12- لا تحاول - أيها النبي - إرضاء المشركين لأنهم لا يؤمنون ، وعساك إن حاولت إرضاءهم أن تترك تلاوة بعض ما يوحى إليك مما يشق سماعه عليهم ، كاحتقار بعض آلهتهم ، خوفاً من قبح ردهم واستهزائهم ، وعسى أن تحس بالضيق وأنت تتلوه ، لأنهم يطلبون أن ينزل الله عليك كنزاً تنعم به كالملوك ، أو يجئ معك مَلَك يخبرنهم بصدقك ، فلا تبال - أيها النبي - بعنادهم ، فما أنت إلا منذر ومحذِّر من عقاب الله من يخالف أمره ، وقد فعلت فأرِحْ نفسك منهم . واعلم أن الله على كل شيء رقيب ومهيمن ، وسيفعل بهم ما يستحقون .
سبب هذه الآيات أن كفار قريش قالوا : يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك . وقالوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، ونحو هذا من الأقوال . فخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة من المخاطبة ، ووقفه بها توقيفاً راداً على أقوالهم ومبطلاً لها ، وليس المعنى أنه صلى الله عليه وسلم هم بشيء من ذلك فزجر عنه ، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه ، ولا ضاق صدره ، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان .
و { لعلك } ها هنا بمعنى التوقيف والتقرير ، و { ما يوحى إليك } هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله تعالى كأن في ذلك سب آلهتهم وتسفيه آبائهم أو غيره ؛ ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة فمال إلى أن يكون من الله تعالى إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم ، كما جاءت آيات الموادعة . وعبر ب { ضائق } دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع { تارك } ، وإن كان ضيق أكثر استعمالاً لأنه وصف لازم ، و { ضائق } وصف عارض فهو الذي يصلح هنا ، والضمير في { به } عائد على «البعض » ، ويحتمل أن يعود على «ها » و «أن » في موضع نصب على تقدير كراهة أن و «الكنز » ها هنا : المال وهذا طلبهم آية تضطر إلى الإيمان : والله تعالى لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار وإنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال ، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمم التي قدر تعذيبها لكفرها بعد آية الاضطرار ، كالناقة لثمود .
ثم أنسه تعالى بقوله : { إنما أنت نذير } ، أي هذا القدر هو الذي فوض إليك ، والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء وكفر من شاء .
تفريع على قولِه { وَلَئِنْ قُلْت إنّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْد الْمَوْت } إلَى قوله { يَسْتَهْزئُون } [ هود : 7 ، 8 ] مِن ذكر تكذيبهم وعنادهم . يشير هذا التّفريع إلى أنّ مضمون الكلام المفرع عليه سبب لتوجيه هذا التوقع لأنّ من شأن المفرع عليه اليأس من ارعوائهم لتكرر التكذيب والاستهزاء يأساً قد يَبْعَثُ على ترك دعائهم ، فذلك كله أفيد بفاء التفريع .
والتوقع المستفاد من ( لعل ) مستعمل في تحذير من شأنه التبليغ . ويجوز أن يقدّر استفهام حذفت أداته . والتقدير : ألَعَلّكَ تارك . ويكون الاستفهام مستعملاً في النفي للتحذير ، وذلك نظير قوله تعالى : { لَعَلّكَ بَاخِعٌ نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] .
والاستفهام كناية عن بلوغ الحالة حداً يوجِبُ توقع الأمر المستفهَم عنه حتى أنّ المتكلّم يستفهم عن حصوله . وهذا أسلوب يقصد به التحريك من همة المخاطب وإلهابُ همته لدفع الفتور عنه ، فليس في هذا تجويز ترك النّبيّء صلى الله عليه وسلم تبليغ بعض ما يوحى إليه ، وذلك البعض هو مّا فيه دعوتهم إلى الإيمان وإنذارهم بالعذاب وإعلامهم بالبعث كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى { وإذَا لَمْ تَأتِهِمْ بِآيَةٍ قَالوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتهَا } [ الأعراف : 203 ] . والمعنى تحذيره من التأثّر بعنادهم وتكذيبهم واستهزائهم ، ويستتبع ذلك تأييسَ المشركين من تركه ذكر البعث والإنذار بالعذاب ، فالخطاب مستعمل في حقيقته ومراد منه مع ذلك علم السامعين بمضمونه .
