قوله تعالى : " وإذ قلتم يا موسى لن نصبر " كان هذا القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى وتذكروا عيشهم الأول بمصر . قال الحسن : كانوا نَتَانَى أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى عِكرِهم{[804]} عِكْرِ السوء ، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا : لن نصبر على طعام واحد وكنوا عن المن والسلوى بطعام واحد ، وهما اثنان لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر ؛ فلذلك قالوا طعام واحد ، وقيل : لتكرارهما في كل يوم غذاء ، كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة : هو على أمر واحد لملازمته لذلك . وقيل : المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء ، فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منا بنفسه ، وكذلك كانوا فهم أول من اتخذ العبيد والخدم .
قوله تعالى : " على طعام واحد " الطعام يطلق على ما يطعم ويشرب قال الله تعالى " ومن لم يطعمه فإنه مني " وقال : " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " [ المائدة : 93 ] أي ما شربوه من الخمر على ما يأتي بيانه{[805]} . وإن كان السلوى العسل - كما حكى المؤرج - فهو مشروب أيضا . وربما خص بالطعام البر والتمر كما في حديث أبي سعيد الخدري قال : كنا نخرج صدقة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير الحديث . والعرف جار بأن القائل : ذهبت إلى سوق الطعام فليس يفهم منه إلا موضع به دون غيره مما يؤكل أو يشرب والطعم ( بالفتح ) : هو ما يؤديه الذوق يقال : طعمه مر . والطعم أيضا : ما يشتهى منه يقال : ليس له طعم . وما فلان بذي طعم : إذا كان غثا . والطعم ( بالضم ) : الطعام قال أبو خراش :
أرُدُّ شُجَاعَ البطن لو{[806]} تعلمينه *** وأُوثِرُ غيري من عيالك بالطُّعْمِ
وأغْتَبِقُ الماء القَرَاحَ فأنتهي *** إذا الزاد أمسى للمُزَلَّجِ{[807]} ذا طعم
أراد بالأول الطعام وبالثاني ما يشتهى منه ، وقد طعم يطعم فهو طاعم إذا أكل وذاق ومنه قوله تعالى " ومن لم يطعمه فإنه مني " [ البقرة : 249 ] أي من لم يذقه . وقال : " فإذا طعمتم فانتشروا " [ الأحزاب : 53 ] أي أكلتم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم : ( إنها طعام طعم وشفاء سقم ){[808]} واستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدثه . وفي الحديث : ( إذا استطعمكم الإمام فأطعموه ) يقول : إذا استفتح فافتحوا عليه وفلان ما يطعم النوم إلا قائما . وقال الشاعر :
نَعَاماً بوَجْرة صفر الخدو *** د ما تطعم النوم إلا صياما{[809]}
قوله تعالى : " فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض " لغة بني عامر " فادع " بكسر العين لالتقاء الساكنين ، يجرون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف . و " يخرج " مجزوم على معنى سلْه وقل له : أخرج ، يخرج . وقيل : هو على معنى الدعاء على تقدير حذف اللام وضعفه الزجاج . و " من " في قول " مما " زائدة في قول الأخفش وغير زائدة في قول سيبويه ؛ لأن الكلام موجب . قال النحاس : وإنما دعا الأخفش إلى هذا ؛ لأنه لم يجد مفعولا ل " يخرج " فأراد أن يجعل " ما " مفعولا . والأوْلى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سائر الكلام ، التقدير : يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولا . ف " من " الأولى على هذا للتبعيض والثانية للتخصيص .
قوله تعالى : " من بقلها " بدل من " ما " بإعادة الحرف ، والبقل معروف وهو كل نبات ليس له ساق . والشجر : ما له ساق .
