قوله تعالى : { لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } : ناصبٌ ومنصوبٌ ، والجملةُ في محلَّ نصبٍ بالقولِ ، وقد تقدَّم الكلامُ على " لن " ، وقولُه " طعام واحد " وإنما كانا طعامين وهما المَنُّ والسَّلْوى ؛ لأنَّ المرادَ بالواحدِ ما لا يَخْتَلِفُ ولا يتبدَّل ، فأُريد نفيُ التبدُّلِ والاختلافِ ، أو لأنهما ضَرْبٌ واحدُ لأنهما من طعامِ أهلِ التلذُّذِ والترف ، ونحن أهلُ زراعاتٍ ، لا نريد إلا ما أَلِفْنَاه من الأشياءِ المتفاوتةِ ، أو لأنهم كانوا يأكلونَ أحدَهما بالآخرِ أو لأنهما كانا يُؤْكلان في وقتٍ واحدٍ ، وقيل : كَنَوْا بذلك عن الغِنَى ، فكأنهم قالوا : لن نرضَى أن نكونَ كلُّنا مشتركين في شيءٍ واحدٍ فلا يَخْدُمَ بعضُنا بعضاً وكذلك كانوا ، وهم أوّلُ مَنِ اتَّخَذَ الخَدَمَ والعبيدَ .
والطعامُ : اسمٌ لكل ما يُطْعَم من مأكولٍ ومشروبٍ ، ومنه
{ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } [ البقرة : 249 ] وقد يختصُّ ببعضِ المأكولاتِ كاختصاصه بالبُرِّ والتمر ، وفي حديث الصدقة : " أو صاعاً من طعامٍ أو صاعاً من شعير " ، والطَّعْمُ بفتحِ الطاءِ المصدرُ أو ما يُشْتَهى من الطعام أو ما يُؤَدِّيه الذَّوْقُ ، تقول : طَعْمُه حُلْوٌ وطَعْمُه مُرٌّ ، وبضمِّها الشيءُ المَطْعُوم كالأُكْلِ والأَكْل ، قال أبو خراش :
أَرُدُّ شُجاعَ البطنِ لو تَعْلَمِيْنَه *** وأُوْثِرُ غيري من عيالِك بالطَّعْمِ
وأَغْتَبِقُ الماءَ القُراحَ فأنتهي *** إذا الزادُ أمسى للمُزَلَّجِ ذا طَعْمِ
أراد بالأولِ المطعومُ وبالثاني ما يُشْتهى منه ، وقد يُعَبَّر به عن الإِعطاءِ ، قال عليه السلام : " إذا اسْتَطْعَمَكم الإِمامُ فأطْعِموه " أي : إذا استفتح فافتحُوا عليه ، وفلانٌ ما يَطْعَمُ النومَ إلا قائماً ، قال :
نَعاماً بوَجْرَةَ صُفْرَ الخُدو *** دِ ما تَطْعَمُ النَّومَ إلا صِياما
قوله : { فَادْعُ } اللغةُ الفصيحةُ " ادعُ " بضم العينِ مِنْ دَعَا يدعُو ، ولغة بني عامر : فادْعِ بكسر العين ، قالَ أبو البقاء : " لالتقاءِ الساكنين ، يُجْرُون المعتلَّ مُجْرى الصحيحِ ، ولا يُراعونَ المحذوفَ " يعني أنَّ العينَ ساكنةٌ لأجل الأمرِ ، والدالُ قبلَها ساكنةٌ ، فكُسِرت العينُ ، وفيه نظرٌ ، لأن القاعدةَ في هذا ونحوه أنْ يُكْسَرَ الأولُ من الساكنين لا الثاني ، فيجوزُ أن يكونَ [ مِنْ لغتهم ] دَعَى يَدْعي مثل رَمى يَرْمي . والدعاءُ هنا السؤالُ ، ويكونُ بمعنى التسمية كقوله :
دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم ، و " لنا " متعلِّق به ، واللام للعلَّة .
