غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِذۡ قُلۡتُمۡ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامٖ وَٰحِدٖ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ يُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيۡرٌۚ ٱهۡبِطُواْ مِصۡرٗا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَيۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٖ مِّنَ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُواْ يَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَيَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ} (61)

60

قوله سبحانه { وإذ قلتم يا موسى } الآية .

زعم بعض المفسرين أن هذا السؤال منهم كان معصية ، فإن اللائق بحال المكلف الصبر على ما ساقه الله تعالى إليه خصوصاً إذا كان نعمة وعفواً وصفواً ، ولاسيما إذا كان المسؤول أدون وأحقر . ولهذا أنكره موسى عليهم { قال أتستبدلون } . وقال الآخرون : إنه غير معصية لأن قوله { كلوا واشربوا } عند إنزال المن والسلوى ، وانفجار الماء أمر إباحة لا إيجاب . ثم إنهم كانوا أهل فلاحة فرغبوا إلى مألوفهم ، ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رغبته فيما لا يعتاد وإن كان شريفاً . ولعلهم سئموا من التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم البلاد . وأيضاً المواظبة على الطعام الواحد تميت الشهوة وتضعف الهضم ، فيصح أن يكون التبديل مطلوباً للعقلاء ، ولهذا أجابهم الله تعالى إلى ما سألوا ، ولو كان معصية لم يجبهم إلى ذلك ، اللهم إلا أن يكون من قبيل { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } [ الشورى : 20 ] .

وإنما صح إطلاق الطعام الواحد على المن والسلوى ، لأنهم أرادوا بالوحدة نفي التبدل والاختلاف ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها ويأكلها كل يوم لا يبدلها . قيل : لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً . ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والترفه ، ونحن أهل زراعة ما نريد إلا ما ألفناه . ومعنى يخرج لنا يوجد ويظهر . والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر كالنعناع والكرفس والكراث وغير ذلك من أطايب البقول التي يأكلها الناس عادة . والقثاء الخيار ، والفوم الثوم ، ويدل عليه قراءة عبد الله { وثومها } وهو بالعدس والبصل أوفق . وقال بعضهم : الفوم الحمص لغة شامية ، ويقال : هو الحنطة . ومنه قولهم " فوّموا لنا " أي اختبزوا . قال الفراء : هي لغة قديمة .

{ الذي هو أدنى } أي أقرب منزلة وأدون مقداراً كقولهم في ضده " هو بعيد المحل وبعيد الهمة " يعنون الرفعة والعلو .

{ اهبطوا مصراً } أي انحدروا إليه من التيه . يقال : هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج . وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنسرين اثنا عشر فرسخاً في ثمانية . ومصر إما مصر فرعون ، والتنوين فيه في القراءات المعتبرة مع أن فيه العلمية والتأنيث لسكون وسطه كما في نوح ولوط ، وفيهما العلمية والعجمية . وإما مصر من الأمصار كأنه قيل لهم : ادخلوا بلداً أيّ بلد كان لتحدوا فيه هذه الأشياء .

ولما ذكر الله سبحانه صنوف نعمه على بني إسرائيل إجمالاً ثم تفصيلاً ، أراد أن يبين مآل حالهم ليكون عبرة للنظار وتبصرة لأولي الأبصار وتحذيراً للإنسان عن الجحود والكفران المستتبعين للخزي والهوان فقال : { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } أي جعلت محيطة بهم مشتملة عليهم كالقبة المضروبة على الشخص ، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلصق به .

فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة ، إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية . وهذا من جملة الأخبار عن الغيب الدال على كون القرآن وحياً نازلاً من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم . هذا حالهم في الدنيا ، وأما حالهم في العقبى فذلك قوله { وباؤا بغضب من الله } ، من قولك " باء فلان بفلان " إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه وهو إرادة انتقامه .

{ ذلك } الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والخلافة بالغضب ، بسبب كفرهم بآيات الله أي القرآن ، بل وبالتوراة لأن الكفر به مستلزم للكفر بها ، وقتلهم الأنبياء ، وقد قتلت اليهود - لعنوا - شعيباً وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق أي من غير ما شبهة عندهم توجب استحقاق القتل . فإن الآتي بالباطل قد يكون اعتقده حقاً لشبهة عنت له ، وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلاً . ولا شك أن الثاني أقبح وأدخل في القحة ، أو كرر للتأكيد نحو { ومن يدع مع الله الهاً آخر لا برهان له به } [ المؤمنون : 117 ] ومحال أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان . والنبيء بالهمزة " فعيل " بمعنى فاعل من نبأ بالتخفيف أي أخبر لأنه نبأ عن الله تعالى . قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلا ويقول تنبأ مسيلمة بالهمز ، غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية والخابية إلا أهل مكة ، فإنهم يهمزون هذه الأحرف ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك . وقيل : أصله من نبأت من أرض إلى أرض أي خرجت منها إلى أخرى . وهذا المعنى أراد الأعرابي بقوله " يا نبيء الله " أي يا من خرج من مكة إلى المدينة . فأنكر عليه صلى الله عليه وسلم الهمزة . وقيل : النبي بالإدغام من النبوة وهي ما ارتفع من الأرض ، أي أنه صلى الله عليه وسلم شرف على سائر الخلق " فعيل " بمعنى " مفعول " ، والجمع أنبياء . وعلى الأول إنما جمع على أنبياء لأن الهمز لما أبدل وألزم الإبدال جمع جمع ما أصل لامه حرف العلة .

{ ذلك بما عصوا } تأكيد بتكرير الشيء بغير اللفظ الأول كقول السيد لعبده وقد احتمل منه ذنوباً سلفت منه فعاقبه عند آخرها " هذا بما عصيتني وخالفت أمري . هذا بما تجرأت علي واغتررت بحلمي " ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر والقتل على معنى انهمكوا في العصيان والاعتداء حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء ، أو تكون الباء بمعنى " مع " أي ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا سائر أنواع المعاصي ، واعتدوا حدود الله في كل شيء . وقيل : هو اعتداؤهم في السبت .

واعلم أنه سبحانه لما ذكر إنزال العقوبة بهم بين سبب ذلك أولاً بما فعلوه في حق الله وهو جهلهم به وجحدهم لنعمه ، ثم ثناه بما يتلوه في العظم وهو قتل الأنبياء ، ثم ثلثه بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير مثل الاعتداء والظلم وذلك في نهاية الترتيب . وقيل : الأول إشارة إلى متقدميهم ، والثاني إشارة إلى من كان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأنه تعالى بيَّن سبب ما نزل بالفريقين من البلاء والمحنة ليظهر للخلائق أن ذلك على قانون العدالة وقضية الحكمة . فإن قيل : لم قيل ههنا { ويقتلون النبيين بغير الحق } وفي " آل عمران " { ويقتلون النبيين بغير حق } [ آل عمران : 21 ] منكراً ؟ قلت : الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل ما في قوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق " فالحق المعرف إشارة إلى هذا ، وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره ألبتة .