و " وقثائها " عطف عليه وكذا ما بعده فاعلمه ، والقثاء أيضا معروف وقد تضم قافه ، وهى قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف لغتان ، والكسر أكثر . وقيل في جمع قثاء : قثائي مثل علباء وعلابي إلا أن قثاء من ذوات الواو ، تقول : اقثأئت القوم أي أطعمتهم ذلك . وقثأت القدر سكنت غليانها بالماء قال الجعدي :
تفور علينا قدرهم فنُدِيمُها *** ونَقْثَؤُهَا عنا إذا حَمْيُهَا غلا
وقثأت{[810]} الرجل إذا كسرته عنك بقول أو غيره وسكنت غضبه . وعدا حتى أقثأ ؛ أي : أعيا وانبهر ، وأقثأ الحر ؛ أي : سكن وفتر ، ومن أمثالهم في اليسير من البر قولهم : إن الرثيئة تقثأ في الغضب . وأصله أن رجلا كان غضب على قوم وكان مع غضبه جامعا فسقوه رثيئة فسكن غضبه وكف عنهم . الرثيئة : اللبن المحلوب على الحامض ليخثر . رثأت اللبن رثأ إذا حلبته على حامض فخثر ، والاسم الرثيئة ، وارتثأ اللبن خثر .
وروى ابن ماجه حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كانت أمي تعالجني للسمنة ، تريد أن تدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فما استقام لها ذلك ، حتى أكلت القثاء بالرطب فسمنت كأحسن سمنة . وهذا إسناد صحيح .
قوله تعالى : " وفومها " اختلف في الفوم فقيل هو : الثوم ؛ لأنه المشاكل للبصل . رواه جويبر عن الضحاك والثاء تبدل من الفاء كما قالوا : مغافير ومغاثير{[811]} . وجدث وجدف للقبر . وقرأ ابن مسعود " ثومها " بالثاء المثلثة وروي ذلك عن ابن عباس . وقال أمية بن أبي الصلت :
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرةٌ *** فيها الفَرَادِيسُ والفُومَانُ والبصل
الفراديس : واحدها فرديس . وكرم مفردس أي معرش . وقال حسان :
وأنتم أناس لئام الأصول *** طعامكم الفوم والحَوقَل
يعني الثوم والبصل ، وهو قول الكسائي والنضر بن شميل . وقيل : الفوم الحنطة . روي عباس أيضا وأكثر المفسرين ، واختاره النحاس قال : وهو أولى ، ومن قال به أعلى وأسانيده صحاح ، وليس جويبر بنظير لروايته وإن كان الكسائي والفراء قد اختارا القول الأول لإبدال العرب الفاء من الثاء والإبدال لا يقاس عليه ، وليس ذلك بكثير في كلام العرب . وأنشد عباس لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة قول أحيحة بن الجلاح :
قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا *** ورد المدينة عن زراعة فُوم{[812]}
وقل أبو إسحاق الزجاج : وكيف يطلب القوم طعاما لا بر فيه ، والبر أصل الغذاء ! . وقال الجوهري أبو نصر : الفوم الحنطة . وأنشد الأخفش :
قد كنت أحسبني كأغنى واجد *** نزل المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن دريد : الفومة السنبلة وأنشد :
وقال ربيئُهم{[813]} لما أتانا *** بكفِّه فومة أو فُومَتَانِ
والهاء في " كفه " غير مشبعة . وقال بعضهم : الفوم الحمص لغة شامية . وبائعه فامي مغير عن فومي ؛ لأنهم قد يغيرون في النسب ، كما قالوا : سهلي ودهري . ويقال : فوموا لنا أي اختبزوا . قال الفراء : هي لغة قديمة . وقال عطاء وقتادة : الفوم كل حب يختبز .