قوله " يُخْرِجْ " مجزومٌ في جوابِ الأمر ، وقال بعضُهم : " مجزومٌ بلام الأمرِ مقدرةً ، أي : لِيُخْرِجْ ، وضَعَّفه الزجاج ، وسيأتي الكلامُ على حَذْفِ لامِ الأمرِ إن شاء الله تعالى .
قوله : { مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ } مفعولُ " يُخْرِجْ " محذوفٌ عند سيبويهِ تقديرُه : مأكولاً [ مِمَّا ] أو شيئاً مِمَّا تُنبت الأرضُ ، والجارُّ يجوز أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه ، وتكونُ " مِنْ " لابتداءِ الغاية ، وأنْ يكونَ صفةً لذلك المفعولِ المحذوفِ ، فيتعلَّقَ بمضمرٍ أي : مأكولاً كائناً ممَّا تُنْبِتْهُ الأرضُ و " مِنْ " للتبعيضِ ، ومذهبُ الأخفش أنَّ " مِنْ " زائدةٌ في المفعول ، والتقديرُ : يُخْرِجْ ما تُنْبِتُه الأرضُ ، لأنه لا يَشْتَرِط في زيادتِها شيئاً .
و " ما " يجوزُ أن تكونَ موصولةً اسميةً أو نكرةً موصوفةً والعَائدُ محذوفٌ ، أي : من الذي تُنْبِتُه أو من شيءٍ تُنبته ، ولا يجوزُ جَعْلُها مصدريةً لأن المفعولَ المحذوفَ لا يُوَصَفُ بالإِنباتِ ، لأن الإِنباتِ مصدرٌ والمُخْرَجَ جَوْهَرٌ ، وكذلك على مذهبِ الأخفش لأنَّ المُخْرَجَ جَوْهَرٌ لا إنبات .
قوله : { مِن بَقْلِهَا } يجوزُ فيه وجهان : أحدُهما : أن يكونَ بَدلاً من " ما " بإعادةِ العامل ، و " مِنْ " معناها بيانُ الجنس ، والثاني : أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ المحذوفِ العائدِ على " ما " أي : مما تُنْبته الأرضُ في حالِ كَوْنه مِنْ بقلها و " مِنْ " أيضاً للبيان . والبقلُ كلُّ ما تُنْبِتهُ الأرضُ من النَّجْم أي : مِمَّا لا ساقَ له ، وجمعُه : بُقول . والقِثَّاء معروف ، الواحدُ : قِثَّاءة ، فهو من باب قَمْح وقمحة ، وفيها لغتان : المشهورةُ كَسْرُ القافِ ، وقُرئ بضمِّها ، والهمزةُ أصلٌ بنفسِها في قولهم : أَقْثَأَتِ الأرضُ أي : كَثُر قِثَّاؤها ووزنُها فِعَّال ، ويُقال في جَمْعها قَثَائي مثل عِلْباء وعَلاَبي . قال بعضُهم : " إلاَّ أنَّ قِثَّاء من ذواتِ الواو ، تقول : أَقْثَأْتُ القومَ ، : أي أطعمتهُم ذلك ، وفَثَأْتُ القِدْر سكَّنْتُ غَلَيَانَها بالماءِ ، قال :
تفُورُ علينا قِدْرُهم فَنُديمُها *** ونَفْثَؤُها عَنَّا إذا حَمْيُها غَلا
وهذا من هذا [ القائل ] وَهْمٌ فاحش ، لأنه لمَّا جَعَلَها من ذوات الواو كيفَ يَسْتَدِلُّ عليها بقولهم : " أَقْثَأْتُ القومَ " [ بالهمز ] ، بل كان ينبغي أن يُقال : أَقْثَيْتُ والأصلُ : أَقْثَوْتُ ، لكنْ لمَّا وَقَعَتِ الواوُ في بناتِ الأربعةِ قُلِبَتْ ياءً ، كأَغْزَيْتُ من الغَزْوِ ، ولكان ينبغي أن يُقالَ : " فَثَوْتُ القِدْر " بالواو ، ولقال الشاعر : نَفْثَوُها بالواو ، والمَقْثَأَةُ والمَقْثُؤَةُ بفتح التاءِ وضمِّها : مَوْضِعُ القِثَّاء . والفُوم : الثُّوم ، والفاءُ تُبْدَلُ من الثاء ، قالوا : جَدَفٌ وجَدَثٌ ، وعاثُور وعافُور ، ومعاثِير ومعافِير ، ولكنه [ على ] غيرِ قياس ، وقيل الحِنْطَة ، وأنشد ابن عباس :
