" لن نَصْبِرَ " ناصب منصوب ، والجملة في محلّ نصب بالقول ، وتقدم الكلام على " لن " .
قوله : { طَعَامٍ وَاحِدٍ } ، وإنما كان طعامين هما : المَنّ والسَّلْوَى ؛ لأن المراد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل ، فأريد بالوحدة نفي التبديل لا الاختلاف ، أو لأنهما ضرب واحد ؛ لأنهما من طعام أهل التلذُّذ والترف ، ونحن أهل زِرَاعات لا نريد إلا ما ألفناه من الأشياء المتفاوتة ، أو لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر ، أو لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا يعجنون المَنّ والسّلوى ، فيصير طعاماً واحداً .
وقيل : لأن العرب تعبّر عن الاثنين بلفظ الواحد ، وبلفظ الواحد عن الواحد ، كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، وإنما يخرجان من المِلْحِ دون العَذْب .
قال ابن الخطيب : ليس المراد أنه واحد في النوع ، بل إنه واحد في المَنْهَجِ ، كما يقال : إن طعام فلان على مائدته طعام واحد إذا كان لا يتغيّر عن نهجه .
وقيل : كنوا بذلك عن الغنى ، فكأنهم قالوا : لن نرضى أن نكون كلنا مشتركين في شيء واحد فلا يخدم بعضنا بعضاً ، وكذلك كانوا أول من اتخذ الخدم والعبيد . و " الطعام " : اسم لكل ما يطعم من مأكول ومشروب ، ومنه : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } [ البقرة : 249 ] ، وقد يختص ببعض المأكولات كاختصاصه بالبُرّ والتَّمْرِ في حديث الصَّدقة ، أو صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير . والطَّعم بفتح الطاء المصدر أو ما يشتهى من الطعام أو ما يؤديه الذوق ، تقول : طَعْمُهُ حُلْو وطَعْمُهُ مُرّ ، وبضمها الشيء المطعوم كالأُكْلِ والأَكْل ؛ قال أبو خِرَاشٍ : [ الطويل ]
527- أَرُدُّ شُجَاعَ البَطْنِ لَوْ تَعْلَمِينَهُ *** وأُوثِرُ غَيْرِي مِنْ عِيَالِكِ بالطُّعْمِ
وأَغْتَبِقُ المَاءَ القَرَاحَ فَأَنْتَهِي *** إذَا الزَّادُ أَمْسَى للْمُزَلَّجِ ذَا طَعْمِ
أراد بالأول المطعوم ، وبالثاني ما يُشْتَهَى منه ، وقد يعبَّر به عن الإعطاء ؛ قال عليه السلام : " إِذا اسْتَطْعَمَكُمُ الإمام فَأَطْعِمُوُه{[1340]} " أي : إذا استفتح ، فافتحوا عليه ، وفلان ما يَطْعَمُ النومَ إلاَّ قائماً ؛ قال : [ المتقارب ]
528- نَعَاماً بِوَجْرَةَ صُفْرَ الْخُدُو *** دِ مَا تَطْعَمُ النَّوْمَ إِلاَّ صيَامَا
قوله : " فادع " اللّغة الفصيحة " ادْعُ " .
ولغة بني عامر " فَادْعِ " بكسر العين قال أبو البقاء : " لالتقاء السَّاكنَيْنِ ؛ يُجْرُونَ المعتلَّ مُجْرَى الصَّحيح ، ولا يراعون المحذُوفَ " يعني أن العَيْنَ ساكنةٌ ، لأجل الأمر ، والدَّالُ قبلها ساكنةٌ ، فكسرت العين ، وفيه نظرٌ ، لأن القاعدة في هذا ونحوه أن يُكْسَر الأوَّل من الساكنين ، لا الثاني ، فيجوزُ أنْ يكُون من لُغتِهِمْ " دَعَا يَدْعِي ، " مثل " رَمَى يَرْمِي " ، والدُّعَاء هنا السُّؤال ، ويكون هنا بمعنَى التَّسْمية ؛ كقوله : [ الطويل ]
529- دَعَتْنِي أَخَاها أُمُّ عَمْرٍو *** . . .
وقد تقدم ، و " لنا " متعلّق به ، واللام للعلة .
قوله : " يُخْرِجْ " مجزوم في جواب الأمر .
وقال بعضهم : مجزوم بلام الأمر مقدرة ، أي " ليخرج " ، وضعفه الزجاج وسيأتي الكلام على حذف لام الأمر إن شاء الله تعالى .
والقراءة المشهورة " يُخْرِجْ " بضم " الياء " وكسر " الراء " ، و " تُنْبِت " بضم " التاء " وكسر " الباء " وقرأ زيد بن علي " يَخْرُج " بفتح " الياء " وضم " الراء " و " تَنْبُت " بفتح " التاء " وضم " الباء " .
قوله : { مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ } مفعول " يخرج " محذوف عن سيبويه تقديره : مأكولاً مما ، أو شيئاً ممّا تنبت الأرض . والجار يجوز أن يتعلّق بالفعل قبله ، ويكون " مِنْ " لابتداء الغاية ، وأن تكون صفةً لذلك المفعول المحذوف ، فيتعلّق بمضمر ، أي : مأكولاً كائناً مما تنبته الأرض .
و " مِنْ " للتبعيض ، ومذهب الأخفش : أن " من " زائدة في المفعول ، والتقدير : يخرج ما تُنْبِتُهُ الأرض ؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً .
قال النَّحاس : وإنما دعى الحسن إلى زيادتها ؛ لأنه لم يجد مفعولاً ل " يخرج " فأراد أن يجعل " ما " مفعولاً و " ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، والعائد محذوف ، أي : من الذي تُنْبته ، أو من شيء تُنْبته ، ولا يجوز جعلها مصدريّة ؛ لأن المفعول المحذوف لا يُوصَف بالإنبات ؛ لأن الإنبات مصدر ، [ والمُخْرج ] جوهر ، وكذلك على مذهب الأخفش ؛ لأن المخرج جوهر لا إنبات .
