الطعام : اسم لما يطعم ، كالعطاء ، اسم لما يعطي ، وهو جنس .
الواحد : هو الذي لا يتبعض ، والذي لا يضم إليه ثان .
يقال : وحد يحد وحداً وحدة إذا انفرد .
الدعاء : التصويت باسم المدعوّ على سبيل النداء ، والفعل منه دعا يدعو دعاء .
الإنبات : الهمزة فيه للنقل ، وهو : الإخراج لما شأنه النمو .
البقل : جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والبهائم ، يقال منه بقلت الأرض وأبقلت : أي صارت ذات بقل ، ومنه : الباقلاء ، قاله ابن دريد .
القثاء : اسم جنس واحدة قثاءة ، بضم القاف وكسرها ، وهو هذا المعروف .
وقال الخليل : هو الخيار ، ويقال : أرض مقثأة : أي كثيرة القثاء .
الفوم ، قال الكسائي والفراء والنضر بن شميل أمية بن وغيرهم : هو الثوم ، أبدلت الثاء فاء ، كما قالوا ، في مغفور : مغثور ، وفي جدث : جدف ، وفي عاثور : عافور .
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة *** فيها القراديس والفومان والبصل
وأنتم أناس لئام الأصول ***طعامكم الفوم والحوقل
يعني : الفوم والبصل ، وهذا كما أبدلوا بالفاء الثاء ، قالوا في الأثافي : الأثاثي ، وكلا البدلين لا ينقاس ، أعني إبدال الثاء فاء والفاء ثاء .
وقال أبو مالك وجماعة : الفوم : الحنطة ، ومنه قول أحيحة بن الجلاح :
قد كنت أحسبني كأغنى واحد *** قدم المدينة عن زراعة فوم
قيل : وهي لغة مصر ، وهو اختيار المبرد .
وقال ابن قتيبة والزجاج : هي الحبوب التي تؤكل .
وقال أبو عبيدة وابن دريد : هي السنبلة ، زاد أبو عبيدة بلغة أسد .
وقيل : الخبز ، تقول العرب : فوموا لنا ، أي اخبزوا ، واختاره ابن قتيبة قال :
تلتقم الفالح لم يفوّم *** تقمماً زاد على التقمم
وقال قطرب : الفوم : كل عقدة في البصل ، وكل قطعة عظيمة في اللحم ، وكل لقمة كبيرة .
وقيل : إنه الحمص ، وهي لغة شامية ، ويقال لبائعه : فامي ، مغير عن فومي للنسب ، كما قالوا : شهلي ودهري .
العدس : معروف ، وعدس وعدس من الأسماء الأعلام ، وعدس : زجر للبغل .
أدنى : أفعل التفضيل من الدنوّ ، وهو القرب ، يقال : منه دنا يدنو دنواً .
وقال علي بن سليمان الأخفش : هو أفعل من الدناءة ، وهي : الخسة والرداءة ، خففت الهمزة بإبدالها ألفاً .
وقال أبو زيد في المهموز : دنؤ الرجل ، يدنأ دناءة ودناء ، ودنأ يدنأ .
وقال غيره : هو أفعل من الدون ، أي أحط في المنزلة ، وأصله أدون ، فاصر وزنه : أفلع ، نحو : أولى لك ، هو أفعل من الويل ، أصله أويل فقلب .
المصر : البلد ، مشتق من مصرت الشاة ، أمصرها مصراً : حلبت كل شيء في ضرعها ، وقيل المصر : الحد بين الأرضين ، وهجر يكتبون : اشترى الدار بمصورها : أي بحدودها .
وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فصلا
السؤال : الطلب ، ويقال : سأل يسأل سؤالاً ، والسؤل : المطلوب ، وسال يسال : على وزن خاف يخاف ، ويجوز تعليق فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب .
{ سلهم أيّهم بذلك زعيم } ، قالوا : لأن السؤال سبب إلى العلم فأجرى مجرى العلم .
الذلة : مصدر ذلّ يذلّ ذلة وذلاً ، وقيل : الذلة كأنها هيئة من الذل ، كالجلسة ، والذل : الخضوع وذهاب الصعوبة .
المسكنة : مفعلة من السكون ، ومنه سمى المسكين لقلة حركاته وفتور نشاطه ، وقد بنى من لفظه فعل ، قالوا : تمسكن ، كما قالوا : تمدرع من المدرعة ، وقد طعن على هذا النقل وقيل : لا يصح وإنما الذي صح تسكن وتدرّع .
باء بكذا : أي رجع ، قاله الكسائي : أو اعترف ، قاله أبو عبيدة ، واستحق ، قاله أبو روق ؛ أو نزل وتمكن ، قاله المبرد ؛ أو تساوى ، قاله الزجاج ، وأنشدوا لكل قول ما يستدل به أمن كلام العرب ، وحذفنا نحن ذلك .