قد كنتُ أغْنَى الناسِ شخصاً واحداً *** نَزَل المدينةَ عن زِراعة فُوْمِ
قوله : " أَدْنى " فيه ثلاثةُ أقوال ، أحدُها وهو الظاهرُ ، وهو قول أبي إسحاق الزجاج أنَّ أصلَه : أَدْنَوُ من الدُّنُوِّ وهو القُرْب ، فَقُلِبتَ الواوُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلها ، ومعنى الدنوِّ في ذلك وجهان : أحدُهما : أنه أقربُ لقلةِ قيمته وخَساسته . والثاني : أنه أقربُ لكم لأنه في الدنيا بخلافِ الذي هو خيرٌ ، فإنه بالصبرِ عليه يَحْصُلُ نفعُهُ في الآخرةِ ، والثاني قولُ علي بن سليمان الخفش : أنَّ أصلَه أَدْنَأُ مهموزاً من دَنَأَ يَدْنَأُ دَناءة ، وهو الشيء الخسيس ، إلا أنه خُفِّفَ همزهُ كقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فارْعَيْ فَزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ
ويَدُلُّ عليه قراءةُ زهير الفرقبي : " أَدْنَأُ " بالهمز .
الثالث : أنَّ أصلَه أَدْوَنُ من الشيء الدُّوْن أي الرديء ، فَقُلِب بأَنْ أُخِّرتِ العينُ إلى موضعِ اللامِ فصارِ : أَدْنَوَ فأُعِلَّ كما تقدَّم ، ووزنُهُ أَفْلَع ، وقد تقدَّم معنى الاستبدالِ وأدْنَى خبرٌ عن " هو " والجملة صلةٌ وعائدٌ ، وكذلك " هو خير " أيضاً صلةٌ وعائد .
قوله : " مِصْراً " قرأه الجمهورُ منوناً ، وهو خَطُّ المصحف ، فقيل : إنهم أُمِروا بهبوطِ مصرٍ من الأمصار فلذلك صُرِف ، وقيل : أُمِرُوا بمصرَ بعينه وإنما صُرِف لخفَّته ، لسكونِ وسطِه كهنْد ودَعْد ، وأنشد :
لم تَتَلَفَّعْ فَضْل مِئْزَرِها *** دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ في العُلَبِ
فَجَمع بين الأمرين ، أو صَرَفه ذهاباً به إلى المكان ، وقرأ الحسنُ وغيرُه : " مصرَ " وكذلك هي في بعضِ مصاحفِ عثمان ومصحفِ أُبَيّ ، كأنهم عَنَوْا مكاناً بعينه . وقال الزمخشري : " إنه مُعَرَّبٌ من لسان العجم ، فإن أصله مِصْرائيم ، فَعُرِّب " ، وعلى هذا إذا قيل بأنه عَلَمٌ لمكانٍ بعينه فلا ينبغي أن يُصْرف البتةَ لانضمامِ العُجْمِة إليه ، فهو نظيرُ " ماه وجَوْر وحِمْص " ولذلك أجمعَ الجمهورُ على منعِه في قولِه { ادْخُلُواْ مِصْرَ }
[ يوسف : 99 ] . والمِصْرُ في أصل اللغةِ : " الحدُّ الفاصلُ بين الشيئين " وحُكِي عن أهلِ هَجَرَ أنهم إذا كَتَبوا بَيْعَ دارٍ قالوا : اشترى فلانٌ الدارَ بمُصُورِها " أي : حدودِها ، وأنشد :