قوله : " مِنْ بَقْلِهَا " يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون بدلاً من " ما " بإعادة العامل ، و " من " معناها : بيان الجِنْس .
والثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من الضمير المحذوف العائد على " ما " أي : مما تُنْبته الأرض في حال كونه من بقلها ، و " من " أيضاً للبيان .
و " البَقْل " : كل ما تنبته الأرض من النَّجم ، أي : ما لا سَاقَ له ، وجمعه " بُقُول " .
و " القِثَّاء " معروف ، الواحدة : قِثَّاءة ، فهو من باب قَمْح وقَمْحة ، وفيها لغتان : المشهورة كسر القاف ، وهي قراءة العامة ، وقرأ يحيى بن وَثّاب ، وطلحة بن مصرّف ، والأشهب العُقَيْلِيُّ بضم القاف وهي لغة " تميم " .
و " القِثَّاء " مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ ممدود ، تقول : " قِثَّاء " و " قِثَّاءة " وَ " دِبَّاءَ " وَ " دِبَّاءة " ، وَ " دَاء " وَ " دَوَاء " والهمزة أصلٌ بنفسها في قولهم : " أَقْثَأَتِ الأرض " ، أي : كثر قِثَّاؤها . ووزنها " فِعَّال " ، ويقال في جمعها : " قَثَائِي " ، مثل : " عِلْبَاء " و " عَلاَبِي " .
قال بعضهم : إلا أن " قِثَّاء " من ذوات الواو ، تقول " أَقْثَأْتُ القَوْمَ " ، أي : أطمعتهم ذلك ، وَقَثأْتُ القِدْرَ سَكَّنْتُ غليانَهَا بالماء .
530- تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا *** وَنَقْثَؤُهَا عَنَّا إِذَا حَمْيُهَا غَلاَ
وهذا وهم فاحش ؛ لأنه لما جعلها من ذوات الواو كيف يستدلّ عليه بقولهم : " أَقْثأت القوم " بالهمز ، بل كان ينبغي أن يقال : " أَقْثَيْتُ " والأصل " أَقْثوْتُ " لكن لما وقعت الواو في بناء الأربعة قلبت ياء ، ك " أَغْزَيْتُ " من الغَزْوِ ، ولكان ينبغي أن يقال : " قَثَوْتُ القِدْرَ " بالواو ، ولقال الشاعر : [ نَقْثُوهَا ] بالواو .
وَ " الْمَقْثَأة " و " الْمَقْثُؤَة " - بفتح الثاء وضمها : موضع " القِثَّاء " .
و " الفُوم " : الثُوم وروي عن علقمة وابن مسعود أنه قرأ : " وثُومها " ، وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما وفي مصحف عبد الله . والفاء تبدل من الثاء كما قالوا : " جدث وجدف " و " عَاثُور وعَافُور " و " مَغَافير ومَغَاثير " ، ولكنه غير قياس .
وعن ابن عباس الفُوم : الخُبْز ، تقول العرب : " فَوِّمُوا لنا : أي : اخْتَبزُوا " .
وقال ابن عباس أيضاً وعطاء وأبو مالك : هو الحِنْطَة وهي لغة قديمة ، وأنشد ابن عباس لمن سأله عن " الفُومِ " : [ الكامل ]
531- قَدْ كُنْتَ أَحْسِبُنِي كَأَغْنَى وَاحِدٍ *** [ نَزَلَ ] الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعَةِ فُومِ
وقال ابن دُرَيْدٍ " " الفُومَةُ السُّنْبُلَةُ " ، وأنْشَد : [ الوافر ]
532- وَقَالَ رَبيئُهُمْ لم أَتَانَا *** بِكَفِّهِ فُومَةٌ أَوُ فُومَتَانِ{[1341]}
وقال القتيبي : " هو الحبوبُ كلها " .
قال الكلبي والنضر بن شُمَيْل والكسَائي والمؤرج : الصّحيح أنه الثُّوم ، لقراءة ابن عباس ، ولكونه في مُصْحِف عبد الله بن مسعود وثُومها ؛ ولأنه لو كان المراد الحِنْطة لما جاز أن يقال لهم : أَتَسْتَبِْدِلُون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؛ لأن الحِنْطة أشرف الأطعمة ، ولأنَّ الثوم أوفق للعَدَس والبَصَل من الحِنْطة وأنشد المؤرج لحسان : [ المتقارب ]
533- وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الأُصُولِ *** طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ{[1342]}
يعني : الثوم والبصل ؛ وأنشد النضر لأمية بن أبي الصَّلْت : [ البسيط ]
534- كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظاهِرَةً *** فِيْها الْفَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ{[1343]}
الفَرَادِيس : واحدها فِرْدِيسٌ . وَكَوْمٌ مُفَرْدَسٌ ، أي : مُعَرَّش .
وقال بعضهم : " الفُوم : الحِمَّص لغة شامِيّة " .
قوله : " وَعَدَسِهَا " العَدَس معروف ، والعَدَسَة : بَثْرَةٌ تخرج بالإنسان ، وربما قَتَلَتْ وعَدَسْ زجر للبِغَال ؛ قال : [ الطويل ]
535- عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَليْكِ إِمَارَةٌ *** نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ{[1344]}
والعدس : شدة الوَطْء ، والكَدْح أيضاً ، يقال : عدسه . وعدس في الأرض ذهب فيها ، وعدست إليه المَنِيّة أي : سارت ؛ قال الكميت : [ الطويل ]
536- أُكَلِّفُهَا هَوْلَ الظَّلاَمِ وَلَمْ أَزَلْ *** أَخَا اللَّيْلِ مَعْدُوساً إِلَيَّ وَعَادِسَا
أي : يسار إليّ بالليل . وعدس لغة في حدس ، قاله الجوهري . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالعَدَسِ فإنه مُبَارك مُقَدّس ، وإنه يرقق القَلْب ويكثر الدَّمْعَة فإنه بارك فيه سبعون نبياً آخرهم عِيْسَى ابن مريم " .