النبيء : مهموز من أنبأ ، فعيل : بمعنى مفعل ، كسميع من أسمع ، وجمع على النبآء ، ومصدره النبوءة ، وتنبأ مسيلمة ، كل ذلك دليل على أن اللام همزة .
وحكى الزهراوي أنه يقال : نبؤ ، إذا ظهر فهو نبىء ، وبذلك سمي الطريق الظاهر : نبيئاً .
فعلى هذا هو فعيل اسم فاعل من فعل ، كشريف من شرف ، ومن لم يهمز فقيل أصله الهمز ، ثم سهل .
وقيل : مشتق من نبا ينبو ، إذا ظهر وارتفع ، قالوا : والنبي : الطريق الظاهر ، قال الشاعر :
لما وردن نبياً واستتب بنا *** مسحنفر لخطوط المسح منسحل
قال الكسائي : النبي : الطريق ، سمي به لأنه يهتدي به ، قالوا : وبه سمي الرسول لأنه طريق إلى الله تعالى .
العصيان : عدم الانقياد للأمر والنهي والفعل ، منه : عصى يعصي ، وقد جاء العصى في معنى العصيان .
أنشد بن حماد في تعليقه عن أبي الحسن بن الباذش مما أنشده الفراء :
الاعتداء : افتعال من العدو ، وقد مرّ شرحه عند قوله : { بعضكم لبعض عدوّ }
{ وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } : لما سئموا من الإقامة في التيه ، والمواظبة على مأكول واحد ، لبعدهم عن الأرض التي ألفوها ، وعن العوائد التي عهدوها ، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك وتشوفهم إلى ما كانوا يألفون ، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم .
وأكثر أهل الظاهر من المفسرين على أن هذا السؤال كان معصية ، قالوا : لأنهم كرهوا إنزال المن والسلوى ، وتلك الكراهة معصية ، ولأن موسى وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير ، وبأن قوله : { أتستبدلون } هو على سبيل الإنكار .
والجواب ، أن قولهم : { لن نصبر على طعام واحد } لا يدل على عدم الرضا به فقط ، بل اشتهوا أشياء أخر .
وأما الإنكار فلأنه قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا ، أو الأنفع في الآخرة .
وأما الخيرية فسيأتي الكلام فيها ، وإنما كان سؤالاً مباحاً ، والدليل عليه أن قوله : { كلوا واشربوا } من قبل هذه الآية ، عند إنزال المن وتفجير العين ليس بإيجاب بل هو إباحة ، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم : { لن نصبر على طعام واحد } معصية لأن من أبيح له صنوف من الطعام يحسن منه أن يسأل غيرها ، إما بنفسه أو على لسان الرسول .
ولما كان سؤال النبي أقرب للإجابة ، سألوه عن ذلك ، ولأن النوع الواحد أربعين سنة يمل ويشتهي إذ ذاك غيره ، ولأنهم ما تعودوا ذلك النوع .
ورغبة الإنسان فيما اعتاده ، وإن كان خسيساً ، فوق رغبة ما لم يعتده ، وإن كان شريفاً ، ولأن ذلك يكون سبباً لانتقالهم عن التيه الذي ملوه ، لأن تلك الأطعمة لا توجد فيه ، فأرادوا الحلول بغيره ، ولأن المواظبة على طعام واحد سبب لنقص الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة ، والاستكثار من الأنواع بعكس ذلك .
فثبت بهذا أن تبديل نوع بنوع يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء ، وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه ، فثبت أنه لا يجوز أن يكون معصية .
ومما يؤكد ذلك قوله : { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } هو كالإجابة لما طلبوا .
ولو كانوا عاصين في ذلك السؤال لكانت الإجابة إليه معصية ، وهي غير جائزة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
ووصف الطعام بواحد ، وإن كان طعامين ، لأنه المنّ والسلوى اللذان رزقوهما في التيه ، لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عديدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها قيل : لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً ، يراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف .
ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والسرف ، ونحن قوم فلاحة أهل زراعات ، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة ، كالحبوب والبقول ونحوهما .
ذكر هذين الوجهين في معنى الواحد الزمخشري .
وقيل : أعاد على لفظ الطعام من حيث أنه مفرد لا على معناه .
وقيل : كانوا يأكلون المن والسلوى مختلطين ، فيصير بمنزلة اللون الذي يجمع أشياء ويسمى لوناً واحداً ، قاله ابن زيد .
