فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ ٱهۡبِطُواْ مِصۡرٗا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ} (61)

قوله : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد } تضجُّر منهم بما صاروا فيه من النعمة ، والرزق الطيب ، والعيش المستلذ ، ونزوع إلى ما ألفوه قبل ذلك من خشونة العيش :

إنَّ الشَقيَّ بالشَقَاءِ مُولعٌ *** لا يَمْلِكُ الردَّ لَهُ إذا أتى

ويحتمل أن لا يكون هذا منهم تشوقاً إلى ما كانوا فيه ، ونظراً لما صاروا إليه من العيشة الرافهة ، بل هو : باب من تعنتهم ، وشعبة من شعب تعجرفهم كما هو دأبهم ، وهِجّيِراهم في غالب ما قصّ علينا من أخبارهم . وقال الحسن البصري : إنهم كانوا أهل كراث ، وأبصال ، وأعداس ، فنزعوا إلى عكرهم ، أي : أصلهم عكر السوء ، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم ، فقالوا : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد } والمراد بالطعام الواحد هو المنّ والسلوى ، وهما ، وإن كانا طعامين لكن لما كانوا يأكلون أحدهما بالآخر جعلوهما طعاماً واحد . وقيل : لتكررهما في كل يوم ، وعدم وجود غيرهما معهما ، ولا تبدلة بهما . و«من » في قوله : { مِمَّا تُنبِتُ } تخرج . قال الأخفش زائدة ، وخالفه سيبويه ، لكونها لا تزاد في الكلام الموجب . قال النحاس : وإنما دعا الأخفش إلى هذا ؛ لأنه لم يجد مفعولاً ليخرج فأراد أن يجعل «ما » مفعولاً . والأولى أن يكون المفعول محذوفاً دل عليه سياق الكلام ، أي : تخرج لنا مأكولاً .

وقوله : { مِن بَقْلِهَا } بدل من «ما » بإعادة الحرف . والبقل : كل نبات ليس له ساق ، والشجر : ما له ساق . قال في الكشاف : البقل ما أنبتته الأرض من الخضر ، والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع ، والكرفس ، والكراث ، وأشباهها » . انتهى . والقثاء بكسر القاف ، وفتحها . والأولى قراءة الجمهور ، والثانية قراءة يحيى بن وثاب ، وطلحة بن مُصَرَّف ، وهو معروف . والفوم : قيل هو : الثوم ، وقد قرأه ابن مسعود بالثاء . وروي نحو ذلك عن ابن عباس ، وقيل : الفوم : الحنطة ، وإليه ذهب أكثر المفسرين ، كما قال القرطبي . وقد رجح هذا ابن النحاس . وقال الجوهري : الفوم الحنطة ، وممن قال بهذا الزجاج ، والأخفش ، وأنشد :

قَدْ كُنْتُ أحْسبني كَأغْنَى وَاحِد *** تَركَ المدينةَ عَنْ زِراعةِ فُومِ

وقال بالقول الأوّل الكسائي ، والنضر بن شميل ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :

كَانَت مَنَازِلُهم إذ ذَاكَ ظَاهِرة *** فِيهَا الفَرَادِيسُ والفُومَاتُ والبصَلُ

أي الثوم ، وقال حسان :