اختلف العلماء في أكل البصل والثّوم [ والكراث ]{[1345]} وما له رائحة كريهة من البُقُول .
فذهب الجمهور إلى الإبَاحَةِ ، للأحاديث الثابتة في ذلك .
وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب صلاة الفرض في الجَمَاعة إلى المَنْعِ ؛ لأن النبي عليه الصَّلاة والسَّلام سمّاها خبيثةً .
وقال تعالى : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } [ الأعراف : 157 ] .
والصحيح الأول ؛ لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام لبعض أصحابه : " كُلْ فإنِّي أُنَاجي من لا تُنَاجي " .
قوله : " أَتَسْتَبْدِلُون " ؛ وفي مصحف أُبي " أَتُبَدِّلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى " ، وفيه ثلاثة أقوال :
أحدها : وهو الظاهر قول الزجاج أن أصله : " أَدْنَوُ " من الدنو ، وهو القرب ، فقلبت الواو ألفاً لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ، ومعنى الدُّنُوِّ في ذلك فيه وجهان :
أحدهما : أنه أقرب لقلّة قيمته وخَسَاسته .
والثاني : أنه أقرب لكم ؛ لأنه في الدنيا بخلاف الذي هو خير ، فإنه بالصبر عليه يحصل نفعه في الآخرة .
والثاني : قول علي بن سليمان الأَخْفَش أن أصله : " أَدْنَأُ " مَهْمُوزاً من دَنَأَ يَدْنَأُ دَنَاءَة ، وهي الشيء الخَسِيْس ، إلا أنه خفّف همزته ؛ كقوله : [ الكامل ]
537- . . . *** فَارْعَيْ فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ الْمَرْتَعُ{[1346]}
ويدل عليه قراءة زهير{[1347]} [ القرقبي ]{[1348]} الكسائي{[1349]} : " أدنأ " بالهمز .
الثالث : أن أصله : أَدْوَن من الشيء الدّون ، أي : الرَّدِيء ، فقلب بأن أخرت العين إلى موضع اللام ، فصار : أَدْنُوُ ، فأعلّ كما تقدم . ووزنه " أفلع " ، وقد تقدم معنى الاستبدال .
و " أدنى " خبر عن " هو " ، والجملة صلة وعائد ، وكذلك : " هو خير " صلة وعائد أيضاً .
ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثّاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمَنّ والسَّلوى الذي هو خير ؟ من وجوه :
الأول : أنّ البقول لا خطر لها بالنسبة إلى المَنّ والسلوى ، لأنهما طعام مَنّ الله به عليهم ، وأمرهم بأكله ، فكان في استدامته شكر نعمة الله ، وذلك أَجْر وذُخْر في الآخرة ، والذي طلبوه عَارٍ من هذه الخصال ، فكان أدنى .
وأيضاً لما كان المَنَّ والسَّلوى ألذّ من الذي سألوه ، وأطيب كان أدنى ، وأيضاً لما كان ما أعطوه لا كُلْفة فيه ، ولا تعب ، وكان الذي طلبوه لا يجيء إلا بالحَرْثِ والتعب كان [ أيضاً ]{[1350]} أدنى .
وأيضاً لما كان ما ينزل عليهم لا مِرْيَة في حلّه وخُلُوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخلّلها البيوع والغُصوب وتدخلها الشُّبه ، كانت أدنى من هذا الوجه .
وأفرد في قوله : { الَّذِي هُوَ أَدْنَى } وإن كان ما طلبوه أنواعاً حملاً على قوله : " ما " في قوله : { مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ } ، أو على الطعام المفهوم من قوله : { لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } .
قوله : { اهْبِطُواْ مِصْراً } القراءة المعروفة " اهْبِطُوا " بكسر الباء ، وقرئ{[1351]} بضمها .
و " مصراً " قرأ الجمهور منوناً ، وهو خطّ المصحف .
فقيل : إنهم أمروا بهبوط مِصْرٍ من الأمصار فلذلك صرف .
وقيل : أمروا بِمْصرٍ بعينه ، وإنما صرف لخفّته ، لسكون وسطه ك " هِنْد ودَعْد " ؛ وأنشد : [ المنسرح ]
538- لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا *** دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعْدُ في العُلَبِ{[1352]}
أو صرفه ذهاباً به إلى المكان .
وقرأ الحسن{[1353]} : " مِصْرَ " بغير تنوين ، وقال : الألف زائدة من الكاتب ، وكذلك في بعض مصاحف عُثْمان ، ومصحف أُبيّ ، وابن مَسْعُود ، كأنهم عَنَوْا مكاناً بعينه ، وهو بلد فرعون وهو مروي عن أبي العالية .
وقال الزمخشري : " إنه معرّب من لسان العَجَمِ ، فإن أصله مِصْرائيم ، فعرب " ، وعلى هذا إذا قيل بأنه علم لمكان بعينه ، فلا ينبغي أن يصرف ألبتة لانضمام العُجْمة إليه ، فهو نظير " ماه وَجور وحِمْص " ، ولذلك أجمع الجمهور على منعه في قوله : { ادْخُلُواْ مِصْرَ } [ يوسف : 99 ] . والمِصْر في أصل اللغة : الحَدّ الفاصل بين الشيئين ، وحكي عن أهل " هَجَر " أنهم إذا كتبوا بيع دار قالوا : " اشترى فلانٌ الدَّارَ بِمُصُورِهَا " أي : حُدُودها ؛ وأنشد : [ البسيط ]
539- وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بِهِ *** بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلاَ{[1354]}
قوله : { مَّا سَأَلْتُمْ } " ما " في محلّ نصب اسماً ل " إن " ، والخبر في " لكم " ، و " ما " بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، أي : الَّذي سألتموه .