وجاعِلُ الشمسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بهِ *** بين النهارِ وبينَ الليلِ قد فَصَلا
قوله { مَّا سَأَلْتُمْ } " ما " في محلِّ نصبٍ اسماً لإِنَّ ، والخبرُ في الجارِّ قبله ، و " ما " بمعنى الذي والعائدُ محذوفٌ ، أي : الذي سألتموه . قال أبو البقاء : " ويَضْعُفُ أن يكونُ نكرةًَ موصوفةً " يعني أنَّ الذي سألوه شيءٌ معينٌ فلا يَحْسُنُ أن يُجابُوا بشيءٍ مُبْهَمٍ . وقُرئ : " سِلْتُم " مثل بِعْتُم ، وهي مأخوذةٌ مِنْ سالَ بالألف ، قالَ حسان رضي الله عنه :
سَالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشَةً *** ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سَالَتْ ولم تُصِبِ
وهل هذه الألفُ منقلبةٌ عن ياءٍ أو واوٍ لقولهم : يتساوَلان ، أو عن همزةٍ ؟ أقوالٌ ثلاثةٌ سيأتي بيانُها إن شاء الله في سورة المعارج .
قولُه : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } " ضُرِبت " مبنيٌّ للمفعولِ ، " الذِّلَّةُ " قائمٌ مَقَامَ الفاعلِ ، ومعنى " ضُرِبَتْ " أي : أُلْزِموها وقُضِيَ عليهم بها ، من ضَرْب القِباب ، قال الفرزدقُ لجرير :
ضَرَبَتْ عليك العنكبوتُ بِنَسْجِها *** وَقَضى عليكَ به الكتابُ المُنَزَّلُ
والذِّلَّةُ : الصِّغارُ ، والذُّل بالضم ما كان عن قَهْر ، وبالكسر ما كانَ بعد شِماس من غير قهر ، قاله الرغب . والمَسْكَنَةُ : مَفْعَلةٌ من السكون ، لأن المِسْكينَ قليلُ الحركةِ والنهوضِ ، لِما به من الفَقْر ، والمِسْكينُ مِفْعيل منه إلا أنَّ هذه الميمَ قد ثَبَتَتْ في اشتقاق هذهِ الكلمةِ ، قالوا : تَمَسْكَنَ يَتَمَسْكَنُ فهو مُتَمَسْكِنٌ ، وذلك كما تَثْبُتُ ميم تَمَنْدَلَ وتَمَدْرَعَ من النَّدْل والدَّرْع ، وذلك لا يَدُلُّ على أصالتها ، لأن الاشتقاق قَضَى عليها بالزيادَةِ .
وقال الراغب : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } فالميمُ في ذلك زائدةٌ في أصحِّ القولين " وإيرادُ هذا الخلافِ يُؤْذِنُ بأنَّ النونَ زائدةٌ ، وأنه من مَسَك " .
قوله : " وباؤُوا " ألفُ " باءَ بكذا " منقلبةٌ عن واو لقولهم : " باء يَبُوء " مثل : قال يقول : ، قال عليه الصلاة والسلام " أبُوْءُ بنعمتِك عليّ " والمصدرُ البَواء ، وباءَ معناه رَجَعَ ، وأنشد بعضهم :
فآبُوا بالنَّهائِبِ والسَّبايا *** وأُبْنا بالمُلوكِ مُصَفَّدينا
وهذا وَهَمٌ ، لأنَّ هذا البيتَ من مادة آب يَؤُوب فمادتُه من همزةٍ وواو وباء ، و " باء " مادتُه من باء وواو وهمزة ، وادِّعاءُ القلبِ فيه بعيدٌ [ أنه لم يُعْهَدْ ] تقدُّمُ العينِ واللام معاً على الفاء في مقلوبٍ وهذا من ذاك .