وقيل : كان طعامهم يأتيهم بصفة الوحدة ، نزل عليهم المن فأكلوا منه مدة حتى سئموه وملوه ، ثم انقطع عنهم ، فأنزل عليهم السلوى فأكلوها مدة وحدها .
وقيل : أرادوا بالطعام الواحد السلوى ، لأن المن كان شراباً ، أو شيئاً يتحلون به ، وما كانوا يعدون طعاماً إلا السلوى .
وقيل : عبر عنهما بالواحد ، كما عبر بالاثنين عن الواحد نحو : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب .
وقيل : قالوا ذلك عند نزول أحدهما .
وقيل : معناه لن نصبر على أننا كلنا أغنياء ، فلا يستعين بعضنا ببعض ، ويكون قد كنى بالطعام الواحد عن كونهم نوعاً واحداً ، وهو كونهم ذوي غنى ، فلا يخدم بعضهم بعضاً ، وكذلك كانوا في التيه ، فلما خرجوا منه عادوا لما كانوا عليه من فقر بعض وغنى بعض .
فهذه تسعة أقوال في معنى قوله : { على طعام واحد } .
{ فادع لنا ربك } : معناه : اسأله لنا ، ومتعلق الدعاء محذوف ، أي ادع لنا ربك بأن يخرج كذا وكذا .
ولغة بني عامر : فادع بكسر العين ، جعلوا دعا من ذوات الياء ، كرمى يرمي ، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم بما اقترحوه ولم يدعوا هم ، لأن إجابة الأنبياء أقرب من إجابة غيرهم ، ولذلك قالوا : ربك ، ولم يقولوا : ربنا ، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم من مناجاته وتكليمه وإتيانه التوراة ، فكأنهم قالوا : ادع لنا الذي هو محسن لك ، فكما أحسن إليك في أشياء ، كذلك نرجو أن يحسن إلينا في إجابة دعائك .
{ يخرج لنا } : جزمه على جواب الأمر الذي هو ادع ، وقد مر نظيره في { أوفوا بعهدي أوف بعهدكم } وقيل : ثم محذوف تقديره : وقل له اخرج فيخرج ، مجزوم على جواب هذا الأمر الذي هو اخرج .
وقيل : جزم يخرج بلام مضمرة ، وهي لام الطلب ، أي ليخرج ، وهذا عند البصريين لا يجوز .
{ مما تنبت الأرض } : مفعول يخرج محذوف ومن تبعيضة : أي مأكولاً مما تنبت ، هذا على مذهب سيبويه .
وقال الأخفش : من زائدة ، التقدير : ما تنبت ، وما موصولة ، والعائد محذوف تقديره ، تنبته ، وفيه شروط جواز الحذف ، وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية تقديره : من إنبات الأرض .
قال أبو البقاء : لا يجوز ذلك لأن المفعول المقدر لا يوصف بالإنبات ، لأن الإنبات مصدر ، والمحذوف جوهر ، وإضافة الإنبات إلى الأرض مجاز ، إذ المنبت هو الله تعالى ، لكنه لما جعل فيها قابلية الإنبات نسب الإنبات إليها .
{ من بقلها } : هذا بدل من قوله : { مما تنبت الأرض } ، على إعادة حرف الجرّ ، وهو فصيح في الكلام ، أعني أن يعاد حرف الجرّ في البدل .
فمن على هذا التقدير تبعيضية ، كهي في مما تنبت ، ويتعلق بيخرج ، إمّا الأولى ، وإمّا أخرى مقدّرة على الخلاف الذي في العامل في البدل ، هل هو العامل الأول ، أو ذلك على تكرار العامل ؟ والمشهور هذا الثاني ، وأجاز المهدويّ أيضاً ، وابن عطية ، وأبو البقاء أن تكون من في قوله : { من بقلها } لبيان الجنس ، وعبر عنها المهدويّ بأنها للتخصيص ، ثم اختلفوا ، فقال أبو البقاء : موضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف تقديره : مما تنبته الأرض كائناً من بقلها ، وقدّم ذكر هذا الوجه قال : ويجوز أن تكون بدلاً من ما الأولى بإعادة حرف الجر .
وأما المهدوي ، وابن عطية فزعما مع قولهما : إن من في { من بقلها } بدل من قوله : { مما تنبت } ، وذلك لأن من في قوله { مما تنبت } للتبعيض ، ومن في قوله { من بقلها } على زعمهما لبيان الجنس .
فقد اختلف مدلول الحرفين ، واختلاف ذلك كاختلاف الحرفين ، فلا يجوز البدل إلا أن ذهب ذاهب إلى أن من في قوله : { مما تنبت الأرض } لبيان الجنس ، فيمكن أن يفرّع القول بالبدل على كونها لبيان الجنس .