قال أبو البَقَاء : " ويضعف أن تكون نكرة موصوفة " . يعني : أنَّ الذي سألوه شيءٌ معيَّنٌ ، فلا يحسُنُ أن يُجَابُوا بشيء مُبهَمٍ .
وقرئ : " سِلْتُمْ " مثل : بِعْتُمْ ، وهي مأخوذةٌ من " سَالَ " بالألف ، قال حَسَّان رضي الله عنه : [ البسيط ]
540- سَالَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحِشَةً *** ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ{[1355]}
وهل هذه الألف منقلبة عن ياء أو واو لقولهم : يَتَساوَلاَنِ ، أو عن همزة ؟ ثلاثة أقوال يأتي بيانها في سورة " المعارج " إن شاء الله تعالى .
فصل في بيان أنه هل عصوا بذلك السؤال
أكثر المفسرين زعموا أن ذلك السؤال كان معصية .
قال ابن الخطيب : وعندنا ليس الأمر كذلك ، والدليل عليه أن قوله : " كلوا واشربوا " عند إنزال المَنّ والسّلوى ليس بإيجاب ، بل هو إباحةٌ ، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم : { لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ } معصية ؛ لأن من أُبيح له ضرب من الطعام محسن منه أن يسأل غير ذلك ، إما بنفسه أو على لسان الرسول ، فلما كان عندهم أن سؤال موسى أقرب إلى الإجابة جاز لهم أن يسألوه ذلك ، ولم يكن فيه معصية .
واعلم أن سؤال النَّوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض منها : أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين سنةً مَلّوه ، فاشْتَهَوْا غيره .
ومنها : لعلّهم ما تعودوا ذلك النوع ، وإما تعودوا سائر الأنواع ، ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رَغْبته فيما لم يَعْتَدْهُ وإن كان شريفاً .
ومنها : لعلهم ملوا البقاء في التِّيْه ، فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلاَّ في البلاد ، وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس الأطعمة .
ومنها : أن المُوَاظبة على نوع واحد سببٌ لنقصان الشهوة ، وضعف الهَضْم ، وقلّة الرغبة والاستكثار من الأنواع بضد ذلك ، فثبت أن تبديل طعام بغيره يصلح أن يكون مقصود العقلاء ، وليس في القرآن ما يدلّ على منعهم ، فثبت أن هذا القَدْرَ لا يجوز أن يكون معصية ، ومما يؤكد ذلك أن قوله : { اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } كالإجابة لما طلبوا ، ولو كانوا عاصين في ذلك السُّؤال لكانت الإجابة إليه معصية ، وهي غير جائزة على الأنبياء ، لا يقال : إنهم لما أبوا شيئاً اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال : { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] لأن هذا خلاف الظاهر . واحتجوا على أن ذلك السؤال معصية بوجوه :
الأول : قولهم : لن نصبر على طعامٍ واحدٍ يدلّ على أنهم كرهوا إنزال المَنّ والسلوى ، فتلك الكراهة معصية .
الثاني : أن قول موسى عليه الصلاة والسلام : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } استفهام على سبيل الإنكار ، وذلك يدلّ على كونه معصية .
الثالث : أن موسى عليه الصلاة والسلام وصف ما سألوه بأنه أدنى ، وما كانوا عليه بأنه خير ، وذلك يدلّ على ما قلناه .
والجواب عن الأول : أن قولهم : { لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ } ليس فيه دليل على أنهم كرهوه ، بل اشتهوا شيئاً آخر ؛ لأن قولهم : لن نصبر إشارةٌ إلى المستقبل ؛ لأن " لن " لنفي المستقبل ، فلا يدلّ على أنهم سخطوا الواقع .
وعن الثاني : بأن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا ، وقد يكون لما فيه من تَفْويت الأنفع في الآخرة .
وعن الثالث : بأن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث إن الانتفاع به حاضر متيقّن ، ومن حيث إنه حصل بِلاَ كَدّ ولا تَعَبٍ ، فكما يقال ذلك في الحاضر ، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه : إنه أدنى من حيث إنه لا يتيقّن من حيث لا يوصل إليه إلا بالكَدّ ، فلا يمتنع أن يكون مراده عليه الصلاة والسلام هذا المعنى ، أو بعضه ، فثبت أن ذلك السؤال لم يكن معصيةً ، بل كان سؤالاً مباحاً ، وإذا كان كذلك فقوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ } ، لا يجوز أن يكون لما تقدم ؛ بل لما ذكره الله تعالى بعد ذلك وهو قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } إلى آخره . فهذا هو الموجب للغَضَبِ والعقاب لا كونهم سألوا ذلك .
قال قوم : المراد من " مصر " البلد الذي كانوا فيه مع فرعون ؛ لقوله تعالى : { ادْخُلُواْ الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِكُمْ } [ المائدة : 21 ] فأوجب دخول تلك الأرض ، وذلك يقتضي المنع من دخول غيرها ، وأيضاً قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يقتضي دوامهم فيه ؛ وقوله : { وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِكُمْ } [ المائدة : 21 ] صريح في المَنْعِ من الرجوع عن بيت المقدس ، وأيضاً فإنه تعالى ، بعد الأمر بدخول الأرض المقدّسة ، قال : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ } [ المائدة : 26 ] .
فلما بيّن تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المُدّة ، فعند زوال تلك المُدّة يجب أن يلزمهم دخولها ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المراد من مِصْر سواها .
أما الأول : فلأن قوله : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ } [ المائدة : 21 ] أمر ندب فلعلّهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة ، مع أنهم ما منعوا من دخول مصر ، وأما قوله : { كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } فذلك يدل على دوام تلك الأرض المقدسة .
