جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ ٱهۡبِطُواْ مِصۡرٗا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ} (61)

{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ } ، أي : اذكروا نعمتي في إنزال المن والسلوى طعاماً طيباً نافعاً ثم اذكروا سؤالكم استبدال الأطعمة الدنية بذلك ، { عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ } ، كانوا يأكلون المن بالسلوى فيكون واحداً أو أرادوا بالوحدة أنها لا تتبدل كما يقال طعام فلان واحد ، أي لا يتغير ألوانه ، { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ } : سله بدعائك لنا إياه ، { يُخْرِجْ لَنَا } : يظهر لنا مجزوم بجواب فادع ، { مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا } : من الخضروات ما لا ساق لها تفسير لما تنبت وقع موقع الحال ، { وَقِثَّآئِهَا } ، هو معروف ، { وَفُومِهَا } ، هو الحنطة أو الثوم والعرب {[94]} تقلب الفاء ثاء والثاء فاء ، أو الخبز أو اسم لكل حب يؤكل ، { وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ } : موسى ، { أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى } : أخس ، { بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } : المن والسلوى لنفعهما أو طعمهما وعدم الحاجة إلى السعي ، { اهْبِطُواْ {[95]} مِصْراً } : مصراً من الأمصار ، أي : هذه الأشياء كثيرة في الأمصار لا حاجة إلى الدعاء أو مصر فرعون وجاز صرفه لسكون وسطه ، { فَإِنَّ لَكُم } : فيها ، { مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ {[96]} } : كضرب القبة ، { الذِّلَّةُ } : الجزية فيكون المراد يهود وقعوا في عصر نبينا عليه الصلاة والسلام أو الهوان ، { وَالْمَسْكَنَةُ } : الفاقة أو فقر القلب ولم يزل عليهم أثر البؤس وإن كانوا ذوى مال ، { وَبَآؤُوْاْ } ، أي : صاروا أحقاء ، { بِغَضَبٍ {[97]} }


[94]:نحو مغاثر ومغافر وأثافي وأثاثي وعاثور وعافور والتفسير الأول لابن عباس وأبي مالك والحسن وغيرهم، والثاني لمجاهد وسعيد بن جبير وفي قراءة ابن مسعود وثومها بالثاء والثالث لعطاء وسفيان الثوري، والرابع في البخاري قال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم/12 منه
[95]:قوله: "اهبطوا مصراً، إن كان الآمر موسى فكان رخصة من الله لهم في نزولهم إلى البلدة وخلاصهم من التيه وإن كان الآمر هو الله تعالى فتقديره قلنا اهبطوا جملة مستأنفة يعني دعا موسى فأجبناه/12 وجيز
[96]:وعند ابن عباس وكثير من السلف أن ضمير عليهم في "ضربت عليهم الذلة" لمطلق اليهود ولذلك فسروا الذلة بضرب الجزية، وفسروا آيات الله بإنكار الإنجيل والقرآن والآية التي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم/12 وجيز
[97]:قوله "بغضب" الغضب صفة الله تعالى بلا كيف، وأما قول النافين لصفاته: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فليس بصحيح في حقنا بل الغضب قد يكون لدفع المنافي قبل وجوده فر يكون هناك انتقام أصلا وأيضا فغليان دم القلب يقارنه الغضب ليس أن مجرد الغضب هو غليان دم القلب كما أن الحياء يقارن حمرة الوجه والوجل يقارن صفرة الوجه لا أنه هو هذا ؛ لأن النفس إذا قام بها دفع المؤذى فإن استشعرت القدرة فاض الدم إلى خارج فكان منه الغضب وإن استشعرت العجز غار الدم إلى داخل فاصفر الوجه كما يصيب الحزين وأيضا فلو قدر أن هذا هو حقيقة غضبنا لم يلزم أن يكون غضب الله مثل غضبنا كما أن حقيقة ذات الله ليست مثل ذواتنا فليس هو مماثلا لا لأندادنا ولا لأرواحنا وصفاته كذاته ونحن نعلم بالاضطرار أنا إذا قدرنا موجودين أحدهما عنده قوة يدفع بها الفساد والآخر لا فرق عنده بين الصلاح والفساد كان الذي عنده تلك القوة أكمل ولهذا يذم من لا غيرة له على الفواحش كالديوث ويذم من لا حمية له يدفع بها الظلم عن المظلومين ويمدح الذي له غيرة يدفع بها الفواحش وحمية يدفع بها الظلم ويعلم أن هذا أكمل من ذلك ولهذا وصف النبي - صلى الله عليه وسلم – الرب بالأكملية في ذلك فقال في الحديث الصحيح: (لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن [أخرجه البخاري في "النكاح"، (5220)، وفي غير موضع من صحيحه]، وقال: (تعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني [أخرجه البخاري في "التوحيد"، (7416)، وفي موضع آخر، ومسلم في "اللعان"، (3/724)، ط الشعب]، وقول القائل: إن هذه انفعالات نفسانية فيقال: كل ما سوى الله مخلوق منفعل ونحن وذواتنا منفعلة، فكونها انفعالات فينا لغيرنا نعجز عن دفعها لا يوجب أن يكون الله منفعلاً لها عاجزاً عن دفعها فإن كل ما يجري في الوجود فإنه بمشيئته وقدرته لا يكون إلا ما يشاء ولا يشاء إلا ما يكون له الملك وله الحمد انتهى ما قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني/12] مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ}، أي: ما سبق من ضرب الذلة والبوء بالغضب، {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}: الكتب المنزلة كالإنجيل والقرآن وآية الرجم والتي فيها نعت محمد – صلى الله عليه وسلم – في التوراة، {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ}: شعيباً وزكريا ويحيى عليهم الصلاة والسلام وغيرهم، {بِغَيْرِ الْحَقِّ}، عندهم فإنهم غير معتقدين جواز قتلهم، {ذَلِكَ}: الكفر والقتل، {بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}، أي: جرهم العصيان والتمادي في تجاوز أمر الله تعالى إلى ذلك فإن صغار الذنوب تؤدى إلى الكبار، وقيل تكرير للفظ "ذلك" الأول إشارة إلى أن الهوان والمسكنة كما أن سببهما الكفر والقتل سببهما المعاصي واعتداء حدود الله. ***** 62 {إِنَّ [وذكر هذه الآية بعد ذكر الذلة والبوء عليهم لبيان امتنان النعمة عليهم فإنها في أثناء تعديد النعم كأنه قال انظروا إلى ما ارتكبوا من كبائر الذنوب التي استوجبت عليهم العقوبات المؤبدات ومع هذا إن آمنوا وندموا ورجعوا وتابوا فلهم في الدنيا والآخرة ما للمؤمنين الذين لم يعملوا سوءاً قط وما ذلك إلا على العنايات/12.