{ وضائق } : اسم فاعل من ضاق . وإنما عدل عن أن يقال ( ضيّق ) هنا إلى { ضائق } لمراعاة النظير مع قوله : ( تارك ) لأنّ ذلك أحسن فصاحة . ولأنّ { ضائق } لاَ دَلالَة فيه على تمكّن وصف الضّيْق من صدره بخلاف ضيّق ، إذ هو صفة مشبهة وهي دالة على تمكن الوصف من الموصوف ، إيماء إلى أنّ أقْصَى ما يتوهّم توقعه في جانبه صلى الله عليه وسلم هو ضَيْق قليل يعرض له .
والضيق مستعمل مجازاً في الغم والأسف ، كما استعمل ضده وهو الانشراح في الفرح والمسرة .
و { ضائق } عطف على { تارك } فهو وفاعله جملة خبر عن ( لعلّك ) فيتسلط عليه التفريع .
والباء في { بِه } للسببية ، والضمير المجرور بالباء عائد على ما بعده وهو { أن يقولوا } . و { أن يقولوا } بدل من الضمير . ومثل ذلك مستعمل في الكلام كقوله تعالى : { وأسروا النّجْوَى الّذينَ ظَلَموا } [ الأنبياء : 3 ] ، فيكون تحذيراً من أن يضيق صدره لاقتراحهم الآيات بأن يقولوا : { لولا أنزل عليه كنزٌ أو جاء معه ملكٌ } ، ويحصل مع ذلك التحذير من أن يضيق صدره من قولهم : { إن هذا إلاّ سِحْرٌ مبِين } [ هود : 7 ] ، ومن قولهم : ما يَحْبس العذاب عنا ، بواسطة كون { ضائق } داخلاً في تفريع التحذير على قولَيْهم السّابقَيْن . وإنما جيء بالضمير ثم أبدل منه لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليكون أشد تمكّناً في الذهن ، ولقصد تقديم المجرور المتعلق باسم الفاعل على فاعله تنبيهاً على الاهتمام بالمتعلّق لأنّه سبب صدور الفعل عن فاعله فجيء بالضمير المفسر فيما بعدُ لما في لفظ التفسير من الطول ، فيحصل بذكره بُعد بين اسم الفاعل ومرفوعه ، فلذلك اختصر في ضمير يعود عليه ، فحصَل الاهتمام وقُوّيَ الاهتمام بما يدل على تمكنه في الذهن .
ومعظم المفسرين جعلوا ضمير { به } عائداً إلى { بعض ما يوحى إليك } . على أن ما يوحى إليه سبب لضيق صدره ، أي لا يضيق له صدرك ، وجعلوا { أن يقولوا } مجروراً بلام التعليل مقدرة . وعليه فالمضارع في قوله : { أن يقولوا } بمعنى المضي لأنهم قالوا ذلك . واللام متعلقة ب { ضائق } وليس المعنى عليه بالمتين .
و { لولا } : للتحضيض ، والكنز : المال المكنوز أي المخبوء .
وإنزاله : إتيانه من مكان عَال أي من السماء .
وهذا القول صدر من المشركين قبل نزول هذه الآية فلذلك فالفعل المضارع مراد به تجدد هذا القول وتكرره منهم بقرينة العلم بأنه صدر منهم في الماضي ، وبقرينة التحذير من أن يكون ذلك سبباً في ضيق صدره لأن التحذير إنما يتعلق بالمستقبل .
ومرادهم ب { جاء معه ملك } أن يجيء ملك من الملائكة شاهداً برسالته ، وهذا من جهلهم بحقائق الأمور وتوهمهم أنّ الله يعبأ بإعراضهم ويتنازل لإجابة مقترح عنادهم ، ومن قصورهم عن فهم المعجزات الإلهية ومَدى التأييد الربّاني .