والبَواء : الرجوعُ بالقَوَدِ ، وهم في هذا الأمر بَواء أي : سَواء ، قال :
ألا تَنْتَهي عنَّا مُلُوكٌ وتَتَّقي *** محارِمَنا لا يَبْوُؤُ الدمُ بالدَّمِ
أي : لا يرْجِعُ الدم بالدم في القَوَد ، وباءَ بكذا أَقَرَّ أيضاً ، ومنه الحديثُ المتقدم ، أي أُقِرُّ بِها [ وأُلْزِمُها نفسي ] ، وقال :
أَنْكَرْتُ باطِلَها وبُؤْتُ بحقِّها *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الراغبُ : " أصلُ البَواءِ مساواةُ الأجزاءِ في المكانِ خِلاَفَ النَّبْوَةِ الذي هو منافاةُ الأجْزاء ، وقوله " وباؤُوا بغضبٍ " أي حَلُّوا مَبْوَأً ومعه غضبٌ ، واستعمال " باء " تنبيهٌ على أنَّ مكانه الموافقَ يَلْزَمُه فيه غضبُ اللهِ فكيف بغيره من الأمكنَةِ ، وذلك نحو { فَبَشِّرْهم بعذاب } [ آل عمران : 21 ] . ثم قال : " وقولُ مَنْ قَالَ " بُؤْتُ بحقِّها " أي أَقْرَرْتُ فليس تفسيرُه بحسب مقتضى اللفظ ، وقولُهم : حَيّاك الله وبَيَّاك " أصلُه : بَوَّأَك وإنما غُيِّر للمشاكَلَةِ ، قاله خلف الأحمر " .
قوله : بغضب " في موضعِ الحالِ من فاعِل " باؤوا " : أي : رَجَعوا مغضوباً عليهم ، وليس مفعولاً به كمررتُ بزيدٍ . وقال الزمخشري : " هو من قولك : باء فلانٌ بفلان إذا كانَ حقيقاًَ بأنْ يُقْتَلَ به لمساواتِه له ومكافَأَته ، أي : صاروا أحِقَّاءَ بغضبِه " وهذا التفسيرُ ينفي كونَ الباءِ لِلحال/ .
قوله " مِن الله " الظاهرُ أنَّه في محلِّ جرٍّ صفةً لغضَب ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : بغضبٍ كائنٍ من اللهِ . و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ مجازاً ، وقيل : هو متعلِّقٌ بالفعلِ نفسِه أي : رَجَعوا من الله بغضب ، وليس بقويٍّ .
قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } " ذلك " مبتدأٌ أُشير به إلى ما تَقَدَّم من ضَرْب الذِّلَّة والمَسْكَنة والخلافةِ بالغضب . و " بأنهم " الخبرُ . والباءُ للسببية ، أي : ذلك مستحقٌّ بسببِ كفرِهم . وقال المهدوي : " الباءُ بمعنى اللام أي : لأنهم " ولا حاجة إلى هذا ، فإنَّ باءَ السببيةِ تفيدُ التعليلَ بنفسِها . و " يكفرون " في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ ، وكانَ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لأنَّ ، وأنَّ وما في حَيِّزها في محلِّ جرٍّ بالباء . والباءُ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأِ كما تقدَّم .
قوله " بآيات الله " متعلِّقٌ بيكفرون ، والباءُ للتعدية .
قوله " ويقتُلون " في محلِّ نصبٍ عطفاً على خبرِ كان ، وقرئ : " تَقْتُلون " بالخطاب التفاتاً إلى الخطاب الأولِ بعد الغَيْبة ، و " يُقَتِّلونَ " بالتشديدِ للتكثيرِ .