وأما قوله : { وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِكُمْ } فلا نسلّم أنّ معناه : ولا ترجعوا إلى مصر ، بل يحتمل أن يكون معناه : ولا تعصوا فيما أمرتكم ؛ لأن العرب تقول لمن عصى الأمر : ارتَدّ على عقبه ، فالمراد من هذا العصيان كونهم أنكروا أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى .
ويحتمل أن يكون ذلك النهي مخصوصاً بِوَقْتٍ معين .
والجواب : أنه ثبت في الأصول أن ظاهر الأمر للوجوب ، وإن سلّمنا أنه للندب ، ولكن الإذن في تركه يكون إذناً في ترك المندوب ، وهو لا يليق بالأنبياء .
وأما قوله : لا نسلّم أن المراد من قوله : " ولا ترتدوا " : ولا ترجعوا .
قلنا : الدليل عليه أن أمره بدخول الأرض المقدّسة ، ثم قوله بعده : { وَلاَ تَرْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِكُمْ } يتبادر إلى الفَهْم أن النهي يرجع إلى ما تعلّق به ذلك الأمر .
وقوله : " تخصيص النهي بوقت معين " .
قال أبو مسلم الأصفهاني : يجوز أن يكون المراد " مِصْر فرعون " لوجهين :
الأول : من قرأ{[1356]} " مِصْرَ " بغير تنوين كان عَلَماً للبلد المُعَيّن ، وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سواها ، فحمل اللفظ عليه ، ولأن اللفظ إذا دَارَ بين كونه علماً ، وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى .
ومن قرأه منوناً فإما أن تجعله اسم عَلَم ، وتقول : إنما نون لسكون وسطه ، فيكون القريب أيضاً ما تقدم ، وإن جعلناه اسم جنس فقوله : { اهْبِطُواْ مِصْراً } يقتضي التخيير ، كما إذا قال : أَعْتِقْ رَقَبَةً .
الوجه الثاني : أن الله تعالى ورث بن إسرائيل أرض " مصر " لقوله : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 59 ] وإذا كانت موروثةً لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها .
فإن قيل : قد يكون الرجل مالكاً للدَّار وإن كان ممنوعاً من دخولها كمن أوجب على نفسه اعتكافَ أيام في المسجد ، فإنه يحرم عليه دخول دَارِهِ ، وإن كانت مملوكةً له ، فلم لا يجوز أن يقال : إن الله تعالى وَرَّثهم " مصر " بمعنى الولاية ، والتصرف فيها ، ثم إنه تعالى حرم عليهم دخولها بإيجابه عليهم سُكْنى الأرض المقدسة ؟
قلنا : الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل .
وأجاب الفريق الأول عن حجّتي أبي مسلم .
أما قوله " إن القراءة المشهورة بالتنوين يقتضي التخيير " .
قلنا : نعم ، لكنا نخصّص العموم في حقّ هذه البلدة المعينة بما ذكرنا من الدليل .
وأما الثاني : فإنّا لا ننازع في أن الملك لمطلق التصرف لكن قد يترك هذه الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر ، فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمنا من الدّلائل .
قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } أي : جُعِلَتِ الذِّلَّة محيطً بهم ، مشتملةً عليهم ؛ كمن يكون في القُبَّة المَضْرُوبَةِ ؛ قال الفرزدقُ لجرير : [ الكامل ]
541- ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا *** وقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الكِتَابُ المُنْزَلُ{[1357]}
أو ألصقت بهم حتى لزمتهم كما يضرب الطِّين على الحائط فيلزمه .
ومن قال : إنها الجزية فبعيد ؛ لأن الجزية لم تكن مضروبةً حينئذ .
وقال بعضهم : هذا من باب المُعْجِزَات ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر عن ضرب الذِّلّة والمَسْكَنة عليهم ، ووقع الأمر كذلك ، فكان معجزة . و " الذِّلّة " : الصَّغَار . والذُّلّ بالضم : ما كان عن قَهْرٍ ، وبالكسر : ما كان بعد شماس من غير قهر . قاله الراغب{[1358]} .
و " المَسْكَنَةُ " : مَفْعَلَة من السُّكون ، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض ، لما به من الفَقْرِ ، و " المسكين : مُفْعِيْل منه ، إلاّ أن هذه الميم قد ثبتت في اشتقاق هذه الكلمة ، قالوا : تمسكن يتمسكن فهو متمسكن ، وذلك كما تثبت ميم " تَمْنَدل وتَمَدْرَعَ " من " النَّدْلِ " و " الدَّرعِ " وذلك لا يدلّ على أصالتها ؛ لأن الاشتقاق قضى عليها بالزِّيَادة .
وقال الراغب : قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ } : فالميم في ذلك زائدة في أصحّ القولين .
وإيراد هذا الخلاف يؤذن بأن النون زائدة ، وأنه من " مسك " و " ضربت " مبني للمفعول و " الذّلة " قائم مقام الفاعل .
قوله : { وَبَاءُو } ألف " بَاءَ بكذا " منقلبة عن واو ؛ لقولهم : " بَاءَ يَبُوءُ " مثل : " قَالَ يَقُولُ " قال عليه الصَّلاة والسَّلام : " أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ{[1359]} " ، والمصدر : " البَوَاء " .
وبَاءَ معناه : رَجَع ؛ وأنشد بعضهم هذا : [ الوافر ]
542- فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا *** وأُبْنَا بِالمُلُوكِ مُصَفَّدينَا
وهذا وَهَمٌ ؛ لأن هذا البيت من مادة : " آبَ يَئوب " فمادته من همزة ، وواو ، وبَاءٍ ، و " بَاءَ " مادته من باء ، وواو ، وهمزة ، وادعاء القلب يه بعيدٌ ؛ لأنه لم يُعْهَد تقدُّم العين واللام معاً على الفاء في مقلوب ، وهذا من ذاك .