وجملة { إنّمَا أنْتَ نَذيرٌ } في موقع العلّة للتحذير من تركه بعض ما يوحى إليه وضيق صدره من مقالتهم . فكأنه قيل لا تترك إبلاغهم بعض ما يوحى إليك ولا يضق صدرك من مقالهم لأنك نذيرٌ لاَ وَكيل على تحصيل إيمانهم ، حتى يترتب على يأسك من إيمانهم تركُ دعوتهم .
والقصر المستفاد من { إنما } قصر إضافي ، أي أنت نذير لا موكّل بإيقاع الإيمان في قلوبهم إذ ليس ذلك إليك بل هو لله ، كما دلّ عليه قوله قبله { فَلَعَلّك تَاركٌ بعضَ مَا يوحَى إلَيْكَ وَضَائِقٌ بِه صَدْرُكَ } فهو قصر قلب . وفيه تعريض بالمشركين برد اعتقادهم أنّ الرسول يأتي بما يُسأل عنه من الخوارق فإذا لم يأتهم به جعلوا ذلك سنداً لتكذيبهم إيّاه رداً حاصلاً من مستتبعات الخطاب ، كما تقدم عند قوله تعالى : { فَلَعَلّكَ تَاركٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إلَيْكَ } إذ كثر في القرآن ذكر نحو هذه الجملة في مقام الردّ على المشركين والكافرين الذين سألوا الإتيان بمعجزات على وفق هواهم .
وجملة { وَاللّه عَلَى كُلّ شَيْء وَكِيل } تذييل لقوله : { فَلَعَلّكَ تَاركٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إلَيْكَ } إلى هنا ، وهي معطوفة على جملة { إنما أنت نذير } لما اقتضاه القصر من إبطال أن يكون وكيلاً على إلجائهم للإيمان . ومما شمله عموم { كل شيء } أن الله وكيل على قلوب المكذبين وهم المقصود ، وإنما جاء الكلام بصيغة العموم ليكون تذييلاً وإتياناً للغرض بما هو كالدّليل ، ولينتقل من ذلك العموم إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله مطلع على مكر أولئك ، وأنه وكيل على جزائهم وأن الله عالم ببذل النبي جهده في التبليغ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك}، وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم في يونس: {ائت بقرآن غير هذا} ليس فيه ترك عبادة آلهتنا ولا عيبها، {أو بدله} [يونس:15] أنت من تلقاء نفسك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يسمعهم عيبها رجاء أن يتبعوه، فأنزل الله تعالى: {فلعك تارك بعض ما يوحى إليك}، يعني ترك ما أنزل إليك من أمر الآلهة، {وضائق به صدرك} في البلاغ، أراد أن يحرضه على البلاغ، {أن يقولوا لولا} يعني هلا، {أنزل عليه كنز} يعني المال من السماء فيقسمه بيننا، {أو جاء معه ملك} يعينه ويصدقه بقوله، إن كان محمد صادقا في أنه رسول، ثم رجع إلى أول هذه الآية، فقال: بلغ يا محمد، {إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} يعني شهيد بأنك رسول الله تعالى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلعلك يا محمد تارك بعض ما يوحي إليك ربك أن تبلغه من أمرك بتبليغه ذلك، وضائق بما يوحي إليك صدرك فلا تبلغه إياهم مخافة "أنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ "له مصدّق بأنه لله رسول. يقول تعالى ذكره: فبلغهم ما أوحيته إليك، فإنك "إنّمَا أنْتَ نَذِيرٌ" تنذرهم عقابي وتحذّرهم بأسي على كفرهم بي، وإنما الآيات التي يسألونكها عندي وفي سلطاني أنزلها إذا شئت، وليس عليك إلا البلاغ والإنذار. "وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" يقول: والله القيم بكلّ شيء وبيده تدبيره، فانفذ لما أمرتك به، ولا يمنعك مسألتهم إياك الآيات من تبليغهم وحيي والنفوذ لأمري.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) حرفُ "لَعَلَّ "يَحتمل وجهين:
[أحدهما: يَحتمل النهيَ؛ أي لا تَتْرُكْ بعضَ ما يوحَى إليك، وإن كان معلوما أنه لا يَتْرُكُ كقوله: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام: 14]، وقولِه: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [البقرة: 147] وأمثالِهما، نَهاهُ وإنْ كان معلوما أن رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَفعل ذلك، وإنما احتمَل النهي كما يقول الرَّجلُ لآخَرَ: لعلك تريدُ أن تفعلَ كذا، فيكون نَهَاهُ عن ذلك.