والمختار ما قدّمناه من كون من في الموضعين للتبعيض ، وأمّا أن تكون لبيان الجنس ، فقد أباه أصحابنا وتأوّلوا ما استدلّ به مثبت ذلك ، والمراد بالبقل هنا : أطايب البقول التي يأكلها الناس ، كالنعناع ، والكرفس ، والكرّاث ، وأشباهها ، قاله الزمخشري .
وقرأ يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وغيرهما : وقثائها بضم القاف ، وقد تقدّم أنها لغة .
{ وفومها } : تقدّم الكلام فيه ، وللمفسرين فيه أقاويل ستة : أحدها : أنه الثوم ، وبينته قراءة ابن مسعود : وثومها بالثاء ، وهو المناسب للبقل والعدس والبصل .
الثاني : قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدّي : أنه الحنطة .
الرابع : أنه الخبز ، قاله مجاهد وابن عطاء وابن زيد .
{ وعدسها وبصلها } : وأحوال هذه الخمسة التي ذكروها مختلفة ، فذكروا ، أولاً : ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، إذ البقل منه ما هو بارد رطب كالهندبا ، ومنه ما هو حار يابس كالكرفس والسداب ، ومنه ما هو حار وفيه رطوبة عرضية كالنعناع .
وثانياً القثاء ، وهو بارد رطب .
وثالثاً : الثوم ، وهو حار يابس .
ورابعاً : العدس ، وهو بارد يابس .
وخامساً : البصل ، وهو حار رطب ، وإذا طبخ صار بارداً رطباً ، فعلى هذا جاء ترتيب ذكر هذه الخمسة .
{ قال أتستبدلون } : الضمير في قال ظاهر عوده على موسى ، ويحتمل عوده على الرب تعالى ، ويؤيده { اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم } ، والهمزة في { أتستبدلون } للإنكار ، والاستبدال : الاعتياض .
وقرأ أبيّ : أتبدّلون ، وهو مجاز لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى الله تعالى ، لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدّلين ، وكان المعنى : أتسألون تبديل .
{ الذي هو أدنى بالذي هو خير } ، والذي : مفعول أتستبدلون ، وهو الحاصل ، والذي دخلت عليه الباء هو الزائل ، كما قررناه في غير مكان .
هو أدنى : صلة للذي ، وهو هنا واجب الإثبات على مذهب البصريين ، إذ لا طول في الصلة ، وأدنى : خبر عن هو ، وهو : أفعل التفضيل ، ومن وما دخلت عليه حذفاً للعلم ، وحسن حذفهما كون أفعل التفضيل خبراً ، فإن وقع غير خبر مثل كونه حالاً أو صفة قل الحذف وتقديره : أدنى من ذلك الطعام الواحد ، وحسن حذفهما أيضاً كون المفضل عليه مذكوراً بعد ذلك ، وهو قوله : { بالذي هو خير } ، وأفرد : { الذي هو أدنى } لأنه أحال به على المأكول الذي هو { مما تنبت الأرض } ، وعلى ما من قوله : { مما تنبت } ، فيكون قد راعى المبدل منه ، إذ لو راعى البدل لقال : أتستبدلون اللاتي هي أدنى ، وقد تقدّم القول في أدنى عند الكلام على المفردات ، وذكرنا الأقاويل الثلاثة فيها .
وقرأ زهير الفرقبي ، ويقال له زهير الكسائي : أدنأ بالهمز ، ووقع البعض من جمع في التفسير ، وهم في نسبة هذه القراءة للكسائي ، فقال : وقرأ زهير والكسائي شاذاً : أدنأ ، فظن أن هذه قراءة الكسائي ، وجعل زهيراً والكسائي شخصين ، وإنما هو زهير الكسائي يعرف بذلك ، وبالفرقبي ، فهو رجل واحد .
فأما تفسير : الأدنى والخير هنا ففيه أقاويل : أحدها : قال الزجاج : تفاضل الأشياء بالقيم ، وهذه البقول لا خطر فيها ولا علو قيمة ، والمنّ والسلوى هما أعلا قيمة وأعظم خطراً ، واختار هذا الزمخشري ، قال : أقرب منزلة وأهون مقداراً ، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار فيقال : هو أدنى المحل وقريب المنزلة ، كما يعبر بالعبد عن عكس ذلك فيقال : بعيد المحل بعيد المنزلة ، يريدون الرفعة والعلو .
انتهى كلامه ، وهو من كلام الزجاج .
والثاني : أن المنّ والسلوى هو الذي منّ الله به وأمرهم بأكله ، وفي استدامة ما أمر الله به وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوه عار من هذه الخصال فكان أدنى من هذا الوجه .
الثالث : أن التفضيل يقع من جهة الطيب واللذة ، والمن والسلوى لا شك أنهما أطيب من البقول التي طلبوها .