مسألة : اختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول . جمهور العلماء إلى إباحة ذلك ، للأحاديث الثابتة في ذلك ، وذهبت طائفة من أهل الظاهر - القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضا - إلى المنع ، وقالوا : كل ما منع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به . واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها خبيثة ، والله عز قد وصف نبيه عليه السلام بأنه يحرم الخبائث . ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي ببَدْرٍ فيه{[814]} خضرات من بقول فوجد لها ريحا ، قال : فأخبر بما فيها من البقول ، فقال : ( قربوها ) - إلى بعض أصحابه كان معه - فلما رآه كره أكلها ، قال : ( كل فإني أناجي من لا تناجي ) . أخرجه مسلم وأبو داود . فهذا بين في الخصوص له والإباحة لغيره . وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على أبي أيوب ، فصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فيه ثوم ، فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : لم يأكل . ففزع وصعد إليه فقال : أحرام هو ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا ولكني أكرهه ) . قال : فإني أكره ما تكره أو ما كرهت ، قال : وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤتى ( يعني يأتيه الوحي ) . فهذا نص على عدم التحريم . وكذلك ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أكلوا الثوم زمن خيبر وفتحها : ( أيها الناس إنه ليس لي تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها ) الأحاديث تشعر بأن الحكم خاص به ، إذ هو المخصوص بمناجاة الملك . لكن قد علمنا هذا الحكم في حديث جابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم ؛ حيث قال : ( من أكل من هذه البقلة الثوم وقال مرة : من أكل البصل والثوم والكراث فلا يقربن مسجدنا ، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طول : إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين ، هذا البصل والثوم . ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخا . خرجه مسلم .
قوله تعالى : " وعدسها وبصلها " العدس معروف . والعدسة : بثرة تخرج بالإنسان ، وربما قتلت . وعدس : زجر للبغال ، قال :
عَدَسْ ما لعبَّاد عليك إمارة *** نجوتِ وهذا تحملين طليق{[815]}
والعدس : شدة الوطء ، والكدح أيضا ، يقال : عدسة . وعدس في الأرض : ذهب فيها . وعدست إليه المنية أي سارت ، قال الكميت :
أُكَلِّفُهَا هولَ الظلام ولم أزل *** أخَا الليل معدوساً إلي وعادسا
أي يسار إلي بالليل . وعدس : لغة في حدس ، قاله الجوهري . ويؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي أنه قال : ( عليكم بالعدس فإنه مبارك مقدس ، وإنه يرق القلب ويكثر الدمعة ، فإنه بارك فيه سبعون نبيا آخرهم عيسى ابن مريم ) ، ذكره الثعلبي وغيره . وكان عمر بن عبد العزيز يأكل يوما خبزا بزيت ، ويوما بلحم{[816]} ، ويوما بعدس . قال الحليمي : والعدس والزيت طعام الصالحين ، ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه ، لكان فيه كفاية . وهو مما يخفف البدن فيخف للعبادة ، لا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم . والحنطة من جملة الحبوب وهي الفوم على الصحيح ، والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة ، كما كان العدس من طعام قرية إبراهيم عليه السلام ، فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما السلام فضيلة ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشبع هو وأهله من خبز بر ثلاثة أيام متتابعة منذ قدم المدينة إلى أن توفاه الله عز وجل .
قوله تعالى : " قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير " الاستبدال : وضع الشيء موضع الآخر ، ومنه البدل ، وقد تقدم . و " أدنى " مأخوذ عند الزجاج من الدنو أي القرب في القيمة ، من قولهم : ثوب مقارب ، أي قليل الثمن . وقال علي بن سليمان : هو مهموز من الدنيء البين الدناءة بمعنى الأخس ، إلا أنه خفف همزته . وقيل : هو مأخوذ من الدون أي الأحط ، فأصله أدون ، أفعل ، قلب فجاء أفلع ، وحولت الواو ألفا لتطرفها . وقرئ في الشواذ " أدنى{[817]} " . ومعنى الآية : أتستبدلون البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمن والسلوى الذي هو خير .
واختلف في الوجوه التي توجب فضل المن والسلوى على الشيء الذي طلبوه وهى خمسة : الأول : أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المن والسلوى كانا أفضل ، قاله الزجاج .
الثاني : لما كان المن والسلوى طعاما مّن الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في استدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة ، والذي طلبوه عار من هذه الخصائل كان أدنى في هذا الوجه . الثالث : لما كان ما مّن الله به عليهم أطيب وألذ من الذي سألوه ، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة . الرابع : لما كان ما أعطوا لا كلفة فيه ولا تعب ، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب كان أدنى . الخامس : لما كان ما ينزل عليهم لا مرية في حله وخلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخللها البيوع والغصوب وتدخلها الشبه ، كانت أدنى من هذا الوجه .