قوله : " الأنبياءَ " مفعولٌ به جمع نبيّ ، والقُرَّاء على تَرْك الهمز في النُّبُوَّة وما تَصَرَّف منها ، ونافعٌ المدنيُّ على الهمزِ في الجميع إلا موضعين : في سورةِ الأحزابِ " للنبيِّ إن أراد " " [ لا تَدْخُلوا ] بيوتَ النبيِّ إلاَّ " فإنَّ قالون حَكَى عنه في الوصلِ كالجماعةِ وسيأتي . فأمّا مَن هَمَز فإنه جَعَله مشتقاً من النبأ وهو الخبر ، فالنبيُّ فعيل بمعنى فاعل ، أي : مُنَبِّئٌ عن الله برسالته ، ويجوزُ أن يكونَ بمعنى مَفْعول أي : إنه مُنَبَّأ مِن الله بأوامِره ونواهِيه ، واستدلُّوا على ذلك بجَمْعِهِ على نُبَآء ، كظريف وظُرَفاء ، قال العباس ابن مرداس :
يا خاتَم النُّبَآء إنَّك مُرْسَلٌ *** بالخيرِ ، كلُّ هدى السبيلِ هُداكا
فظهورُ الهمزتين يَدُلُّ على كونِهِ من النبأ ، واستضعف بعضُ النحويين هذه القراءةَ ، قال أبو علي : " قال سيبويه : " بلغنَا أنّ قوماً من أهل التحقيق يحقِّقون نَبيَّاً وبَريَّة ، قال : وهو رديء " ، وإنما استردَأَه لأن الغالبَ التخفيفُ " وقال أبو عبيد : " الجمهورُ الأعظمُ من القُرَّاء والعوام على إسقاط الهمز من النبيّ والأنبياء ، وكذلك أكثرُ العرب مع حديث رويناه ، فذكر أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا نبيءَ الله " فهمز ، فقال : " لست نبيءَ الله " فهمز ، " ولكن نبيُّ اللهِ " ولم يهمز ، فأنكر عليه الهمز ، قال : " وقال لي أبو عبيدة : العربُ تُبْدِل الهمزَ في ثلاثةِ أحرف : النبي والبريَّة والخابية وأصلهنَّ الهمزُ " ، قال أبو عبيدة : " ومنها حرف رابع : الذُّرِّيَّة من ذرأ يذرأ ، ويدل على أن الأصلَ الهمزُ قولُ سيبويه : إنهم كلَّهم يقول : تنبَّأ مسيلمة فيهمزون ، وبهذا لا ينبغي أن تُرَدَّ به قراءة هذا الإِمامِ الكبير . أمَّا الحديثُ فقد ضَعَّفوه ، قال ابنُ عطية : " مِمَّا يُقَوِّيَ ضعفَه أنه لمَّا أَنْشده العباس : " يا خاتم النُّبآء " لم يُنْكِرهْ ، ولا فرقَ بين الجمع والواحد " ، ولكنَّ هذا الحديثَ قد ذكره الحاكم في المستدرك ، وقال : هو صحيحٌ على شرطِ الشيخين ، ولم يُخْرجاه . قلت : فإذا كان ذلك كذلك فَلْيُلْتَمَسْ للحديثِ تخريجٌ يكونُ جواباً عن قراءة نافع ، على أن القطعيَّ لا يُعارَضُ بالظني ، وإنما نذكرُه زيادةَ فائدةِ والجواب عن الحديث أن أبا زيد حكى : " نَبَأْتُ من أرضِ كذا إلى أَرض كذا " أي : خَرَجْتُ منها إليها ، فقوله : " يا نبيءَ الله " بالهمز يُوهم يا طريدَ الله الذي أخرجه من بلدِه إلى غيره ، فنهاهُ عن ذلك لإِيهامِهِ ما ذكرنا ، لا لسبب يتعلَّق بالقراءةِ .