الرابع : أن المنّ والسلوى لا كلفة في تحصيله ولا تعب ولا مشقة ، والبقول لا تحصل إلا بعد مشقة الحرث والزرع والخدمة والسقي ، وما حصل بلا مشقة خير مما حصل بمشقة .
الخامس : أن المنّ والسلوى لا شك في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها العيوب والغصوب ويدخلها الحرام والشبهة ، وما كان حلاً خالصاً أفضل مما يدخله الحرام والشبهة .
السادس : أن المنّ والسلوى يفضلان ما سألوه من جنس الغذاء ونفعه .
وملخص هذه الأقوال : هل الأدنوية والخيرية بالنسبة إلى القيمة ، أو امتثال الأمر وما يترتب عليه ، أو اللذة ، أو الكلفة ، أو الحل ، أو الجنس ؟ أقوال ستة .
وأما قراءة زهير فهي من الدناءة .
وقد تقدم أن أدنى غير المهموز قيل إن أصلها الهمزة فسهل كهذه القراءة ، ومن قال بالقلب وإن أصله أدون ، فالدناءة والدون راجعان إلى معنى واحد ، وهو الخِسة ، وهو من جهة المعنى أحسن مقابلة لقوله : { بالذي هو خير } .
ومن جعل أدنى بمعنى أقرب ، لأن الأدون والأدنأ يقابلهما الخير ، والأدنى بمعنى الأقرب يقابله الأبعد ، وحذف من ومعمولها بعد قوله : هو خير ، لما ذكرناه في قوله : هو أدنى ، من وقوع أفعل التفضيل خبراً وتقديره : منه ، أي من : { الذي هو أدنى } .
وكانت هاتان الصلتان جملتين إسميتين لثبوت الجملة الإسمية ، وكان الخير أفعل التفضيل ، لأنه لا دلالة فيها على تعيين زمان ، بل في ذلك إثبات الأدنوية والخيرية من غير تقييد بزمان ، بخلاف الجملة الفعلية ، فإنه كان يتعين الزمان ، أو يتجوز في ذلك ، إن لم يقصد التعيين ، فكان الوصل بما هو حقيقة في عدم الدلالة على التعيين أفصح ، وكانت صلة ما في قوله : مما تنبت ، جملة فعلية ، لأن الفعل عندهم يشعر بالتجدد والحدوث ، والإنبات متجدد دائماً ، فناسب كل مكان ما يليق به من الصلة .
{ اهبطوا مصراً } : في الكلام حذف على تقدير أن القائل : { أتستبدلون } هو موسى ، وتقدير المحذوف ، فدعا موسى ربه فأجابه ، { قال اهبطوا } وتقدّم معنى الهبوط ، ويقال : هبط الوادي : حل به ، وهبط منه : خرج ، وكان القادم على بلد ينصبّ عليه .
وقرئ اهبطوا ، بضم الباء ، وهما لغتان ، والأفصح الكسر ، والجمهور على صرف مصراً هنا .
وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان بن تغلب : بغير تنوين ، وبين كذلك في مصحف أبي بن كعب ، ومصحف عبد الله ، وبعض مصاحف عثمان .
فأما من صرف فإنه يعني مصراً من الأمصار غير معين ، واستدلوا بالأمر بدخول القرية ، وبأنهم سكنوا الشام بعد التيه ، وبأن ما سألوه من البقل وغيره لا يكون إلا في الأمصار ، وهذا قول قتادة والسدي ومجاهد وابن زيد .
وقيل : هو مصر غير معين لكنه من أمصار الأرض المقدسة ، بدليل : ادخلوا الأرض المقدسة .
وقيل : أراد بقوله : مصراً وإن كان غير معين مصر فرعون ، وهو من إطلاق النكرة ، ويراد بها المعين ، كما تقول : ائتني برجل ، وأنت تعني به زيداً .
قال أشهب ، قال لي مالك : هي مصر قريتك مسكن فرعون .
وأجاز من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين أن تكون مصر هذه المنوّنة هي الاسم العلم .
والمراد بقوله : { أن تبوّآ لقومكما بمصر بيوتاً } قالوا : وصرف ، وإن كان فيه العلمية والتأنيث ، كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين ، لخفة الاسم لسكون وسطه ، قاله الأخفش ، أو صرف لأنه ذهب باللفظ مذهب المكان ، فذكره فبقي فيه سبب واحد فانصرف .
وشبهه الزمخشري في منع الصرف ، وهو علم بنوح ولوط حيث صرفا ، وإن كان فيهما العلمية والعجمة لخفة الاسم بكونه ثلاثياً ساكن الوسط ، وهذا ليس كما ذهبوا إليه من أنه مشبه لهند ، أو مشبه لنوح ، لأن مصر اجتمع فيه ثلاثة أسباب وهي : التأنيث والعلمية والعجمة .