وأنتم أُناسٌ لِئَامُ الأصُولِ *** طَعَامكم الفومُ وَالْحوَقلُ

يعني الثوم والبصل ، وقيل : الفوم : السنبلة . وقيل الحمص . وقيل : الفوم : كل حبّ يخبز . والعدس والبصل معروفان . والاستبدال : وضع الشيء موضع الآخر و{ أَدْنَى } قال الزجاج : إنه مأخوذ من الدنوّ . أي : القرب ، والمراد : أتضعون هذه الأشياء التي هي دون موضع المنّ والسلوى اللذين هما خير منها من جهة الاستلذاذ ، والوصول من عند الله بغير واسطة أحد من خلقه ، والحلّ الذي لا تطرقه الشبهة ، وعدم الكلفة بالسعي له ، والتعب في تحصيله . وقوله : { اهبطوا مِصْرًا } أي : انزلوا ، وقد تقدّم معنى الهبوط . وظاهر هذا أن الله أذن لهم بدخول مصر . وقيل : إن الأمر للتعجيز ؛ لأنهم كانوا في التيه ، فهو مثل قوله تعالى : { كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } ( الإسراء : 50 ) ، وصرف مصر هنا مع اجتماع العلمية ، والتأنيث ؛ لأنه ثلاثي ساكن الوسط ، وهو يجوز صرفه مع حصول السببين ، وبه قال الأخفش والكسائي . وقال الخليل ، وسيبويه : إن ذلك لا يجوز وقالا : إنه لا علمية هنا ؛ لأنه أراد مصراً من الأمصار ، ولم يرد المدينة المعروفة ، وهو خلاف الظاهر . وقرأ الحسن ، وأبان بن تغلب ، وطلحة بن مصرف بترك التنوين ، وهو كذلك في مصحف أبيّ ، وابن مسعود . ومعنى ضرب الذلة ، والمسكنة إلزامهم بذلك ، والقضاء به عليهم قضاء مستمراً لا يفارقهم ، ولا ينفصل عنهم ، مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب على من فيها ، ومنه قول الفرزدق يهجو جريراً :

ضرَبَت عَلَيْكَ العَنكَبوتُ بِوزنها *** وَقَضى عَلَيْكَ بِه الكِتابُ المُنزلُ

وهو ضرب من الهجاء بليغ ، كما أنه إذا استعمل في المديح كان في منزلة رفيعة ، ومنه قول الشاعر :

إنَّ المُروءةَ والشَجَاعَة والنَدَى *** في قُبةٍ ضُرِبتْ على ابن الحَشرجِ

وهذا الخبر الذي أخبرنا الله به هو معلوم في جميع الأزمنة ، فإن اليهود أقماهم الله أذلّ الفرق ، وأشدّهم مسكنة ، وأكثرهم تصاغراً ، لم ينتظم لهم جمع ، ولا خفقت على رءوسهم راية ، ولا ثبتت لهم ولاية ، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن ، وطروقة كل فحل في كل عصر ، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بلغ في الكثرة أيّ مبلغ فهو متظاهر بالفقر مُتَرَدٍّ بأثواب المسكنة ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله ، إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية ، أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من التجرؤ على الله بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه . ومعنى { باءوا } رجعوا ، يقال باء بكذا ، أي : رجع به ، وباء إلى المباءة ، أي : رجع إلى المنزل ، والبواء : الرجوع ، ويقال : هم في هذا الأمر بواء ، أي : سواء : يرجعون فيه إلى معنى واحد ، وباء فلان بفلان : إذا كان حقيقاً بأن يقبل به لمساواته له ، ومنه قول الشاعر :

ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي *** محاربنا لا يبوأ الدم بالدم

والمراد في الآية : أنهم رجعوا بغضب من الله ، أو صاروا أحقاء بغضبه . وقد تقدم تفسير الغضب ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم من حديث الذلة وما بعده بسبب كفرهم بالله ، وقتلهم لأنبيائه بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به ، ولم يخرج هذا مخرج التقييد حتى يقال : إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة ، بل المراد : نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه ، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر . ويمكن أن يقال : أنه ليس بحق في اعتقادهم الباطل ، لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لم يعارضوهم في مال ولا جاه ، بل أرشدوهم إلى مصالح الدين والدنيا ، كما كان من شعيا وزكريا ويحيى ، فإنهم قتلوهم ، وهم يعلمون ويعتقدون أنهم ظالمون ، وتكرير الإشارة لقصد التأكيد ، وتعظيم الأمر عليهم ، وتهويله ، ومجموع ما بعد الإشارة الأولى والإشارة الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده . وقيل : يجوز أن تكون الإشارة الثانية إلى الكفر والقتل ، فيكون ما بعدها سبباً للسبب وهو بعيد جداً . والاعتداء تجاوز الحدّ في كل شيء .

/خ61