ونظيرُ ذلك نَهْيُه للمؤمنين عن قولهم : " راعِنا " ، لَمَّا وَجَدَتِ اليهودُ بذلك طريقاً إلى السبِّ به في لغتهم ، أو يكونُ حَضَّاً منه عليه السلام على تحرِّي أفصحِ اللغاتِ في القرآنِ وغيرِه .
وأمَّا مَنْ لم يَهْمِزْ فإنَّه يَحْتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّه من المهموزِ ولكِنْ خُفِّفَ ، وهذا أَوْلى ليوافِقَ القراءتين ولظهورِ الهمزِ في قولِهم : تَنَبَّأ مُسَيلَمَةُ ، وقولِه : " يا خاتَم النُّبآء " . والثاني : أنه أصلٌ آخرُ بنفسِه مشتقٌ من نَبا ينبو إذا ظَهَرَ وارتفع ، ولا شك أن رتبة النبيِّ مرتفعةٌ ومنزلتَه ظاهرةٌ بخلاف غيره من الخَلْق ، والأصلُ : نَبِيْوٌ وأَنْبِواء ، فاجتمع الياءُ والواوُ وسَبَقَتْ إحداهُما بالسكون ، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِم ، كميِّت في مَيْوِت ، وانكسر ما قبلَ الواوِ في الجمعِ فقُلبت ياءً ، فصار أنبِياء . والواوُ في النبوَّة بدلٌ من الهمزِ على الأولِ وأصلٌ بنفسِها على الثاني ، فهو فَعِيلٌ بمعنى فاعِل أي : ظاهرٌ مرتفعٌ ، أو بمعنى مفعول أي : رَفَعه الله على خَلْقه ، أو يكونُ مأخوذاً من النبيّ الذي هو الطريق ، وذلك أن النبيَّ طريقُ اللهِ إلى خَلْقِه ، به يتوصَّلُون إلى معرفةِ خالِقِهم ، وقال الشاعر :
لمَّا وَرَدْنَ نُبَيَّاً واسْتَتَبَّ بِنا *** مُسْحَنْفِرٌ كخُطوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ
لأَصْبَحَ رَتْماً دُقاقُ الحَصَى *** مكانَ النَّبِيِّ من الكاثِبِ
الرَّتْمُ بالتاء المثنَّاة والمثلثةِ جميعاً : الكَسْر ، والكاثبُ بالمثلثة اسمُ جبلٍ ، وقالوا في تحقير نُبُوَّة مُسَيْلَمَةَ : نُبَيِّئَة . وقالوا : جمعُه على أَنْبياء قياس مطَّرد في فَعيل المعتلِّ نحو : وَلِيَّ وأَوْلياء وصَفِيّ وأَصْفِياء . وأمَّا قالون فإنما تَرَك الهمزَ في الموضعين المذكورين لَمَدْركٍ آخرَ ، وهو أنه مِنْ أصلِه في اجتماعِ الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورَتَيْنِ أَنْ تُسَهَّل الأولى ، إلا أنْ يَقَعَ قبلَها حَرفُ مدٍّ فتُبْدَلَ وتُدْغَمَ ، فَلَزِمَه أن يفعل هنا ما فَعَل في " بالسوء إلاَّ " مِن الإِبدالِ والإِدغامِ ، إلاَّ أنه رُوي عنه خلافٌ في " بالسوء إلاَّ " ولم يُرْوَ عنه هنا خلافٌ ، كأنه التزم البدل لكثرةِ الاستعمال في هذه اللفظة وبابها ، ففي التحقيق لم يَتْرُكْ همزَ " النبيّ " بل هَمزَهْ وَلمَّا هَمَزَه أدَّاه قياسُ تخفيفِه إلى ذلك ، وَيدُلَّ على هذا الاعتبارِ أنَّه إنما يَفْعَلُ ذلك حيث يَصِلُ ، أمَّا إذا وَقَفَ فإنَّه يَهْمِزُه في الموضعين لزوالِ السببِ المذكورِ/ فهو تارِكٌ للهمزِ لفظاً آتٍ به تقديراً .