والثاني: يقال عند القُرْب من الفعل والدُّنُوِّ منه كقوله: (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء: 74] يقال: حرف كاد عند المَيْل إليه والقُرْبِ منه في إيمانهم ذلك في ما يَحِلُّ له التَّرْكُ، وذلك ما قيل من نحو سَبِّ آلهتِهم وذِكرِ العَيْبِ فيها، ويَحِلُّ له تركُ سبِّ آلهتِهم وشتمِها...
(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ) في الآية وجهٌ آخَرُ، وهو نهيٌ يخرج مخرج البِشارةِ ممّا كان يخاف من ضِيق صدرِه واشتغالِ قلبِه عند سوء معاملتِهم إياه... فأَمنَه الله من ذلك، وعَصَمَه.
والوجه الثاني: في النهي عن ذلك هو ما يقع له فيه الرجاء، وذلك أن الأخيار إذا ابتلوا بالأشرار قد يؤذن لهم بمفارقتهم وترك الأمر فيهم، فلعله كان يقع له في مثله الرجاء أنه قد يؤذن له، في حال من الأحوال بتأخير التبليغ، فأيئسه عن ذلك وكلفه بتبليغ ما أمر له في جميع أحواله.
و (بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) يحتمل ما ذكر أهل التأويل من سب آلهتهم وعيبها وما تدعو إليه...
(وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) يَضِيقُ صدرُه بما يقولون له استهزاءً. وكذلك الحقُّ أن كل من استهزأ به يُضَيِّقُ صدرَه، أي: يَضِيق صدرُه لما لا يَقدِر على إتيان ما طَلبوا منه من المُلْك وإنزالِ المَلَكِ وقد وَعدوا أن يؤمنوا إنْ فَعَلَ، والله أعلم...
(لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) لأنّ للكنز والمَلَكِ مَحَلّاً في قلوب أولئك وقَدْراً. فقالوا: (لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ) [فيُعَظِّموه، ويُصَدِّقوا ما يوحَى إليه... وكذلك المَلَكُ له مَحَلٌّ عظيمٌ عندهم؛ إذا كان معه عظَّموه، وصدَّقوه...
(إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ) على إِثْرِ قولِهم: (لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) أي (إنّما أنتَ نَذِيرٌ) ليس عليك إتيانُ ما سَألوا، إنما ذلك تَحَكُّمٌ منهم على الله وأَمانِيُّ، فعليكَ إبلاغَ ما أُنزِل إليك كقوله: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) [الشورى: 48]
(واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي حَفِيظٌ لكلِّ ما يقولون فيكَ، ويَتفَوَّهُون به، أو هو الوكيل أو الحفيظُ لا أنتَ كقوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية: 22] وقولِه: (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الأنعام: 107] ونحوِه، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا خطابٌ من الله تعالى لنبيِّه (صلى الله عليه وآله) يَحثُّه على أداء جميعِ ما بَعثه به وأَوْحَى إليه... ويقول له لا يكون لِعِظَمِ ما يَرِدُ على قلبك ويَضِيقُ به صدرُك من غيظهم يوهِمون عليك أنهم يُزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربِّك، وأنك تترك بعضَ الوحي ويَضيقُ به صدرُك مخافةَ أن يقولوا أو لئلا يقولوا "لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ"...
"وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ "أي حافظٌ يَكتُب عليهم أفعالَهم وأقوالَهم، ومُجازيهم عليها، فلا تَغُمُّكَ أقوالُهم ولا أفعالُهم ولا يَضِيقُ بذلك صدرُك فإنّ وَبَالَ ذلك عائدٌ عليهم. وضائقٌ وضَيِّقٌ واحدٌ إلا أن (ضائقٌ) ههنا أحسَنُ لِمشاكَلَته لقوله: تاركٌ، والضِّيقُ قُصورُ الشيءِ عن مقدار غيرِه أنْ يكون فيه، فإذا ضاق صدرُ الإنسان قَصُرَ عن معانٍ يَتحمَّلُها الواسعُ الصّدرِ. والصَّدْر مَسْكَنُ القلبِ... والكَنْزُ: المال المدفونُ لعاقبته...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}: أي أنتَ بِالإرسال منصوبٌ، وأحكامُ التقديرِ عليكَ مُجْرَاةٌ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاداً، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم. ومن اقتراحاتهم {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات، فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فحرّك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردّهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردّهم له وتهاونهم به {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} بأن تتلوه عليهم {أَن يَقُولُواْ}: مخافة أن يقولوا: {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه، ثم قال: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا {والله على كُلّ شيء وَكِيلٌ} يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه، وكِل أمرك إليه، وعليك بتبليغ الوحي بقلب فسيح وصدر منشرح، غير ملتفت إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم.
فإن قلت: لم عدل عن ضيق إلى ضائق؟ قلت: ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وليس المعنى أنه صلى الله عليه وسلم هم بشيء من ذلك فزجر عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان...
و {لعلك} ها هنا بمعنى التوقيف والتقرير، و {ما يوحى إليك} هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله تعالى كأن في ذلك سب آلهتهم وتسفيه آبائهم أو غيره؛ ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة فمال إلى أن يكون من الله تعالى إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم، كما جاءت آيات الموادعة...
و «الكنز» ها هنا: المال وهذا طلبهم آية تضطر إلى الإيمان: والله تعالى لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار وإنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمم التي قدر تعذيبها لكفرها بعد آية النظر والاستدلال، كالناقة لثمود. ثم أنسه تعالى بقوله: {إنما أنت نذير}، أي هذا القدر هو الذي فوض إليك، والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء وكفر من شاء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما استثنى سبحانه من الجارين مع الطبع الطائشين في الهوى من تحلى برزانة الصبر الناشئ عن وقار العلم المثمر لصالح العمل، وكان صلى الله عليه وسلم رأس الصابرين، وكان ما مضى من أقوالهم وأفعالهم مثل قولهم {ما يحبسه} وتثنيهم صدورهم أسباباً لضيق صدره صلى الله عليه وسلم، فربما كانت مظنة لرجائهم تركه صلى الله عليه وسلم بعض ما يوحى إليه من عيب آلهتهم وتضليل آبائهم وتسفيه أحلامهم، وغير ذلك مما يشق عليهم طمعاً في إقبالهم أو خوفاً من إدبارهم... قال تعالى مسبباً عن ذلك ناهياً في صيغة الخبر}: فلعلك تارك {أي إشفاقاً أو طمعاً {بعض ما} ولما كان الموحى قد صار معلوماً لهم وإن نازعوا فيه بنى للمفعول قوله: {يوحى إليك} كالإنذار وتسفيه أحلام آبائهم {وضآئق به} أي بذلك البعض {صدرك} مخافة ردهم له إذا بلغته لهم؛ ثم علل ذلك بقوله: {أن} أي مخافة أو لأجل أن {يقولوا} تعنتاً ومغالبة إذ لو كانوا مسترشدين لكفتهم آية واحدة {لولا} أي هلا ولم لا {أنزل عليه كنز} يستغني به ويتفرغ لما يريد، وبنوه للمفعول لأن المقصود مطلق حصوله وكانوا يتهاونون بالقرآن لعلمهم أنه الآية العظمى فكانوا لا يعدونه آية عناداً ومكابرة {أو جاء معه ملك} أي ليؤيد كلامه وليشهد له، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بمثل أقوالهم هذه ويثقل عليه أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه فحركه الله بهذا لأداء الرسالة كائناً فيها ما كان، فكان المعنى: فإذا تقرر أن الإنسان مطبوع على نحو هذا من التقلبات، فلا تكن موضع رجائهم في أن تكون تاركاً ما يغيظهم مما نأمرك به، بل كن من الصابرين...