فهو يتحتم منع صرفه بخلاف هند ، فإنه ليس فيه سوى العلمية والتأنيث ، على أن من النحويين من خالف في هند ، وزعم أنه لا يجوز فيه إلا منع الصرف ، وزعم أنه لا دليل على ما ادعى النحويون من الصرف في قوله :
لم تتلفع بفضل مئزرها دعد *** ولم تسق دعد في العلب
وبخلاف نوح ، فإن العجمة لم تعتبر إلا في غير الثلاثي الساكن الوسط ، وأما إذا كان ثلاثياً ساكن الوسط فالصرف .
وقد أجاز عيسى بن عمر منع صرفه قياساً على هند ، ولم يسمع ذلك من العرب إلا مصروفاً ، فهو قياس على مختلف فيه مخالف لنطق العرب ، فوجب اطراحه .
وقال الحسن بن بحر : المراد بقوله مصراً ، البيت المقدس ، يعني أن اللفظ ، وإن كان نكرة ، فالمراد به معين ، كما قلنا في قول من قال : إنه أراد به وإن كان نكرة مصر المعينة .
وأمّا من قرأ مصر بغير تنوين ، فالمراد مصر العلم ، وهي دار فرعون .
واستبعد بعض الناس قول من قال : إنها مصر فرعون ، قال : لأنهم من مصر خرجوا ، وأمروا بالهبوط إلى الأرض المقدسة لقتال الجبارين فأبوا ، فعذبوا بالتيه أربعين سنة لتخلفهم عن قتال الجبارين ، ولقولهم : { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون } فماتوا جميعاً في التيه ، وبقي أبناؤهم ، فامتثلوا أمر الله ، وهبطوا إلى الشام ، وقاتلوا الجبارين ، ثم عادوا إلى البيت المقدّس .
ولم يصرّح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر .
فتلخص من قراءة التنوين : أن يكون المراد مصراً غير معين لا من الشام ولا من غيره ، أو مصراً غير معين من أمصار الشام ، أو معيناً ، وهو بيت المقدس ، أو مصر فرعون ، فهذه أربعة أقوال .
{ فإن لكم ما سألتم } : هذه الجملة جواب للأمر ، كما يجاب بالفعل المجزوم ، ويجري فيه الخلاف الجاري فيه : هل ضمن اهبطوا مصراً معنى أن تهبطوا أو أضمر الشرط ؟ وفعله بعد فعل الأمر كأنه قال : أن تهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم ، وفي ذلك محذوفان : أحدهما : ما يربط هذه الجملة بما قبلها ، وتقديره : فإن لكم فيها ما سألتم .
والثاني : الضمير العائد على ما ، تقديره : ما سألتموه ، وشروط جواز الحذف فيه موجودة .
وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب : سألتم : بكسر السين ، وهذا من تداخل اللغات ، وذلك أن في سأل لغتين : إحداهما : أن تكون العين همزة فوزنه فعل .
والثانية : أن تكون العين واواً تقول : سأل يسأل ، فتكون الألف منقلبة عن واو ، ويدل على أنه من الواو ، وقولهم : هما يتساولان ، كما تقول : يتجاوبان ، وحين كسر السين توهم أنه فتحها ، فأتى بالعين همزة ، قال الشاعر :
إذا جئتهم وسأيلتهم *** وجدت بهم علة حاضره
الأصل ساءلتهم ، والمعروف إبدال الهمزة ياء ، فتقول : سايلتهم ، فجمع بين العوض وهو الياء ، وبين المعوض منه وهو الهمزة لكنه لما اضطر قدم الهمزة قبل ألف فاعل .
وقال ابن جني : يحتمل أن يكون إبدال الهمزة في سألتم ياء ، كما أبدلت ألفاً في قوله :
فانكسر السين قبل الياء ، ثم تنبه للهمز فهمز .
والمعنى : ما سألتم من البقول والحبوب التي اخترتموها على المن والسلوى .
وقيل : ما سألتم من اتكالكم على تدبير أنفسكم في مصالح معاشكم وأحوال أقواتكم .
{ وضربت عليهم الذلة والمسكنة } : معنى الضرب هنا : الإلزام والقضاء عليهم ، من ضرب الأمير البعث على الجيش ، وكقول العرب : ضربة لازم ، ويقال : ضرب الحاكم على اليد ، وضرب الدهر ضرباته ، أي ألزم إلزاماته ، وقيل : معناه الإحاطة بهم والاشتمال عليهم مأخوذ من ضرب القباب .