والبَوَاء : الرجوع بالقَوَدِ ، وهُمْ في هذا الأمر بَوَاءٌ ، أي : سَوَاء ؛ قال : [ الطويل ]
543- أَلاَ تَنْتَهي عَنَّا [ مُلُوكٌ ] وتَتَّقِي *** مَحَارِمَنَا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ
أي : لا يرجعُ الدم بالدم في القَوَدِ .
وبَاءَ بكذا : أقرَّ أيضاً ، ومنه الحديث المتقدِّم أي : أُقِرُّ بها ، وأُلْزِمُهَا نَفْسِي ، وقال : [ الكامل ]
544- أَنْكَرْتُ بَاطِلَها وَبُؤْتُ بِحَقِّهَا *** . . .
وقال الراغب : " أصل البَواء مُسَاوَاةٌ الأَجْزَاءِ في المكان خلاف النَّبْوَة الذي هو مُنَافاة الأجزاء " .
وقوله : " وَبَاءوا بِغَضَبٍ " أي : حلُّوا مَبْوَأً ومعه غَضَب ، واستعمال " بَاءَ " تنبيه على أن مكانه الموافق يلزمه فيه غضب الله فكيف بغيره من الأمكنة ، وذلك نحو : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] .
ثم قال : وقول من قال : بؤت بحقها ، أي : أقررت فليس تفسيره بحسب مقتضى اللفظ .
وقولهم : " حَيّاك الله وبَيّاك " أصله : بَوّأك ، وإنما غير للمُشَاكلة ، قاله خلف الأحمر .
وقيل : باءوا : استحقوا ، ومنه قوله تعالى : { إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } [ المائدة : 29 ] أي : تستحق الإثم جمعياً ، ومن قال : إنه الرجوع فلا يقال : باء إلا بِشَرّ .
قوله : " بغضب " في موضع الحال من فاعل " باءوا " أي : رجعوا مغضوباً عليهم ، وليس مفعولاً به ك " مررت بزيد " .
وقال الزمخشري : هو من قولك : باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمُسَاواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه . وعلى هذا التفسير ينبغي كون الباء للحال .
قوله : { مِّنَ اللَّهِ } الظاهر أنه في محلّ جر صفة ب " غضب " ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : بغضب كائن من الله .
و " من " لابتداء الغاية مجازاً .
وقيل : هو متعلّق بالفعل نفسه أي : رجعوا من الله بِغَضَبٍ . وليس بقوي .
قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } .
" ذلك " مبتدأ أشير به إلى ما تقدّم من ضرب الذِّلّة والمسكنة [ والخلافة ] بالغضب .
و " بأنهم " الخبر ، والباء للسببية ، أي : ذلك مستحقّ بسبب كفرهم .
وقال المهدوي : الباء بمعنى اللام أي : لأنهم ، ولا حاجة إلى هذا ، فإن باء السببية تفيد التَّعليل بنفسها .
و " يكفرون " في محلّ نصب خبراً ل " كان " ، و " كان " وما في حَيّزها في محل رفع خبراً للمبتدأ كما تقدم .
قوله : { بِآيَاتِ اللَّهِ } متعلّق ب " يكفرون " والباء للتعدية .
قوله : { وَيَقْتُلُونَ } في محلّ نصب عطفاً على خبر " كان " ، وقرئ : " تقتلون " بالخطاب التفاتاً إلى الخطاب الأول بعد الغيبة . و " يُقَتَّلونُ " بالتشديد للتكثير .
قوله : { النَّبِيِّينَ } مفعول به جمع " نبي " .
والقراء على ترك الهمزة في النُّبوة ، وما تصرف منها ، ونافع المدني على الهمز في الجميع إلاّ موضعين : في سورة " الأحزاب " : { لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ } [ الأحزاب : 50 ] ، { بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ } [ الأحزاب : 53 ] ، فإن قالون حكى عنه في الوَصْلِ كالجماعة وسيأتي . وأما من همز فإنه جعله مشتقاً من " النبأ " وهو الخبر ، فالنَّبِيُّ " فعيل " بمعنى " فاعل " أي : مُنَبِّئ عن الله برسالته ، ويجوز أن يكون بمعنى " مفعول " ، أي : أنه مُنَبَّأٌ من الله بأوامره ونواهيه ، واستدلُّوا على ذلك بجمعه على " نُبَآء " ك " ظَرِيف وظُرَفَاء " قال العَبَّاسُ بنُ مِرْدَاسٍ : [ الكامل ]
545- يا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ *** بِالحَقِّ كُلُّ هُدَى الإلَهِ هُدَاكَا
فظهور الهمزتين يدلُّ على كونه من " النَّبَأ " ، واستضعف بعض النحويين هذه القراءة ، قال أبو علي : " قال سيبويه{[1360]} " : بلغنا أن قوماً من أهل التحقيق يحققون " نبيئاً وبريئة " قال : وهو رَدِيء ، وإنما استردأه ؛ لأن الغالب في استعماله التخفيف . وقال أبو عبيدة الجمهور الأعظم من القراء والعَوَامّ على إسقاط الهمز من النَّبِي والأَنْبِيَاء ، وكذلك أكثر العرب مع حديث رويناه ، فذكر أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا نَبِيءَ الله " فهمز ، فقال : " لَسْتُ بِنَبِيءِ الله " فهمز ولَكِنِّي نَبِيُّ اللَّهِ ، ولم يهمز ، فأنكر عليه الهمز .
قال : وقال لي أبو عبيدة : العرب تبدل الهمزة في ثلاثة أحرف : " النبيّ والبَرية والخَابِية " وأصلهن الهَمْز .
قال أبو عبيدة : ومنها حرف رابع : " الذُّرِّيَّة " من ذَرأَ يَذْرَأ ، ويدلّ عل أن الأصل الهمز قال سيبويه : [ إنهم ] كلّهم يقولون : تنبأ مُسَيْلمة فيهمزون .
