اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَعَلَّكَ تَارِكُۢ بَعۡضَ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ وَضَآئِقُۢ بِهِۦ صَدۡرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ كَنزٌ أَوۡ جَآءَ مَعَهُۥ مَلَكٌۚ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٞۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٌ} (12)

قوله : " فَلَعَلَّكَ " الأحسنُ أن تكون على بابها من التَّرجِّي بالنسبة إلى المخاطب .

وقيل : هي للاستفهام كقوله - صلوات الله وسلامه عليه - " لعلَّنا أعْجلنَاكَ " .

فإن قيل : " فَلعَلَّك " كلمة شك فما فائدتها ؟ .

فالجوابُ : أنَّ المراد منها الزَّجرُ ، والعرب تقول للرجلُ إذا أرادوا إبعاده عن أمر : لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنَّهُ لا شك فيه ، ويقول لولده : لعلك تقصر فيما أمرتك ، ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك .

وقوله : " وضَائِقٌ " نسقٌ على " تَاركٌ " ، وعدل عن " ضيِّق " وإن كان أكثر من " ضائق " .

قال الزمخشريُّ : ليدُلَّ على أنَّهُ ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابتٍ ، ومثله سيدِّ وجواد - تريد السِّيادة والجود الثَّابتين المستقرين - فإذا أردت الحدوث قلت : سائِدٌ وجائدٌ .

قال أبُو حيَّان{[18695]} : وليس هذا الحكمُ مختصّا بهذه الألفاظ ؛ بل كلُّ ما بني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول : حَاسِن وثَاقِل وسامِن في : " حَسُن وثقُلَ وسمُن " ؛ وأنشد قول الشاعر : [ الطويل ]

بمَنْزِلَةٍ أمَّا اللَّئِيمُ فسَامِنٌ *** بهَا وكرامُ النَّاسِ بادٍ شُحُوبُهَا{[18696]}

وقيل : إنَّما عدل عن " ضيِّق " إلى " ضَائِقٌ " ليناسب وزن " تَارِكٌ " .

والهاءُ في " به " تعود على " بعض " . وقيل : على " ما " . وقيل : على التَّكذيب و " صَدْرُكَ " مبتدأ مؤخَّرٌ ، والجملةُ خبرٌ عن الكاف في " لعَلَّكَ " ؛ فيكون قد أخبر بخبرين :

أحدهما : مفرد ، والثاني : جملة عطفت على مفردٍ ، إذ هي بمعناه ، فهو نظير : " إنَّ زيداً قائمٌ ، وأبوه منطلقٌ " .

قوله : " أن يقُولُوا " في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في " أنَّ " بعد حذف حرف الجرِّ أو المضاف ، تقديره : كراهة أو مخافة أن يقولوا ، أو لئلاَّ يقولوا ، أو بأن يقولوا .

وقال أبو البقاء{[18697]} : لأن يقُولُوا أي : لأن قالوا ، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه ، وكيف يُدَّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٌّ في الاستقبال وهو الناصب ؟ .

و " لَوْلاَ " تحضيضيةٌ ، وجملة التَّحضيض منصوبةٌ بالقول .

فصل

المعنى : فلعلَّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ، فلا تبلغة إيَّاهم ، وذلك أن كفار مكة قالوا : ائتِ بقرآن غير هذا ، ليس فيه سب آلهتنا ، فهمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم - أن يدع آلهتهم ظاهراً ؛ فأنزل الله تعالى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } يعنى سب الآلهة : { وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } أي : ولعلَّ يضيق صدرك { أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ } يصدِّقه ، قاله عبد الله بنُ أميَّة المخزُومي .

وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ رؤساء مكَّة قالوا : يا محمد : اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً ، وقال آخرون : ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك ، فقال : لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية{[18698]} .

وأجمع المسلمون على أنَّهث لا يجوزُ على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يخُون في الوَحْي والتبليغ ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه ؛ لأنَّ تجويزه يُؤدِّي إلى الشَّك في كل الشرائع وذلك يقدحُ في النبوةِ ، وأيضاً فالمقصودُ من الرِّسالة تبليغ التكاليف ، والأحكام ، فإنه لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها .

وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المرادُ من قوله : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } شيئاً آخر سوى أنه فعل ذلك . وذكروا فيها وجوهاً أخر ، قيل : إنَّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به ، فكان يضيق صدر الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه ، فأهله الله لأداء الرِّسالة ، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة ، وترك الالتفات إلى استهزائهم ، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدَّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم ، وإن لم يُؤد ذلك وقع في ترك وحي الله - تعالى - وفي إيقاع الخيانةِ ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضَّررين ؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وَحْي الله ، والغرض من ذكر هذا الكلام : التنبيهُ على هذه الدقيقة ؛ لأنَّ الإنسان إذا علم أنَّ كلَّ واحدٍ من طرفي الفعل والترك مشتملٌ على ضررٍ عظيم ، على أنَّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف .

فإن قيل : الكنز كيف ينزل ؟

فالجواب : أنَّ المراد ما يكنز ، وجرت العادة على أنَّ المال الكثير يسمَّى كنزاً ، فقال القومُ : إن كنت صادقاً في أنَّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلِّ شيء وأنك عزيزٌ عنده فهلاَّ أنزل عليك ما تستغني به في مهماتك وتعين أنصارك ، وإن كنت صادقاً فهلاَّ أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك ، ويعينك على تحصيل مقصودك وتزول الشبهة في أمرك ، فلمَّا لم يفعل لك ذلك فأنت غير صادقٍ ، فبيَّن الله تعالى أنَّهُ رسول ينذر بالعقاب ويبشر بالثَّواب وليس له قدرة على إيجاد هذه المطلوبات ، والذي أرسله هو القادرُ على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ، ولا اعتراض لأحدٍ عليه .

ومعنى " وكيلٌ " : حفيظ أي : يحفظُ عليهم أعمالهم ، حتى يجازيهم بها ، ونظير هذه الآية ، قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ] .


[18695]:ينظر: الدر المصون 4/83.
[18696]:البيت للسمهري. ينظر: البحر المحيط 5/208. وروح المعاني 12/19 والكشاف 2/382 والدر المصون 4/83.
[18697]:ينظر: الإملاء لأبي البقاء 2/35.
[18698]:ذكره الرازي في تفسيره (17/154).