ولما أفهم هذا السياق الإنكار لما يفتر عن الإنذار، كان كأنه قيل له: هذا الرجاء المرجو منكر، والمقصود الأعظم من الرسالة النذارة لأنها هي الشاقة على النفوس، وأما البشارة فكل من قام يقدر على إبلاغها فلذا قال: {إنما أنت نذير} فبلغهم ما أرسلت به فيقولون لك ما يقدره الله لهم فلا يهمنك فليس عليك إلا البلاغ وما أنت عليهم بوكيل تتوصل إلى ردهم إلى الطاعة بالقهر والغلبة بل الوكيل الله الفاعل لما يشاء {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة.
ولما كان السياق لإحاطته سبحانه، قدم قوله: {على كل شيء} منهم ومن غيرهم ومن قبولهم وردهم ومن حفظك منهم ومن غيره {وكيل} فهو يدبر الأمور على ما يعلمه من الحكم، فإن شاء جاء بما سألوا وإن لم يشأ لم يأت به ولا اعتراض عليه فتوكل عليه في كل أمر وإن صعب، ولعله اقتصر على النذارة لأن المقام يقتضيها من أجل أنهم أهل لها وأنها هي التي يطمعون في تركها بإطماعهم في المؤالفة بالإعراض عما يوجب المخالفة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك} المتبادر إلى الفهم من جملة لعل بحسب موقعها هنا الاستفهام الإنكاري المراد به النهي أو النفي، أي افتارك أنت أيها الرسول بعض ما يوحى إليك مما يشق سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك والإنذار والوعيد الشديد لهم والنعي عليهم وضائق به صدرك أن تبلغهم إياه كله كما أنزل كراهة {أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز} أي هلا أعطاه ربه كنزا من لدنه يغنيه في نفقته ويمتاز به على غيره، فالكنز ما يدخر من المال في الأرض، عبروا به عما ينال بغير كسب، وبإنزاله عليه على كونه من عند الله يخصه به.
{أو جاء معه ملك} يؤيده في دعوته، وهم قد قالوا ذلك كما جاء في سورة الفرقان {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقي إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها} [الفرقان:7، 8]؟ أي إن ضيق الصدر وكتمان بعض الوحي مما يخطر بالبال، وشأنه أن تقتضيه الحال، بحسب المعهود من طباع الناس، فهل أنت مجترح لهذا الترك، أو مستسلم لما يعرض لك بمقتضى البشرية من ضيق الصدر؟ كلا لا تفعله، فهو كقوله: {ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} [النحل: 127] وقوله: {المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين} [الأعراف: 1،2] وقوله: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} [الكهف: 6]
وقوله: {طسم تلك آيات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} [الشعراء: 1-4] أي لعلك قاتلها غما وانتحارا؟ أي لا تفعل، وحاصله أن عنادهم وجحودهم وإعراضهم عن الإيمان وشدة اهتمامك بأمرهم فيما ليس أمره بيدك مما شأنه أن يفضي إلى ذلك لولا عصمتنا إياك وتثبيتنا لك، فهل تصر عليه حتى تبخع نفسك؟ لا لا. ويوضح هذا المعنى في كون الإرشاد مبنيا على بيان الواقع في تلك الوقائع قوله تعالى: {ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا} [الإسراء: 74].
{إنما أنت نذير} فعليك أن تبلغ جميع ما أمرت أن تبلغه وتنذر به في وقته وإن ساءهم وأطلق ألسنتهم {والله على كل شيء وكيل} أي هو الموكل بأمور العباد والرقيب عليهم فيها وليس عليك منها شيء، لأنها من أمور الخلق والتدبير، لا من موضوع التعليم والتبليغ، الذي هو وظيفة الرسل كما قال في آيات أخرى {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} [البقرة: 272] {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر} [الغاشية: 21، 22] {نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} [ق: 45].
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} فإن هذا القول ناشئ من تعنت، وظلم، وعناد، وضلال، وجهل بمواقع الحجج والأدلة، فامض على أمرك، ولا تصدك هذه الأقوال الركيكة التي لا تصدر إلا من سفيه ولا يضق لذلك صدرك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه الآية تشي بجو تلك الفترة الحرجة في تاريخ الدعوة؛ وما كان يعتور صدر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من الضيق. كما تشي بثقل المواجهة للجاهلية المتمردة المعاندة، في الوقت الذي هلك فيه العشير والنصير؛ وغمرت الوحشة قلب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وغشى الكرب على قلوب المؤمنين القلائل في هذه الجاهلية المحيطة. ومن بين كلمات الآية نحس جوا مكروبا تتنزل فيه هذه الكلمات الربانية بالبشاشة، وتسكب فيه الطمأنينة، وتريح الأعصاب والقلوب!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفريعٌ على قولِه {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} إلَى قوله {يَسْتَهْزِئُونَ} [هود: 7، 8] مِن ذِكر تكذيبهم وعِنادِهم. يشير هذا التّفريعُ إلى أنّ مضمون الكلام المفرَّعِ عليه سببٌ لتوجيه هذا التوقُّعِ لأنّ مِن شأن المفرَّع عليه اليأسَ من ارْعِوائهم لِتَكرُّر التكذيبِ والاستهزاءِ يأساً قد يَبْعَثُ على ترْك دعائهم، فذلك كلُّه أُفِيدَ بفاء التّفريع...
والمعنى تحذيرُه من التأثّر بعنادهم وتكذيبِهم واستهزائهم، ويَستتبِع ذلك تأييسَ المشركين من ترْكه ذِكْرَ البعثِ والإنذارِ بالعذاب، فالخِطابُ مستعملٌ في حقيقته ومراد منه مع ذلك عِلْمُ السامعين بمضمونه...
{ضائقٌ}... والضِّيق مستعملٌ مجازاً في الغَمّ والأسَفِ، كما استُعمِل ضدُّه وهو الاِنشراح في الفرح والمَسَرَّة...
والباء في {بِه} للسببية... {أَنْ يَقُولُوا}... وهذا القولُ صَدَرَ من المشركين قبل نزولِ هذه الآيةِ فلذلك فالفعل المضارع مُرادٌ به تَجَدُّدُ هذا القولِ وتكرُّرُه منهم بقرينة العِلم بأنه صَدَرَ منهم في الماضي، وبقرينة التحذير من أن يكون ذلك سبباً في ضِيق صدره لأن التحذير إنما يتعلَّق بالمستقبل...
ومِمّا شمِلَه عمومُ {كُلِّ شَيْءٍ} أن الله وكيلٌ على قلوب المكذِّبين وهم المقصود، وإنما جاء الكلامُ بصيغة العموم ليكون تذييلاً وإتياناً للغرض بما هو كالدّليل، وليَنتقل من ذلك العموم إلى تسْليَة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنّ الله مطَّلِعٌ على مكرِ أولئك، وأنه وكيلٌ على جزائهم وأن الله عالمٌ ببذْل النبيِّ جُهْدَه في التبليغ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
النبيّ لا يَحمِل مهمّةَ تغيير الكون في ظواهره، بل يتحمَّل مسؤولية تغييرِه في مناهجه وطريقةِ التفكير، والعملِ في خطواته الفكرية والعملية، من خلال التبليغ والتبشير والإنذار... ويبقى لله أمرُه، في ما يَقضي وفي ما يَفعل، لأنه المسيطر على ذلك كله...
يُمكن أن تكونَ الآية عاملاً وِقائيّاً يريد اللهُ به حمايةَ النبي [صلى الله عليه وسلم] من الوقوع في مثل هذه التجربة، أو الخضوعِ لهذا الانفعال، أو تكونَ عمليةً إيحائيةً للعاملين من خلال النبي ألاّ يستسلموا لهذه الحالة، لو واجَهوا مِثلَها، انطلاقاً من فهمهم لطبيعة الدور الذي أَوْكَلَه اللهُ إليهم من الدعوة إلى سبيله بالوسائل الواقعية المألوفة، مما يجعلُهم لا يعيشون الضعفَ في مواجهة هذه التحديات، لأنهم لا يعتبرونها تحدّياً لدورهم أو لقدرتهم الطبيعيّة، بل كلُّ ما هنالك، أنها التحدي لِما يَتوهَّمه أولئك من دورٍ، دون ارتكازٍ إلى علمٍ أو إيمانٍ...