وبهذا لا ينبغي أن ترد به قراءة هذا الإمام الكبير ، أما الحديث فقد ضعفوه .
قال ابن عطية : ومما يقوي ضعفه أنه لما أنشده العَبَّاس : [ الكامل ]
546- يَا خَاتَمَ النُّبَآءِ *** . . .
لم ينكره ، ولا فرق بين الجمع والواحد ، ولكن هذا الحديث قد ذكره الحاكم في " المستدرك " ، وقال : هو صحيح على شرط الشَّيخين ، ولم يخرجاه .
فإذا كان كذلك فليلتمس للحديث تخريجٌ يكون جواباً عن قراءة نافع ، على أنّ القَطْعِيّ لا يُعَارَضُ بالظني ، وإنما يذكر زيادة فائدة .
والجواب عن الحديث : أنّ أبا زيد حكى : نَبَأْتُ من أرض كذا إلى أرض كذا ، أي : خرجت منها إليها فقوله : " يا نبيء الله " بالهمز يوهم يا طَرِيدَ الله الذي أخرجه من بلده إلى غيره ، فَنَهَاه عن ذلك لإيهامه ما ذكرنا ، لا لسبب يتعلّق بالقراءة .
ونظر ذلك نهيه المؤمنين عن قولهم : { رَاعِنَا } [ البقرة : 104 ] لما وجدت اليهود بذلك طريقاً إلى السَّب به في لغتهم ، أو يكون حضًّا منه عليه الصلاة والسلام على تَحَرِّي أفصح اللغات في القرآن وغيره ، وأما من لم يهمز ، فإنه يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه من المهموز ، ولكن [ خفف ] ، وهذا أولى ليُوافق القراءتين ، ولظهور الهمز في قولهم : تنبأ مسيلمة ، وقوله : " يا خاتم النُّبَآء . . . . " .
والثاني : أنه أصل آخر بنفسه مشتقّ من " نَبَا يَنْبُو " : إذا ظهر وارتفع ، ولا شَكّ أن رتبة النبي عليه الصلاة والسلام مرتفعة ، ومنزلته ظاهرة بخلاف غيره من الخَلْقِ ، والأصل : " نبيو وأنبواء " ، فاجتمع الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت الياء في الياء ك " ميت " في " ميوت " ، وانكسر ما قبل الواو في الجمع فقلبت ياء ، فصار : أنبياء .
والواو في " النبوة " بدل من الهمزة على الأول ، وأصل بنفسها على الثّاني ، فهو " فعيل " بمعنى " فاعل " ، أي : ظاهر مرتفع ، أو بمعنى مفعول أي : رفعه الله على خَلْقِهِ ، أو يكون مأخوذاً من النبي الذي هو الطريق ، وذلك أن النبي طريق الله إلى خلقه ، به يتوصّلون إلى معرفة خالقهم ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
547- لَمَّا وَرَدْنَ نُبَيًّا وَاسْتَتَبَّ بِنَا *** مُسْحَنْفِرٌ كَخُطُوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ
548 - لأَصْبَحَ رَتْماً دُقَاقَ الحَصَى *** مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الكَاثِبِ
" الرَّتْم " بالتاء المثناة والمثلثة جميعاً : الكسر .
و " الكَاثِب " بالمثلثة : اسم جَبَل ، وقالوا في تحقير نُبُوّة مسيلمة : نَبِيئة .
وقالوا : جمعه أنبياء قياس مُطّرد في " فعيل " المعتل نحو : " وَلِيّ وأولياء ، وصَفِيّ وأصفياء " .
وأما قَالُون فإنما ترك الهمز في الموضعين المذكورين لمَدْرَكٍ آخر ، وهو أنه من أصله في اجتماع الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورتين أن تسهل الأولى ، إلا أن يقع قبلها حرف مدّ ، فتبدل وتدغم ، فلزمه أن يفعل هنا ما فعل في : { بِالسُّوءِ إِلاَّ } [ يوسف : 53 ] من الإبدال والإدغام ، إلاّ أنه روي عنه خلاف في : { بِالسُّوءِ إِلاَّ } ولم يُرْو عنه [ هنا ] خلافٌ كأنه التزم البدل لكثرة الاستعمال في هذه اللَّفظة وبابها ، ففي التحقيق لم يترك همزة " النَّبيّ " ، بل همزه ولما همزه أدّاه قياس تخفيفه إلى ذلك ، ويدلّ على هذا الاعتبار أنه إنما يَفْعَل ذلك حيث يَصِل ، أمّا إذا وقف فإنه يهمزه في الموضعين ، لزوال السَّبب المذكور ، فهو تارك للهمز لفظاً آتٍ به تقديراً .
فإن قيل : قوله : " يَكْفُرُونَ " دخل تحته قتل الأنبياء ، فَلِمَ أعاد ذكره ؟
فالجواب : أن المذكور هنا هو الكفر بآيات الله ، وهو الجهل والجَحْد بآياته ، فلا يدخل تحته قتل الأنبياء .
قوله : { بِغَيْرِ الْحَقِّ } في محلّ نصب على الحال من فاعل " يقتلون " تقديره : يقتلونهم مبطلين ، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف تقديره : قتلاً كائناً بغير الحَقِّ ، فيتعلّق بمحذوف .
قال الزمخشري : قتل الأنبياء لا يكون إلاَّ بغير الحَقّ ، فما فائدة ذكره ؟
وأجاب : بأن معناه أنهم قتلوهم بغير الحَقّ عندهم ؛ لأنهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض حتى يقتلوا ، فلو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقّون به القتل عندهم .
وقيل : إنما خرج وصفهم بذلك مخرج الصّفة لقتلهم بأنه ظلم في حقهم لاحقٌ ، وهو أبلغ في الشناعة والتعظيم لذنوبهم .
وقيل : هذا التكرير للتأكيد ، كقوله تعالى : { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } [ المؤمنون : 117 ] ، ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني بُرْهَان .