وقيل : معناه التصقت بهم ، من ضربت الحائط بالطين : ألصقته به .
وقيل : معناه جعلت من ضربت الطين خزفاً ، أي جعلت عليهم الذلة والمسكنة .
أما الذلة فقيل : هي هوانهم بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدّونها عن يد وهم صاغرون ، وقيل : هي ما ألزموا به من إظهار الزيّ ليعلم أنهم يهود ، ولا يلتبسوا بالمسلمين ، وقيل : فقر النفس وشحها ، فلا ترى ملة من الملل أذل وأحرص من اليهود .
وأما المسكنة : فالخشوع ، فلا يرى يهودي إلا وهو بادي الخشوع ، أو الخراج ، وهو الجزية ، قاله الحسن وقتادة ، أو الفاقة والحاجة ، قاله أبو العالية ، أو ما يظهرونه من سوء حالهم مخافة أن تضاعف عليهم الجزية ، أو الضعف ، فتراه ساكن الحركات قليل النهوض .
واستبعد صاحب المنتخب قول من فسر الذلة بالجزية ، لأن الجزية لم تكن مضروبة عليهم من أول أمرهم .
وقيل : هو من المعجزات ، لأنه أخبر عنه صلى الله عليه وسلم .
فكان كما أخبر ، والمضروب عليهم الذلة والمسكنة اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله الجمهور ، أو الذين كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء بغير حق .
والقائلون : { أدع لنا ربك } ومن تابعهم من أبنائهم أقوال ثلاثة .
{ وباؤا بغضب من الله } : تقدم تفسيره باء ، فعلى من قال : باء : رجع ، تكون الباء للحال ، أي مصحوبين بغضب ، ومن قال : استحق ، فالباء صلة نحو : لا يقرأن بالسور : أي استحقوا غضباً ، ومن قال : نزل وتمكن أو تساووا ، والباء ظرفية ، فعلى القول الأول تتعلق بمحذوف ، وعلى الثاني لا تتعلق ، وعلى الثالث بنفس باء .
وزعم الأخفش أن الباء في قوله بغضب للسبب ، فعلى هذا تتعلق بباء ، ويكون مفعول باء محذوفاً ، أي استحقوا العذاب بسبب غضب الله عليهم .
وباء يستعمل في الخير : { لنبوئنهم من الجنة غُرَفاً } { ولقد بوّأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق } { نتبوأ من الجنة حيث نشاء } وفي الشر : { وباؤا بغضب من الله } { أن تبوأ بإثمي وإثمك } { فباؤا بغضب على غضب } وقد جاء استعمال المعنيين في الحديث : « أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي » وقال بعض الناس : باء لا تجيء إلا في الشر .
والغضب هنا ما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا ، أو ما يحل بهم من العذاب في الآخرة .
ويكون باؤوا في معنى يبوؤون ، نحو { أزفت الآزفة } { اقتربت الساعة } { من الله } يحتمل أن يكون متعلقاً بباؤوا إذا كان باء بمعنى رجع ، وكأنهم كانوا مقبلين على الله تعالى ، فبعصيانهم رجعوا منه ، أي من عنده بغضب .
ويحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوف ويكون في موضع الصفة ، أي بغضب كائن من الله ، وهذا الوجه ظاهر إذا كان باء بمعنى استحق ، أو بمعنى نزل وتمكن ، ويبعد الوجه الأول ، وفي وصف الغضب بكونه من الله تعظيم للغضب ، وتفخيم لشأنه .
{ ذلك بأنهم } الإشارة إلى المباءة بالغضب ، أو المباءة .
والضرب وهو مبتدأ ، والجار والمجرور بعده خبر ، والباء للسبب ، أي ذلك كائن بكفرهم وقتلهم .
{ كانوا يكفرون بآيات الله } : الآيات المعجزات التسع وغيرها التي أتى بها موسى ، أو التوراة ، أو آيات منها ، كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو فيها الرّجم ، أو القرآن ، أو جميع آيات الله المنزلة على الرسل ، أقوال خمسة ، وإضافة الآيات إلى الله لأنها من عنده تعالى .
{ ويقتلون النبيين } : قتلوا يحيى وشعيا وزكريا .
وروي عن ابن مسعود قتل بنو إسرائيل سبعين نبياً ، وفي رواية ثلاثمائة نبي في أول النهار ، وقامت سوق قتلهم في آخره .
وعلى هذا يتوجه قراءة من قرأ : يقتلون بالتشديد لظهور المبالغة في القتل ، وهي قراءة علي .
وقرأ الحسن : وتقتلون بالتاء ، فيكون ذلك من الالتفات .