مسألة : في هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات والمطاعم المستلذات ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل ، ويشرب الماء البارد العذب ، وسيأتي هذا المعنى في " المائدة{[818]} " و " النحل{[819]} " إن شاء الله مستوفى .
قوله تعالى : " اهبطوا مصرا " تقدم معنى الهبوط{[820]} ، وهذا أمر معناه التعجيز ، كقوله تعالى : " قل كونوا حجارة أو حديدا " [ الإسراء : 50 ] لأنهم كانوا في التيه وهذا عقوبة لهم . وقيل : إنهم أعطوا ما طلبوه . و " مصرا " بالتنوين منكرا قراءة الجمهور ، وهو خط المصحف ، قال مجاهد وغيره : فمن صرفها أراد مصرا من الأمصار غير معين . وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله : " اهبطوا مصرا " قال : مصرا من هذه الأمصار . وقالت طائفة ممن صرفها أيضا : أراد مصر فرعون بعينها . استدل الأولون بما اقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية ، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه . واستدل الآخرون بما في القرآن من أن الله أورث ، بني إسرائيل ديار آل فرعون وأثارهم ، وأجازوا صرفها . قال الأخفش والكسائي : لخفتها وشبهها بهند ودعد ، وأنشد :
لم تتلفع بفضل مئزرها *** دعدٌ ولم تُسْقَ دَعْدٌ في العُلَب{[821]}
فجمع بين اللغتين . وسيبويه والخليل والفراء لا يجيزون هذا ، لأنك لو سميت امرأة بزيد لم تصرف . وقال غير الأخفش : أراد المكان فصرف . وقرأ الحسن وأبان بن تغلب وطلحة : " مصر " بترك الصرف . وكذلك هي في مصحف أبى بن كعب وقراءة ابن مسعود . وقالوا : هي مصر فرعون . قال أشهب قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون ، ذكره ابن عطية . والمصر أصله في اللغة الحد . ومصر الدار : حدودها . قال ابن فارس ويقال : إن أهل هجر يكتبون في شروطهم " اشترى فلان الدار بمصورها " أي حدودها ، قال عدي :
وجاعلُ الشمس مصرا لا خفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فَصَلاَ
قوله تعالى : " فإن لكم ما سألتم " " ما " نصب بإن ، وقرأ ابن وثاب والنخعي " سألتم " بكسر السين ، يقال : سألت وسلت بغير همز . وهو من ذوات الواو ، بدليل قولهم : يتساولان .
قوله تعالى : " وضربت عليهم الذلة والمسكنة " أي ألزموهما وقضي عليهم بهما ، مأخوذ من ضرب القباب ، قال الفرزدق في جرير :
ضربت عليك العنكبوت بنسجها *** وقضى عليك به الكتاب المنزل
وضرب الحاكم على اليد ، أي حمل وألزم . والذلة : الذل والصغار . والمسكنة : الفقر . فلا يوجد يهودي وإن كان غنيا خاليا من زي الفقر وخضوعه ومهانته . وقيل : الذلة فرض الجزية ، عن الحسن وقتادة . والمسكنة الخضوع ، وهي مأخوذة من السكون ، أي قلل الفقر حركته ، قاله الزجاج . وقال أبو عبيدة : الذلة الصغار . والمسكنة مصدر المسكين . وروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس : " وضربت عليهم الذلة والمسكنة " قال : هم أصحاب القبالات{[822]} .