وقيل : إن الله تعالى [ لو ذمّهم على مجرد القتل قالوا : أليس أنّ الله يقتلهم ، فكأنه تعالى قال : القَتْلُ الصادر من الله تعالى ] قَتْلٌ بحقِّ ، ومن غير الله قَتْلٌ بغير حق .
فإن قيل : كيف جاز أن يخلّي بين الكافرين [ وقتل ] الأنبياء ؟
قيل : ذلك كرامة لهم ، وزيادة في منازلهم كمن يقتل في سبيل الله من المؤمنين ، وليس ذلك بِخُذْلان لهم .
قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهم : لم يقتل قَطّ نبي من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر .
وقد ورد " الحَقّ " على أحد عشر وجهاً :
الأول : بمعنى " الجَزْم " لقوله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } [ آل عمران : 112 ] أي : بغير جَزْمٍ كهذه الآية .
الثاني : بمعنى " الصّفة " قال تعالى : { الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } [ البقرة : 71 ] أي : بالصفة التي نعرفها .
الثالث : بمعنى " الصّدق " قال تعالى : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ }
[ الروم : 47 ] ، ومثله : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ } [ مريم : 34 ] أي : قول الصدق .
الرابع : بمعنى : " وجب " قال تعالى : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } [ السجدة : 13 ] أي : وجب ، ومثله : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } [ غافر : 6 ] أي : وجبت .
الخامس : بمعنى : " الولد " قال تعالى : { بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ } [ الحجر : 55 ] أي : بالولد .
السادس : الحقّ : الحُجّة قال تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } [ يونس : 76 ] أي : جاءتهم الحجّة ، وهي اليَدُ والعَصَاة .
السابع : بمعنى " القَضَاء " قال تعالى : { قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } [ الأنبياء : 112 ] أي : اقض ، ومثله : { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } [ النور : 49 ] .
الثامن : بمعنى : " التوحيد " قال تعالى : { بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ } [ الصافات : 37 ] أي بالتوحيد .
التاسع : الحَقّ : الإسلام قال تعالى : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ } [ الإسراء : 81 ] أي : جاء الإسلام ، وذهب الكفر ، ومثله : { أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } [ يونس : 35 ] أي : إلى الإسلام ، ومثله : { إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } [ النمل : 79 ] .
العاشر : بمعنى القرآن ، قال تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ } [ ق : 5 ] أي : بالقرآن .
الحادي عشر : الحَقّ : هو الله تعالى ، قال تعالى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ }
[ المؤمنون : 71 ] أي : في إيجاد الولد ، ومثله : { وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ } [ العصر : 3 ] أي : بالله .
قوله : " ذَلِكَ بِمَا عَصَوا " مثل ما تقدم .
أحدهما : أنه مُشَار به إلى ما أشير بالأول إليه على سبيل التأكيد .
والثاني : ما قاله الزمخشري : وهو أن يشار به إلى الكُفْرِ ، وقَتْلِ الأنبياء ، على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم ، واعتدائهم ؛ لأنهم انهمكوا فيها .
و " ما " مصدرية ، و " الباء " للسببية ، أي بسبب عصيانهم ، فلا محلّ ل " عصوا " لوقوعه صلةً ، وأصل " عَصَوْا " : " عَصَيُوا " تحركت الياء وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفاً ، فالتقى ساكنان [ الياء ] والواو ، فحذفت الياء لكونها أوّل السّاكنين ، وبقيت الفتحة تدلّ عليها ، فوزنه " فَعَوْا " .
وأصل " العصيان " : الشدة . واعتصمت النَّوَاة : إذا اشتدت .
قوله : { وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } المراد منه الظُّلم ، أو تجاوز الحَقّ إلى الباطل .
وأصل " الاعتداء " : المُجَاوزة من " عَدَا " " يَعْدُو " ، فهو " افْتِعَال " منه ، ولم يذكر متعلّق العصيان والاعتداء ، ليعم كل ما يُعْصى ويعتدى فيه .
وأصل " يَعْتَدُون " : " يَعْتَدِيُون " ، ففعل به ما فعل ب { تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] من الحذف والإعلال ، وقد تقدم ، فوزنه : " يَفْتَعُون " .
والواو من " عصوا " واجبة الإدغام في الواو بعدها ، لانفتاح ما قبلها ، وليس فيها [ مدٌّ ] يمنع من الإدغام ، ومثله : { فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ }
[ آل عمران : 20 ] وهذا بخلاف ما إذا انظم ما قبل الواو ، فإن المَدّ يقوم مقام الحاجز بين المثلين : فيجب الإظهار ، نحو : { آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } [ البقرة : 25 ] ومثله : { الَّذِي يُوَسْوِسُ } [ الناس : 5 ] .
فإن قيل : ما الفرق بين ذكره " الحَقّ " هاهنا معرفاً ، وبين ذكره في " آل عمران " منكراً في قوله : { وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } [ آل عمران : 112 ] ؟
والجواب : أن الحَقّ المعلوم الذي يوجب القتل فيما بين الناس هو قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يَحِلّ دَمُ امرئ مسلم إلا بإحْدَى ثَلاَثٍ ، كُفْر بعد [ إيمان ]{[1361]} ، وزِنًى بعد [ إحْصَان ]{[1362]} ، وقَتْل نفس بغير حق " .
فالمعرّف إشارة إلى هذا ، والمنكّر المراد به تأكيد العموم ، أي : لم يكن هناك حقّ ألبتّة لا لهذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره .
فإن قيل : ما الفائدة في جمعه " الأنبياء " هنا جمع سَلاَمة ، وفي " آل عمران " جمع تكسير ؟
فالجواب : [ ذلك لموافقة ما بعده من جمعي السَّلامة ، وهو " النَّبِيِّين " " الصَّابِئِين " بخلاف الأنبياء ] . .