وروي عنه بالياء كالجماعة ، ولا فرق في الدلالة بين النبيين والأنبياء ، لأن الجمعين إذا دخلت عليهما أل تساويا بخلاف حالهما إذا كانا نكرتين ، لأن جمع السلامة إذ ذاك ظاهر في القلة ، وجمع التكسير على أفعلاء ظاهر في الكثرة .
وقرأ نافع : بهمز النبيين والنبىء والأنبياء والنبوءة ، إلا أن قالون أبدل وأدغم في الأحزاب في : { إن وهبت نفسها للنبي } إن أراد وفي { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن } في الوصل .
وقرأ الجمهور بغير همز ، وقد تقدّم الكلام عليه في المفردات .
{ بغير الحق } : متعلق بقوله : وتقتلون ، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير في تقتلون ، أي تقتلونهم مبالغة .
قيل : ويجوز أن تكون منعة لمصدر محذوف ، أي قتلا بغير حق .
وعلى كلا الوجهين هو توكيد ، ولم يرد هذا على أن قتل النبيين ينقسم إلى قتل بحق وقتل بغير حق ، بل ما وقع من قتلهم إنما وقع بغير حق ، لأن النبي معصوم من أن يأتي أمراً يستحق عليه فيه القتل ، وإنما جاء هذا القيد على سبيل التشنيع لقتلهم ، والتقبيح لفعلهم مع أنبيائهم ، أي بغير الحق عندهم ، أي لم يدّعوا في قتلهم وجهاً يستحقون به القتل عندهم .
وقيل : جاء ذلك على سبيل التأكيد كقوله : { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } إذ لا يقع قتل نبي إلا بغير الحق ، ولم يأت نبي قط بما يوجب قتله ، وإنما قتل منهم من قتل كراهة له وزيادة في منزلته .
قال ابن عباس وغيره : لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر .
قيل : وعرّف الحق هنا لأنه أشير به إلى المعهود في قوله عليه السلام : « لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث » وأما المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك حق لا ما يعرفه المسلمون ولا غيره .
{ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } ، ذلك : رد على الأول وتكرير له ، فأشير به لما أشير بذلك الأول ، ويجوز أن تكون إشارة إلى الكفر والقتل المذكورين ، فلا يكون تكريراً ولا توكيداً ، ومعناه : أن الذي حملهم على جحود آيات الله وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ، فجسرهم هذا على ذلك ، إذا المعاصي يريد الكفر .
{ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } { وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم } وقولهم { قلوبنا غلف بل طبع الله عليهم بكفرهم } وقد تقدّم تفسير العصيان والاعتداء لغة ، وقد فسر الاعتداء هنا أنه تجاوزهم ما حدّ الله لهم من الحق إلى الباطل .
وقيل : التمادي على المخالفة وقتل الأنبياء .
وقيل : العصيان بنقض العهد والاعتداء بكثرة قتل الأنبياء .
وقيل : الاعتداء بسبب المخالفة والإقامة على ذلك الزمن الطويل أثر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسائة سنة حين كثر فيهم أولاد السبايا ، واختلفوا بعد عيسى بمائة سنة » .
وقيل : هو الاعتداء في السبت ، قال تعالى : { وقلنا لهم لا تعدوا في السبت } وما : في قوله { بما عصوا } مصدرية ، أي ذلك بعصيانهم ، ولم يعطف الاعتداء على العصيان لئلا يفوت تناسب مقاطع الآي ، وليدل على أن الاعتداء صار كالشيء الصادر منهم دائماً .
ولما ذكر تعالى حلول العقوبة بهم من ضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب ، وبين علة ذلك ، فبدأ بأعظم الأسباب في ذلك ، وهو كفرهم بآيات الله .
ثم ثنى بما يتلو ذلك في العظم وهو قتل الأنبياء ، ثم أعقب ذلك بما يكون من المعاصي ، وما يتعدى من الظلم .
قال معنى هذا صاحب المنتخب ، ويظهر أن قوله ذلك بأنهم كانوا يكفرون ويقتلون ، تعليل لضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب ، وأن الإشارة بقوله { ذلك بما عصوا } إشارة إلى الكفر والقتل ، وبما تعليل لهما فيعود العصيان إلى الكفر ، ويعود الاعتداء إلى القتل ، فيكون قد ذكر شيئين وقابلهما بشيئين .
كما ذكر أولاً شيئين وهما : الضرب والمباءة ، وقابلهما بشيئين وهما : الكفر والقتل ، فجاء هذا لفاً ونشراً في المؤمنين ، وذلك من محاسن الكلام وجودة تركيبه ، ويخرج بذلك عن التأكيد الذي لا يصار إليه إلا عند الحاجة ، وذلك بأن يكون الكلام يبعد أن يحمل على التأسيس .