قولُه تعالى : { بِغَيْرِ الْحَقِّ } في محلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعلِ " يَقْتُلون " تقديرُه : يقتُلونهم مُبْطِلين ، ويجوز أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ تقديره : قَتْلاً كائناً بغيرِ الحق ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ . قال الزمخشري : " قتلُ الأنبياءِ لا يكون إلا بغير الحقِّ ، فما فائدةُ ذِكْرِه ؟ وأجابَ بأنَّ معناه أنهم قَتَلوهم بغيرِ الحق عندَهم لأنهم لم يَقْتُلُوا ولا أَفْسَدوا في الأرض حتى يُقْتَلوا ، فلو سُئِلوا وأَنْصَفُوا مِنْ أنفسِهم لم يَذْكُروا وجهاً يَسْتَحِقُّونَ به القتلَ عندهم " وقيل : إنما خَرَجَ وصفُهم بذلك مَخْرَجَ الصفةِ لقَتْلِهم بأنه ظلمٌ في حقهم لاحقٌ ، وهو أبلغُ في الشَّناعة والتعظيم لذنوبهم .
قوله : { ذلِكَ بِمَا عَصَواْ } مثلُ ما تقدَّم . وفي تكريرِ اسم الإِشارة قولان ، أحدهما : أنه مُشارٌ به إلى ما أَشِير بالأول إليه على سبيل التأكيد . والثاني ما قالَه الزمخشري : وهو أَنْ يشَار به إلى الكفرِ وقَتْلِ الأنبياء ، على معنى أنَّ ذلك بسببِ عِصْيانهم واعتدائِهم لأنَّهم انهمكوا فيهما " . و " ما " مصدريةٌ والباءُ للسببيَّة ، أي بسبب عِصْيانهم ، فلا محلَّ ل " عَصَوا " لوقوعِه صلةً ، وأصلُ عَصَوْا عَصَيُوا ، تحرَّكت الياءُ وانفتح ما قبلَها ، قُلبت ألفاً ، فالتقى ساكنان هي والواوُ ، فحُذِفَت لكونها أوَّلَ الساكنين ، وبَقيَتِ الفتحةُ تَدُلُّ عليها فوزنه فَعَوْا . " وكانوا يعتدُون " في محلِّ نصبٍ خبراً ل " كان " ، وكانَ وما بعدها عطفٌ على صلةِ " ما " المصدرية .
وأصلُ العِصيان : الشِّدَّةُ ، اعتصَتِ النَّواةُ ، اشتدَّت ، والاعتداءُ على المجاوزُ من عدا يعدُو ، فهو افتعالٌ منه ، ولم يَذْكُرْ متعلَّقَ العِصيان والاعتداءِ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُعْصَى ويُعْتَدى فيه .
وأصلُ " يَعْتَدُون " يَعْتَدِيُونَ ، ففُعِل به ما فُعِل ب { يتَّقون } [ البقرة : 21 ] من الحَذْفِ والإِعلال وقد تقدَّم ، فوزنُه يَفْتَعُون . والواوُ من " عَصَوْا " واجبةُ الإِدغام في الواوِ بعدَها لانفتاحِ ما قبلَها ، فليسَ فيها مَدٌّ يمنعُ مِن الإِدغامِ ، ومثلُه : { فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ } [ آل عمران : 20 ] وهذا بخلافِ ما إذا انضمَّ ما قبل الواوِ ، فإنَّ المدَّ يقومُ مَقامَ الحاجز بين المِثْلَيْن فيجبُ الإِظهارُ ، نحو { آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } [ البقرة : 25 ] ومثلُه : { الَّذِى يُوَسْوِسُ } [ البقرة : 126 ] .