريب، ولما كان القريب سهل التناول، والبعيد صعب التناول أطلق الأدنى على كل أمر يسهل الحصول عليه وفي العادة لا يكون ذا منزلة.
والسؤال استفهامي تقريري لإنكار الواقع، أي فيه معنى التوبيخ، لأنهم في نعمة بالطعام الطيب الذي يجيء من غير كد ولا لغوب، وهو المن والسلوى، ولأنهم في مكان من العزة والنعمة يحمدون الله تعالى عليهما، ولا يفكرون في شهوة البطن مع هذه العزة إن كانوا أعزة كراما.
ولقد قال موسى كما أخبر ربه: {اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم} ويفيد ذلك ضمنا بأن موسى لم يدع ربه كما طلبوا ولكن بين لهم المكان الذي يرون فيه ذلك، وعبر بقوله: {اهبطوا مصرا}؛ لأن فيه إشارة إلى أنهم ينزلون من منزلة مرتفعة العزة والرفعة إلى مكان دون ذلك؛ لأن الهبوط نزول من مرتفع إلى منخفض، وهم ينزلون من العزة، وضيافة الله تعالى إلى حيث يشبعون بطونهم ويرضون أهواءهم، وبذلك استبدلوا الخبيث بالطيب.
وقوله: {اهبطوا مصرا} بالتنكير يجعلنا نفكر أهي مصر التي اضطهدوا فيها، وذبحت أبناءهم، واستحيت نساءهم، أم مصر فيه ريف وأرض طيبة زارعة منتجة ما يريدون من فوم وقثاء وعدس وبصل.
إن التنكير يفيد أي مصر فيها زرع وثمار، ولكن الكثيرين من المفسرين يذكرون أنها مصر التي أخرجوا منها والتي أرهقوا في حياتهم فيها، ومع ذلك لم يذكر أنهم عادوا إلى أرض مصر، وموسى بينهم؛ ولذا نرجح أن موسى عليه السلام طلب إليهم أن ينزلوا من علياء الضيافة الربانية والعزة الإلهية وأن يشبعوا شهواتهم في أي مصر فيه الريف وما تنبت الأرض من زروع وعيون بدل عزة الصحراء.
بعد هذا يئس موسى من إصلاحهم.. أراد أن يربيهم على الوحدانية فقالوا: يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.. وأراد موسى عليه السلام، أن يبعدهم عن فرعون وقومه، وأن يخلصهم من أوهامهم، فانتهزوا غيبته، واتخذوا العجل، وعبدوه.. وطلب إليهم أن يقتلوا منابع الأهواء والشهوات في نفوسهم فتابوا وقبل الله تعالى توبتهم.. ولما أراد الله تعالى أن يختبر نفوسهم فأمرهم أن يدخلوا القرية ساجدين، ويطلبوا ضارعين إليه أن يحط عنهم ذنوبهم، (دخلوا على أستاههم طالبين الحنطة).
طلب الله تعالى إليهم كل ذلك، ولكن نفوسهم طبعت على الأهواء والشهوات والأوهام فتركهم الله تعالى لتؤدي هذه الأخلاق إلى ما تنتهي إليه، وهو الذلة، فما أذل النفوس كالشهوات والأهواء، وإذا هانت النفوس ذلت، وإذا سيطرت عليها الأهواء خنعت، ولا يورث في النفس المذلة إلا المطامع.
ولذا قال تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} أي أحاطت بهم المذلة لا يخرجون من دائرتها، بل يتنقلون في دائرتها؛ ينتقلون فيها من جانب إلى جانب، ولا يخرجون منها، فصارت حالهم في ذلتهم، كحال من ضربت عليهم قبة لا يخرجون منها، ولذلك عبر بضربت عليهم، والمسكنة هي الخضوع والاستسلام للوهن والضعف، وهي لازمة للذلة، فحيث كانت الذلة كانت المسكنة، والخضوع للظالم، ولا يرضون إلا بالذل، ولا يقبلون غيره، فإن النفس إذا ألفت الذل، واستمرأته، ترضى بكل من يذلها وتسكن خاضعة له.
فالمسكنة مصدر ميمي على وزن مفعلة معناه الخضوع المطلق والرضا بالظلم، أو الظهور بمظهر قبوله، وهو السكون ممن لا يجابهون أهل الباطل بقولهم الحق يصك آذانهم صكا.
هذه الأخلاق هي نتيجة لسيطرة الأهواء والشهوات، وهي الداء الذي يصحب من يعيشون في خصيب الأرض ولين العيش، ويفكهون في ملاذ الدنيا، ويستمرئون البقاء فيها.
