{ وَإِذْ قُلْتُمْ يا موسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد } الظاهر أنه داخل في تعداد النعم وتفصيلها وهو إجابة سؤالهم بقوله تعالى : { اهبطوا } الخ مع استحقاقهم كمال السخط لأنهم كفروا نعمة إنزال الطعام اللذيذ عليهم وهم في التيه من غير كدّ وتعب حيث سألوا ب { لَن نَّصْبِرَ } فإنه يدل على كراهيتهم إياه إذ الصبر حبس النفس في المضيق ، ولذا أنكر عليه بقوله تعالى : { أَتَسْتَبْدِلُونَ } الخ ، فالآية في الأسلوب مثل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } [ البقرة : 55 ] الخ ، حيث عاندوا بعد سماع الكلام وأهلكوا ، ثم أفاض عليهم نعمة الحياة ، قال مولانا الساليكوتي : ومن هذا ظهر ضعف ما قال الإمام الرازي لو كان سؤالهم معصية لما أجابهم ، لأن الإجابة إلى المعصية معصية وهي غير جائزة على الأنبياء وإن قوله تعالى : { كُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 0 6 ] أمر إباحة لا إيجاب ، فلا يكون سؤالهم غير ذلك الطعام معصية ، ووصف الطعام بواحد وإن كانا طعامين ( المنّ والسلوى ) اللذين رزقوهما في التيه ، إما باعتبار كونه على نهج واحد كما يقال : طعام مائدة الأمير واحد ولو كان ألواناً شتى بمعنى أنه لا يتبدل ولا يختلف بحسب الأوقات ، أو باعتبار كونه ضرباً واحداً لأن المنّ والسلوى من طعام أهل التلذذ والسرف ، وكأن القوم كانوا فلاحة فما أرادوا إلا ما ألفوه ، وقيل : إنهم كانوا يطبخونهما معاً فيصير طعاماً واحداً ، والقول بأن هذا القول كان قبل نزول السلوى نازل من القول ، وأهون منه القول بأنهم أرادوا بالطعام الواحد السلوى لأن المنّ كان شراباً ، أو شيئاً يتحلون به ، فلم يعدوه طعاماً آخر ، وإلا نزل القول بأنه عبر بالواحد عن الاثنين كما عبر بالاثنين عن الواحد في نحو { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرَحمن : 22 ] وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب .
{ فادع لَنَا رَبَّكَ } أي سله لأجلنا بدعائك إياه بأن يخرج لنا كذا وكذا والفاء لسببية عدم الصبر للدعاء ، ولغة بني عامر { فادع } بكسر العين جعلوا دعا من ذوات الياء كرمى ، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم ، لأن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقرب للإجابة من دعاء غيرهم ، على أن دعاء الغير للغير مطلقاً أقرب إليها فما ظنك بدعاء الأنبياء لأممهم ؟ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم / لعمر رضي الله تعالى عنه : " أشركنا في دعائك " وفي الأثر : «ادعوني بألسنة لم تعصوني فيها » وحملت على ألسنة الغير ، والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادئ الإجابة ، وقالوا : ( ربك ) ولم يقولوا : ربنا ، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة ، فكأنهم قالوا : ادع لنا المحسن إليك بما لم يحسن به إلينا ، فكما أحسن إليك من قبل نرجو أن يحسن إليك في إجابة دعائك .
{ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } المراد بالإخراج المعنى المجازي اللازم للمعنى الحقيقي ، وهو الإظهار بطريق الإيجاد لا بطريق إزالة الخفاء والحمل على المعنى الحقيق يقتضي مخرجاً عنه ، وما يصلح له ههنا هو ( الأرض ) وبتقديره يصير الكلام سخيفاً ، و{ يُخْرِجْ } مجزوم لأنه جواب الأمر ، وجزمه بلام الطلب محذوفة لا يجوز عند البصريين ، و( من ) الأولى تبعيضية أي مأكولاً بعض ما ( تنبت ) ، وادعى الأخفش زيادتها وليس بشيء و( ما ) موصولة والعائد محذوف ، أي تنبته ، وجعلها مصدرية لم يجوّزه أبو البقاء لأن المقدر جوهر ونسبة الإنبات إلى ( الأرض ) مجاز من باب النسبة إلى القابل . وقد أودع الله تعالى في الطبقة الطينية من الأرض أو فيها قوة قابلة لذلك ، وكون القوة القابلة مودعة في الحب دون التراب ربما يفضي إلى القول بقدم الحب بالنوع ، و( من ) الثانية بيانية ، فالظرف مستقر واقع موقع الحال ، أي كائناً من ( بقلها ) . وقال أبو حيان : تبعيضية واقعة موقع البدل من كلمة ( ما ) فالظرف لغو متعلق ب ( يُخرجْ ) وعلى التقديرين كما قال الساليكوتي : يفيد أن المطلوب إخراج بعض هؤلاء ، ولو جعل بياناً لما أفاده ( من ) التبعيضية كما قاله المولى عصام الدين لخلا الكلام عن الإفادة المذكورة ، وأوهمَ أن المطلوب إخراج جميع هؤلاء لعدم العهد والبقل جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والأنعام ، والمراد به هنا أطاييب البقول التي يأكلها الناس والقثاء هو هذا المعروف ، وقال الخليل : هو الخيار ، وقرأ يحيى بن وثاب وغيره بضم القاف وهو لغة والفوم الحنطة وعليه أكثر الناس حتى قال الزجاج : لا خلاف عند أهل اللغة أن الفوم الحنطة ، وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم الفوم . وقال الكسائي وجماعة : هو الثوم ، وقد أبدلت ثاؤه فاء كما في جدث وجدف وهو بالبصل والعدس أوفق وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ونفس شيخنا عليه الرحمة إليه تميل ، والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من ( الأرض ) وذكره مع البقل وغيره . وما في «المعالم » عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن الفوم الخبز يمكن توجيهه بأن معناه إنه يقال عليه ، ووجه ترتيب النظم أنه ذكر أولاً ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وهو البقل إذ منه ما هو بارد رطب كالهندبا ، ومنه ما هو حار يابس كالكرفس والسذاب ومنه ما هو حار وفيه رطوبة ، كالنعناع . وثانياً : ما هو بارد رطب وهو القثاء وثالثاً : ما هو حار يابس وهو الثوم ورابعاً : ما هو بارد يابس وهو العدس وخامساً : ما هو حار رطب وهو البصل وإذا طبخ صار بارداً رطباً عند بعضهم ، أو يقال : إنه ذكر أولاً ما يؤكل من غير علاج نار ، وذكر بعده ما يعالج به مع ما ينبغي فيه ذلك ويقبله .
{ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } استئناف وقع جواباً عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قال لهم ؟ فقيل قال : { أَتَسْتَبْدِلُونَ } الخ ، والقائل إما الله تعالى على لسان موسى عليه السلام ، ويرجحه كون المقام مقام تعداد النعم ، أو موسى نفسه وهو الأنسب بسياق النظم والاستفهام للإنكار ، والاستبدال الاعتياض .
فإن قلت كونهم لا يصبرون على طعام واحد أفهم طلب ضم ذلك إليه لا استبداله به أجيب بأن قولهم : { لَن نَّصْبِرَ } يدل على كراهتهم ذلك الطعام ، وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال ، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها ، وقيل : إنهم طلبوا ذلك ، وخطابهم بهذا إشارة إلى أنه تعالى إذا أعطاهم ما سألوا منع عنهم المنّ والسلوى فلا يجتمعان ، وقيل : الاستبدال في المعدة وهو كما ترى . وقرأ أبيّ : أتبدلون وهو مجاز ، لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى الله تعالى لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين ، وكان المعنى أتسألون تبديل الذي الخ ، و{ الذي } مفعول { تستبدلون } وهو الحاصل ؛ و{ فَلْيُؤَدّ الذي } دخلت عليه الباء هو الزائل ، وهو { أدنى } صلة { الذي } وهو هنا واجب الإثبات عند البصريين إذ لا طول ، و{ أدنى } إما من الدنو أو مقلوب من الدون ، وهو على الثاني ظاهر ، وعلى الأول مجاز استعير فيه الدنو بمعنى القرب المكاني للخسة كما استعير البعد للشرف ، فقيل : بعيد المحل بعيد الهمة ، ويحتمل أن يكون مهموزاً من الدناءة ، وأبدلت فيه الهمزة ألفاً ويؤيده قراءة زهير والكسائي { أدنأ } بالهمزة ، وأريد بالذي هو خير المنّ والسلوى ومعنى خيرية هذا المأكول بالنسبة إلى ذلك غلاء قيمته وطيب لذته ، والنفع الجليل في تناوله ، وعدم الكلفة في تحصيله ، وخلوّه عن الشبهة في حله .