قوله تعالى : " وباؤوا بغضب من الله " أي انقلبوا ورجعوا ، أي لزمهم ذلك . ومنه قوله عليه السلام في دعائه ومناجاته : ( أبو ء بنعمتك علي ) أي أقر بها وألزمها نفسي . وأصله في اللغة الرجوع ، يقال باء بكذا ، أي رجع به ، وباء إلى المباءة وهي المنزل أي رجع . والبواء : الرجوع بالقود . وهم في هذا الأمر بواء ، أي سواء ، يرجعون فيه إلى معنى واحد . وقال الشاعر{[823]} :
ألا تنتهي عنا ملوكٌ وتتقي *** محارمنا لا يبؤُؤُ الدم بالدم
أي لا يرجع الدم بالدم في القود . وقال :
فآبوا بالنِّهَابِ وبالسَّبَايا *** وأُبْنَا بالملوك{[824]} مُصَفَّدِينَا
أي رجعوا ورجعنا . وقد تقدم معنى الغضب في الفاتحة{[825]} .
قوله تعالى : " ذلك " تعليل . " بأنهم كانوا يكفرون " أي يكذبون ، " بآيات الله " أي بكتابه ومعجزات أنبيائه ، كعيسى ويحيى وزكريا ومحمد عليهم السلام . و " ويقتلون النبيين " معطوف على " يكفرون " وروي عن الحسن " يقتلون " وعنه أيضا كالجماعة . وقرأ نافع " النبيئين " بالهمز حيث وقع في القرآن إلا في موضعين : في سورة الأحزاب : " إن وهبت نفسها للنبي إن أراد{[826]} " [ الأحزاب . 50 ] . و " لا تدخلوا بيوت النبي إلا " [ الأحزاب : 53 ] فإنه قرأ بلا مد ولا همز . وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين . وترك الهمز في جميع ذلك الباقون . فأما من همز فهو عنده من أنبأ إذا أخر ، واسم فاعله منبئ . ويجمع نبيء أنبياء ، وقد جاء في جمع نبي نبآء ، قال العباس بن مرداس السلمي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :
يا خاتم النُّبآء إنك مرسل *** بالحق كلُّ هدى السبيل هداكا
هذا معنى قراءة الهمز . واختلف القائلون بترك الهمز ، فمنهم من اشتق اشتقاق من همز ، ثم سهل الهمز . ومنهم من قال : هو مشتق من نبا ينبو إذا ظهر . فالنبي من النبوة وهو الارتفاع ، فمنزلة النبي رفيعة . والنبي بترك الهمز أيضا الطريق ، فسمي الرسول نبيا لاهتداء الخلق به كالطريق ، قال الشاعر{[827]} :
لأصبح رَتْماً دُقاق الحصى *** مكانَ النبي من الكاثب
رتمت الشيء : كسرته ، يقال : رتم أنفه ورثمه ، بالتاء والثاء جميعا . والرتم أيضا المرتوم أي المكسور . والكاثب اسم جبل . فالأنبياء لنا كالسبل في الأرض . ويروى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : السلام عليك يا نبيء الله ، وهمز . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لست بنبيء الله - وهمز - ولكني نبي الله ) ولم يهمز . قال أبو علي : ضعف سند هذا الحديث ، ومما يقوي ضعفه أنه عليه السلام قد أنشده المادح :
قوله تعالى : " بغير الحق " تعظيم للشنعة والذنب الذي أتوه " . فإن قيل : هذا دليل على أنه قد يصح أن يقتلوا بالحق ، ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يقتلون به . قيل له : ليس كذلك ، وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم وليس بحق ، فكان هذا تعظيما للشنعة عليهم ، ومعلوم أنه لا يقتل نبي بحق ، ولكن يقتل على الحق ، فصرح قوله : " بغير الحق " عن شنعة الذنب ووضوحه ، ولم يأت نبي قط بشيء يوجب قتله .
فإن قيل : كيف جاز أن يخلى بين الكافرين وقتل الأنبياء ؟ قيل : ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم ، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين ، وليس ذلك بخذلان لهم . قال ابن عباس والحسن : لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكل من أمر بقتال نصر .
قوله تعالى : " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " " ذلك " رد على الأول وتأكيد للإشارة إليه . والباء في " بما " باء السبب . قال الأخفش : أي بعصيانهم . والعصيان : خلاف الطاعة . واعتصت النواة إذا اشتدت . والاعتداء : تجاوز الحد في كل شيء ، وعرف في الظلم والمعاصي .