ولقد قرر الله تعالى عقوبة لذوي الضمائر الفاسدة، وهي أنهم يرجعون بغضب الله تعالى، فهم مطرودون من رحمة الله تعالى، فمعنى {وباءوا بغضب من الله} أي أنهم رجعوا مصاحبين غضب الله تعالى ملازما لهم لا ينفكون عن الغضب، بل إنه يلازمهم في كل أدوار حياتهم.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك الغضب الذي لازمهم بعد أن طردهم من رحمته، وأنهم لا يستحقونها، ذكر سبحانه وتعالى السبب في ذلك فقال تعالت كلماته: {ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق}.
الإشارة إلى ما أنزله الله تعالى عليهم من الذلة والمسكنة وأنهم أبعدوا عن رحمة الله مصحوبين بغضبه وقد لبسهم غضب الله تعالى، ومعه الخزي والعار.
قال سبحانه في سبب ذلك: {بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله} آيات الله تعالى المعجزات الدالة على رسالة موسى، وهي في ذاتها نفع لهم، أنجاهم من فرعون الذي كان يقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إذ ضرب البحر بعصاه عليه السلام ففرقت البحر ونجا بنو إسرائيل وأغرق الله تعالى فرعون، وأنه أنزل عليهم المن والسلوى إلى آخر آيات الله التي كانت نعما عليهم ومعجزات دالة على نبوة موسى عليه السلام، والتعبير منه سبحانه وتعالى بقوله: {بأنهم كانوا يكفرون} بيان لاستمرار كفرهم، وتكرره بتكرار آياته، فإن "كانوا" دالة على الاستمرار، والتعبير بالمضارع للدلالة على تكرار الكفر بتكرار الآيات، فما جاءتهم آية إلا كفروا بها، وهي باهرة تتضمن نعمة أنعم بها سبحانه وتعالى بها عليهم، فاجتمع فيهم كفر الإيمان بالكفر بدلائله، وكفر النعمة بعدم شكرها، وشكر المنعم واجب بحكم العقل والشرع، وما جرى عليه الناس، ويجرون عليه إلى يوم القيامة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى جريمة ثانية إيجابية فالجرائم السابقة كلها سلبية، الكفر سلب، وعدم شكر الله تعالى حيث يجب الشكر جريمة سلبية أيضا، أما الجريمة الايجابية فهي قتلهم الأنبياء بغير حق، فهم لا يكتفون بعصيان الله تعالى وكفرهم بآياته، بل يزيدون على ذلك لإمعانهم في الضلال بقتلهم النبيين الصديقين الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى لهدايتهم ودعوتهم إلى الحق كما قتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ويظهر أنهم لم يقتلوا واحدا، بل كانوا يقتلون النبيين كلما خالفوهم لا يرعون مقامهم من الله تعالى، ولذلك كان التعبير بالمضارع الدال على التكرار، وكأن قتل النبيين كان عادة لهم وشأنا من شئونهم لتغلغل الكفر والعصيان في نفوسهم، واستمرائهم الباطل والعصيان؛ ولذلك علل تعالى تكرار كفرهم للآيات، وقتلهم للأنبياء بقوله: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)}.
وقوله تعالى في وصف قتلهم للأنبياء بأنه بغير الحق، وصف لإفادة عتوهم وكفرهم لا لبيان أن القتل للنبيين قد يكون بحق، بل لبيان أن فعلهم إثم وليس له مبرر، وأن كونه بغير الحق للتشنيع على فعلهم، وقبح تصرفاتهم، وقد علل تعالى كما تلونا بأن ذلك كان بعصيانهم واعتدائهم.
{ذلك بما عصوا} أي ذلك الجرم الذي ارتكبوه سببه أنهم عصوا؛ أي أن نفوسهم تمردت واستمرأت العصيان، وأنها أظلمت بتراكم المعاصي حتى استمرأتها، وهل يصدر من النفوس المظلمة إلا ما يكون فسادا وشرا؟! ويصلون إلى أقبح أنواع الشرور، وهو قتل الهداة أحباب الله تعالى وهم الأنبياء.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن ذلك لمجرد الاعتداء، فهم في طبيعتهم العدوان؛ لأن المعصية إذا استمرت ولجوا في العصيان، وسيطرت الأثرة عليها يكون من آثارها لا محالة الاعتداء، الاعتداء في طلب الأشياء، والاعتداء بسيطرة الأهواء والشهوات، والاعتداء بقتل الأنبياء، فالاعتداء والعصيان من شئونهم، وهكذا هم بلاء هذا الوجود.