75- هذا سلوك أهل الكتاب في الاعتقاد ، أما سلوكهم في المال فمنهم من إن استأمنته على قنطار من الذهب أو الفضة أدَّاه إليك لا ينقص منه شيئاً ، ومنهم من إن استأمنته على دينار واحد لا يؤديه إليك إلا إذا لازمته وأحرجته ، وذلك لأن هذا الفريق يزعم بأن غيرهم أميون ، وأنهم لا ترعى لهم حقوق ، ويدعون أن ذلك حكم الله ، وهم يعلمون أن ذلك كذب عليه سبحانه وتعالى .
{ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأَمْنَهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمَا } .
ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم قسمان في الأمانة ، ومقصد الآية ذم الخونة منهم ، والتفنيد لرأيهم وكذبهم على الله ، في استحلالهم أموال العرب ، وفي قراءة أبي بن كعب «تيمنه »{[3257]} بتاء وياء في الحرفين وكذلك -تيمنا- في يوسف ، قال أبو عمرو الداني : وهي لغة تميم .
قال القاضي : وما أراها إلا لغة قرشية ، وهي كسر نون الجماعة كنستعين ، وألف المتكلم كقول ابن عمر ، لا إخاله ، وتاء المخاطب كهذه الآية ولا يكسرون الياء في الغائب وبها قرأ أبي بن كعب في «تيمنا » وابن مسعود والأشهب العقيلي وابن وثاب ، وقد تقدم القول في «القنطار » في صدر السورة وقرأ جمهور الناس ، «يؤدهِ إليك » بكسر الهاء التي هي ضمير القنطار ، وكذلك في الأخرى التي هي ضمير «الدينار » ، واتفق أبو عمرو وحمزة وعاصم والأعمش على إسكان الهاء ، وكذلك كل ما أشبهه في القرآن ، نحو { نصله جهنم }{[3258]} و{ نؤته } { نوله } إلا حرفاً حكي عن أبي عمرو أنه كسره ، وهو قوله تعالى : { فألقه إليهم }{[3259]} قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل ، وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة فغلط عليه ، كما غلط عليه في بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه ، وهو ضابط لمثل هذا : أنه يكسر كسراً خفيفاً ، و«القنطار » في هذه الآية : مثال للمال الكثير يدخل فيه أكثر من القنطار وأقل ، وأما «الدينار » فيحتمل أن يكون كذلك ، مثالاً لما قل ، ويحتمل أن يريد طبقة لا تخون إلا في دينار فما زاد ، ولم يعن لذكر الخائنين في أقل إذ هم طغام حثالة ، وقرأ جمهور الناس «دُمت » بضم الدال ، وقرأ ابن وثاب والأعمش وأبو عبد الرحمن السلمي وابن أبي ليلى والفياض بن غزوان{[3260]} وغيرهم : «دِمت ودِمتم » ، بكسر الدال في جميع القرآن ، قال أبو إسحاق : من قوله : «دمت » ، تدام ، نمت ، تنام ، وهي لغة ، ودام معناه ثبت على حال ما ، والتدويم على الشيء الاستدارة حول الشي ومنه قول ذي الرمة{[3261]} : [ البسيط ]
والشمس حَيرَىَ لهَا في الْجوَّ تَدْوِيمْ . . .
والدوام ، الدوار يأخذ في رأس الإنسان ، فيرى الأشياء تدور له ، وتدويم الطائر في السماء ، هو ثبوته إذا صفّ واستدار والماء الدائم وغيره هو الذي كأنه يستدير حول مركزه ، وقوله { قائماً } يحتمل معنيين قال الزجّاج وقتادة ومجاهد : معناه قائماً على اقتضاء دينك .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : يريدون بأنواع الاقتضاء من الحفز والمرافعة إلى الحكام ، فعلى هذا التأويل ، لا تراعى هيئة هذا الدائم بل اللفظة من قيام المرء على أشغاله ، أي اجتهاده فيها ، وقال السدي وغيره : { قائماً } في هذه الآية معناه : قائماً على رأسه ، على الهيئة المعروفة ، وتلك نهاية الحفز ، لأن معنى ذلك أنه في صدر شغل آخر ، يريد أن يستقبله ، وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء وانتزعوا من الآيات جواز السجن ، لأن الذي يقوم عليه غريمه فهو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء ، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن ، وهذه الآية وما بعدها نزلت فيما روي ، بسبب أن جماعة من العرب كانت لهم ديون في ذمم قوم من أهل الكتاب ، فلما أسلم أولئك العرب قالت لهم اليهود : نحن لا نؤدي إليكم شيئاً حين فارقتم دينكم الذي كنتم عليه ، فنزلت الآية في ذلك وروي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء الإسلام واسلم من أسلم من العرب بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت الآية حامية من ذلك ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر »{[3262]} .
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
الإشارة ب { ذلك } إلى كونهم لا يؤدون الأمانة في دينار فما فوقه ، على أحد التأويلين ، والضمير في ، { قالوا } ، يعني به لفيف بني إسرائيل ، لأنهم كانوا يقولون : نحن أهل الكتاب ، والعرب أميون أصحاب أوثان ، فأموالهم لنا حلال متى قدرنا على شيء منها لا حجة علينا في ذلك ولا سبيل لمعترض وناقد إلينا في ذلك ، و «الأميون » القوم الذين لا يكتبون لأنهم لا يحسنون الكتابة ، وقد مر في سورة البقرة اشتقاق اللفظ واستعارة السبيل ، هنا في الحجة هو على نحو قول حميد بن ثور{[3263]} :
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة . . . من السرح موجود عليَّ طريق
وقوله تعالى : { فأولئك ما عليهم من سبيل }{[3264]} هو من هذا المعنى ، وهو كثير في القرآن وكلام العرب ، وروي أن رجلاً قال لابن عباس : إنا نمر في الغزو بأموال أهل الذمة فنأخذ منها الشاة والدجاجة ونحوها قال : وتقولون ماذا ؟ قال نقول : ليس علينا بأس ، فقال ابن عباس : هذا كما قال أهل الكتاب : { ليس علينا في الأميين سبيل } ، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ، وقوله تعالى : { ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } ذم لبني إسرائيل بأنهم يكذبون على الله تعالى في غير ما شيء ، وهم علماء بمواضع الصدق لو قصدوها ، ومن أخطر ذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، هذا قول جماعة من المتأولين ، وروي عن السدي وابن جريج وغيرهما : أن طائفة من أهل الكتاب ادعت أن في التوراة إحلال الله لهم أموال الأميين كذباً منها وهي عالمة بكذبها في ذلك وقالا : والإشارة بهذه الآية إلى ذلك الكذب المخصوص في هذا الفصل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.