{ اهبطوا مِصْرًا } جملة محكية بالقول كالأولى ، وإنما لم يعطف إحداهما على الأخرى في المحكي لأن الأولى خبر معنى ، وهذه ليست كذلك ، ولكونها كالمبينة لها فإن الإهباط طريق الاستبدال ، هذا إذا جعل الجملتان من كلام الله تعالى أو كلام موسى ، وإن جعل إحداهما من موسى والأخرى من الله تعالى ، فوجه الفصل ظاهر ، والوقف على ( خير ) كاف على الأول : وتام على الثاني : والهبوط يجوز أن يكون مكانياً بأن يكون التيه أرفع من المصر ، وأن يكون رتبياً ، وهو الأنسب بالمقام ، وقرئ { اهبطوا } بضم الهمزة والباء والمصر البلد العظيم وأصله الحد والحاجز بين الشيئين ، قال :
وجاعل الشمس ( مصراً ) لا خفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فصلا
وإطلاقه على البلد لأنه ممصور أي محدود ، وأخذه من مصرت الشاة أمصرها إذا حلبت كل شيء في ضرعها بعيد ، وحكي عن أشهب أنه قال : قال لي مالك : هي مصر قريتك مسكن فرعون فهو إذاً عَلَمٌ وأسماء المواضع قد تعتبر من حيث المكانية فتذَكر ، وقد تعتبر من حيث الأرضية فتؤنث ، فهو إن جعل علماً فإما باعتبار كونه بلدة ، فالصرف مع العلمية ، والتأنيث لسكون الوسط ، وإما باعتبار كونه بلداً فالصرف على بابه ، إذ الفرعية الواحدة لا تكفي في منعه ، ويؤيد ما قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه : أنه في مصحف ابن مسعود ( مصر ) بلا ألف بعد الراء ويبعده أن الظاهر من التنوين التنكير ، وأن قوله تعالى : { ادْخُلُوا الأرض المُقَدَّسَةَ } [ المائدة : 1 2 ] يعني الشام التي كتب الله تعالى لكم للوجوب كما يدل عليه عطف النهي وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى ، وأن يكون الأمر بالهبوط مقصوراً على بلاد التيه وهو ما بين بيت المقدس إلى قنسرين ومن الناس من جعل ( مصر ) معرب مصرائيم كإسرائيل اسم لأحد أولاد نوح عليه السلام وهو أول من اختطها فسميت باسمه ، وإنما جاز الصرف حينئذٍ لعدم الاعتداد بالعجمة لوجود التعريب والتصرف فيه فافهم وتدبر .
{ فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ } تعليل للأمر بالهبوط ، وفي «البحر » أنها جواب للأمر وكما يجاب بالفعل يجاب بالجملة وفي ذلك محذوفان فإن ما يربط الجملة بما قبلها ، والضمير العائد على { مَا } والتقدير : فإن لكم فيها ما سألتموه/ ، والتعبير عن الأشياء المسؤولة ب ( ما ) للاستهجان بذكرها ، وقرأ النخعي ويحيى : { سَأَلْتُمْ } بكسر السين .
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } أي جعل ذلك محيطاً بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه ، أو ألصق بهم من ضرب الطين على الحائط ففي الكلام استعارة بالكناية حيث شبه ذلك بالقبة أو بالطين ، و( ضربت ) استعارة تبعية تحقيقية لمعنى الإحاطة والشمول أو اللزوم واللصوق بهم ، وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين ، وذلك بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدونها عن يَد وهم صاغرون ، وبما ألزموه من إظهار الزي ليعلم أنهم يهود ولا يلتبسوا بالمسلمين وبما طبعوا عليه من فقر النفس وشحها فلا ترى ملة من الملل أحرص منهم ، وبما تعودوا عليه من إظهار سوء الحال مخافة أن تضاعف عليهم الجزية إلى غير ذلك مما تراه في اليهود اليوم ، وهذا الضرب مجازاة لهم على كفران تلك النعمة ، وبهذا ارتبطت الآية بما قبلها ، وإنما أورد ضمير الغائب للإشارة إلى أن ذلك راجع إلى جميع اليهود ، وشامل للمخاطبين ، بقوله تعالى : { فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ } ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة فليس من قبيل الالتفات على ما وهم .
{ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله } أي نزلوا وتمكنوا بما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا ، أو بما تحقق لهم من العذاب في العقبى ؛ أو بما كتب عليهم من المكاره فيهما أو رجعوا بغضب أي صار عليهم ، ولذا لم يحتج إلى اعتبار المرجوع إليه ، أو صاروا أحقاء به ، أو استحقوا العذاب بسببه وهو بعيد وأصل البواء بالفتح والضم مساواة الأجزاء ثم استعمل في كل مساواة فيقال : هو بواء فلان أي كفؤه ، ومنه :
وحديث : " فليتبوأ مقعده من النار " وفي وصف الغضب بكونه من الله تعالى تعظيم لشأنه بعد تعظيم وتفخيم بعد تفخيم .
{ ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } أشار بذلك إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم ، وإنما بَعّدهُ لبعد بعضه حتى لو كان إشارة إلى البوء لم يكن على لفظ البعيد ، أو للإشارة إلى أنهم أدركتهم هذه الأمور مع بعدهم عنها لكونهم أهل الكتاب ، أو للإيماء إلى بعدها في الفظاعة ، والباء للسببية وهي داخلة على المصدر المؤول ولم يعبر به ، وعبر بما عبر تنبيهاً على تجدد الكفر والقتل منهم حيناً بعد حين واستمرارهم عليهما فيما مضى ، أو لاستحضار قبيح صنعهم .
و( الآيات ) إما المعجزات مطلقاً أو التسع التي أتى بها موسى عليه السلام ، أو ما جاء به من التسع وغيرها ، أو آيات الكتب المتلوة مطلقاً ، أو التوراة أو آيات منها كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم . أو التي فيها الرجم أو القرآن ، وفي إضافة الآيات إلى اسمه تعالى زيادة تشنيع عليهم ، وبدأ سبحانه بكفرهم بآياته لأنه أعظم كل عظيم ، وأردفه بقتلهم النبيين لأنه كالمنشأ له ، وأتى بالنبيين الظاهر في القلة دون الأنبياء الظاهر في الكثرة إذ الفرق بين الجمعين إذا كانا نكرتين وأما إذا دخلت عليهما ( أل ) فيتساويان كما في «البحر » فلا يرد أنهم قتلوا ثلاثمائة نبي في أول النهار ، وأقاموا سوقهم في آخره ، وقيد القتل بغير الحق مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ذلك بغير الحق عندهم إذ لم يكن أحد معتقداً حقية قتل أحد منهم عليهم السلام ، وإنما حملهم عليه حب الدنيا ، واتباع الهوى والغلو في العصيان ، والاعتداء فاللام في الحق على هذا للعهد ، وقيل : الأظهر أنها للجنس ، والمراد بغير حق أصلاً إذ لام الجنس المبهم كالنكرة ، ويؤيده ما في آل عمران ( 12 ) { بِغَيْرِ حَقّ } فيفيد أنه لم يكن حقاً باعتقادهم أيضاً ، ويمكن أن يكون فائدة التقييد إظهار معايب صنيعهم فإنه قتل النبي ثم جماعة منهم ثم كونه بغير الحق ، وهذا أوفق بما هو الظاهر من كون المنهي القتل بغير الحق في نفس الأمر/ سواء كان حقاً عند القاتل أو لا إلا أن الاقتصار على القتل بغير الحق عندهم أنسب للتعريض بما هم فيه على ما قيل ، والقول : بأنه يمكن أن يقال لو لم يقيد بغير الحق لأفاد أن من خواص النبوة أنه لو قتل أحداً بغير حق لا يقتص ، ففائدة التقييد أن يكون النظم مفيداً لما هو الحكم الشرعي بعيد كما لا يخفى ، قال بعض المتأخرين : هذا كله إذا كان الغير بمعنى النفي أي بلا حق ، أما إذا كان بمعناه أي بسبب أمر مغاير للحق أي الباطل فالتقييد مفيد لأن قتلهم النبيين بسبب الباطل وحمايته ، وقريب من هذا ما قاله القفال من إنهم كانوا يقولون : إنهم كاذبون وأن معجزاتهم تمويهات ويقتلونهم بهذا السبب ، وبأنهم يريدون إبطال ما هم عليه من الحق بزعمهم ، ولعل ذلك غالب أحوالهم وإلا فشعياء ، ويحيى وزكريا عليهم السلام لم يقتلوا لذلك ، وإنما قتل شعياء لأن ملكاً من بني إسرائيل لما مات مرج أمر بني إسرائيل ، وتنافسوا الملك ، وقتل بعضهم بعضاً فنهاهم عليه السلام فبغوا عليه وقتلوه ، ويحيى عليه السلام إنما قتل لقصة تلك المرأة لعنها الله تعالى ، وكذلك زكريا لأنه لما قتل ابنه انطلق هارباً فأرسل الملك في طلبه غضباً لما حصل لامرأته من قتل ابنه فوجد في جوف شجرة ففلقوا الشجرة معه فلقتين طولاً بمنشار ، ثم الظاهر أن الجار والمجرور مما تنازع فيه الكفر والقتل ، وفي «البحر » أنه متعلق بما عنده ، وزعم بعض الملحدين أن بين هذه الآية وما أشبهها ، وقوله تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 1 5 ] تناقضاً وأجيب بأن المقتولين من الأنبياء والموعود بنصرهم الرسل ورد بأن قوله تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ } إلى قوله سبحانه : { ففَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 7 8 ] يدل على أن المقتول رسل أيضاً ، وأجاب بعضهم بأن المراد النصرة بغلبة الحجة أو الأخذ بالثأر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى قدر أن يقتل بكل نبي سبعين ألفاً ، وبكل خليفة خمساً وثلاثين ألفاً ولا يخفى ما فيه ، فالأحسن أن المراد بالرسل المأمورون بالقتال كما أجاب به بعض المحققين لأن أمرهم بالقتال وعدم عصمتهم لا يليق بحكمة العزيز الحكيم ، وقرأ علي رضي الله تعالى عنه : ( يقتلون ) بالتشديد ، والحسن في رواية عنه ( وتقتلون ) بالتاء فيكون ذلك من الالتفات ، وقرأ نافع بهمز النبيين وكذا النبي والنبوة ، واستشكل بما روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : «يا نبىء الله بالهمزة فقال : لست بنبىء الله يعني مهموزاً ولكن نبي الله » بغير همزة فأنكر عليه ذلك . ولهذا منع بعضهم من إطلاقه عليه عليه الصلاة والسلام على أنه استشكل أيضاً جمع النبي على نبيين وهو فعيل بمعنى مفعول ، وقد صرحوا بأنه لا يجمع جمع مذكر سالم ، وأجيب عن الأول بأن أبا زيد حكى نبأت من الأرض إذا خرجت منها ، فمنع لوهم أن معناه يا طريد الله تعالى فنهاه عن ذلك لإيهامه ، ولا يلزم من صحة استعمال الله تعالى له في حق نبيه صلى الله عليه وسلم الذي برأه من كل نقص جوازه من البشر ، وقيل : إن النهي كان خاصاً في صدر الإسلام حيث دسائس اليهود كانت فاشية وهذا كما نهى عن قول : { راعنا } إلى قول : { انظرنا } [ البقرة : 104 ] انتبه أيها المخرج وعن الثاني بأنه ليس بمتفق عليه إذ قيل : إنه بمعنى فاعل ولو سلم فقد خرج عن معناه الأصل ، ولم يلاحظ فيه هذا إذ يطلقه عليه من لا يعرف ذلك ، فصح جمعه باعتبار المعنى الغالب عليه فتدبر .
{ ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } إشارة إلى الكفر والقتل الواقعين سبباً لما تقدم ، وجازت الإشارة بالمفرد إلى متعدد للتأويل بالمذكور ، ونحوه مما هو مفرد لفظاً متعدد معنى ، وقد يجري مثل ذلك في الضمير حملاً عليه ، والباء للسببية ، وما بعدها سبب للسبب ، والمعنى : إن الذي حملهم على الكفر بآيات الله تعالى ، وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ومجاوزتهم الحدود ، والذنب يجر الذنب ، وأكد الأول لأنه مظنة الاستبعاد بخلاف مطلق العصيان ، وقيل : الباء بمعنى مع . وقيل : الإشارة بذلك إلى ما أشير إليه بالأول ، وترك العاطف للدلالة/ على أن كل واحد منهما مستقل في استحقاق الضرب فكيف إذا اجتمعا . وضعف هذا الوجه بأن التكرار خلاف الأصل مع فوات معنى لطيف حصل بالأول وسابقه بأنه لا يظهر حينئذٍ لإيراد كلمة ذلك فائدة إذ الظاهر { بِمَا عَصَواْ } الخ ويفوت أيضاً ما يفوت ، وحظ العارف من هذه الآيات الاعتبار بحال هؤلاء الذين لم يرضوا بالقضاء ولم يشكروا على النعماء ولم يصبروا على البلواء كيف ضرب عليهم ذل الطغيان قبل وجود الأكوان ، وقهرهم بلطمة المسكنة في بيداء الخذلان وألبس قلوبهم حب الدنيا وأهبطهم من الدرجة العليا .
ومن باب الإشارة : الطعام الواحد هو الغذاء الروحاني من الحكمة والمعرفة ، وما تنبته الأرض هو الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة الناشئة من أرض النفوس المبتذلة في مصر البدن الموجبة للذلة لمن ذاقها والمسكنة لمن لاكها والهلاك لمن ابتلعها ، وسبب طلب ذلك الاحتجاب عن آيات الله تعالى وتجلياته وتسويد القلوب بدرن الذنوب ، وقطع وريدها بقطع واردها ، والذي يجر إلى هذا الغفلة عن المحبوب ، والاعتياض بالأغيار عن ذلك المطلوب نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية .