قوله : " فَلَعَلَّكَ " الأحسنُ أن تكون على بابها من التَّرجِّي بالنسبة إلى المخاطب .
وقيل : هي للاستفهام كقوله - صلوات الله وسلامه عليه - " لعلَّنا أعْجلنَاكَ " .
فإن قيل : " فَلعَلَّك " كلمة شك فما فائدتها ؟ .
فالجوابُ : أنَّ المراد منها الزَّجرُ ، والعرب تقول للرجلُ إذا أرادوا إبعاده عن أمر : لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنَّهُ لا شك فيه ، ويقول لولده : لعلك تقصر فيما أمرتك ، ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك .
وقوله : " وضَائِقٌ " نسقٌ على " تَاركٌ " ، وعدل عن " ضيِّق " وإن كان أكثر من " ضائق " .
قال الزمخشريُّ : ليدُلَّ على أنَّهُ ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابتٍ ، ومثله سيدِّ وجواد - تريد السِّيادة والجود الثَّابتين المستقرين - فإذا أردت الحدوث قلت : سائِدٌ وجائدٌ .
قال أبُو حيَّان{[18695]} : وليس هذا الحكمُ مختصّا بهذه الألفاظ ؛ بل كلُّ ما بني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول : حَاسِن وثَاقِل وسامِن في : " حَسُن وثقُلَ وسمُن " ؛ وأنشد قول الشاعر : [ الطويل ]
بمَنْزِلَةٍ أمَّا اللَّئِيمُ فسَامِنٌ *** بهَا وكرامُ النَّاسِ بادٍ شُحُوبُهَا{[18696]}
وقيل : إنَّما عدل عن " ضيِّق " إلى " ضَائِقٌ " ليناسب وزن " تَارِكٌ " .
والهاءُ في " به " تعود على " بعض " . وقيل : على " ما " . وقيل : على التَّكذيب و " صَدْرُكَ " مبتدأ مؤخَّرٌ ، والجملةُ خبرٌ عن الكاف في " لعَلَّكَ " ؛ فيكون قد أخبر بخبرين :
أحدهما : مفرد ، والثاني : جملة عطفت على مفردٍ ، إذ هي بمعناه ، فهو نظير : " إنَّ زيداً قائمٌ ، وأبوه منطلقٌ " .
قوله : " أن يقُولُوا " في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في " أنَّ " بعد حذف حرف الجرِّ أو المضاف ، تقديره : كراهة أو مخافة أن يقولوا ، أو لئلاَّ يقولوا ، أو بأن يقولوا .
وقال أبو البقاء{[18697]} : لأن يقُولُوا أي : لأن قالوا ، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه ، وكيف يُدَّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٌّ في الاستقبال وهو الناصب ؟ .
و " لَوْلاَ " تحضيضيةٌ ، وجملة التَّحضيض منصوبةٌ بالقول .
المعنى : فلعلَّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ، فلا تبلغة إيَّاهم ، وذلك أن كفار مكة قالوا : ائتِ بقرآن غير هذا ، ليس فيه سب آلهتنا ، فهمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم - أن يدع آلهتهم ظاهراً ؛ فأنزل الله تعالى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } يعنى سب الآلهة : { وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } أي : ولعلَّ يضيق صدرك { أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ } يصدِّقه ، قاله عبد الله بنُ أميَّة المخزُومي .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ رؤساء مكَّة قالوا : يا محمد : اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً ، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك ، فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية{[18698]} .
وأجمع المسلمون على أنَّهث لا يجوزُ على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يخُون في الوَحْي والتبليغ ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه ؛ لأنَّ تجويزه يُؤدِّي إلى الشَّك في كل الشرائع وذلك يقدحُ في النبوةِ ، وأيضاً فالمقصودُ من الرِّسالة تبليغ التكاليف ، والأحكام ، فإنه لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها .
وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المرادُ من قوله : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } شيئاً آخر سوى أنه فعل ذلك . وذكروا فيها وجوهاً أخر ، قيل : إنَّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به ، فكان يضيق صدر الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فأهله الله لأداء الرِّسالة ، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة ، وترك الالتفات إلى استهزائهم ، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدَّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم ، وإن لم يُؤد ذلك وقع في ترك وحي الله - تعالى - وفي إيقاع الخيانةِ ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضَّررين ؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وَحْي الله ، والغرض من ذكر هذا الكلام : التنبيهُ على هذه الدقيقة ؛ لأنَّ الإنسان إذا علم أنَّ كلَّ واحدٍ من طرفي الفعل والترك مشتملٌ على ضررٍ عظيم ، على أنَّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف .
فالجواب : أنَّ المراد ما يكنز ، وجرت العادة على أنَّ المال الكثير يسمَّى كنزاً ، فقال القومُ : إن كنت صادقاً في أنَّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلِّ شيء وأنك عزيزٌ عنده فهلاَّ أنزل عليك ما تستغني به في مهماتك وتعين أنصارك ، وإن كنت صادقاً فهلاَّ أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك ، ويعينك على تحصيل مقصودك وتزول الشبهة في أمرك ، فلمَّا لم يفعل لك ذلك فأنت غير صادقٍ ، فبيَّن الله تعالى أنَّهُ رسول ينذر بالعقاب ويبشر بالثَّواب وليس له قدرة على إيجاد هذه المطلوبات ، والذي أرسله هو القادرُ على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، ولا اعتراض لأحدٍ عليه .
ومعنى " وكيلٌ " : حفيظ أي : يحفظُ عليهم أعمالهم ، حتى يجازيهم بها ، ونظير هذه الآية ، قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.