البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٞ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

الدينار : معروف وهو أربعة وعشرون قيراطاً ، والقيراط : ثلاث حبات من وسط الشعير ، فمجموعه : اثنتان وسبعون حبة ، وهو مجمع عليه .

وفاؤه بدل من نون ، يدل على ذلك الجمع ، قالوا : دنانير ، وأصله : دنار ، أبدل من أول المثلين ، كما أبدلوا من النون في ثالث الأمثال ياءً في : تظنيت .

أصله تظننت ، لأنه من الظن ، وهو بدل مسموع ، والدينار : لفظ أعجمي تصرّفت فيه العرب وألقته بمفردات كلامها .

دام : ثبت ، والمضارع : يدوم ، فوزنه ، فعل نحو قال : يقول ، قال الفراء : هذه لغة الحجاز وتميم ، تقول : دِمت ، بكسر الدال .

قال : ويجتمعون في المضارع ، يقولون : يدوم .

وقال أبو إسحاق يقول : دمت تدام ، مثل : نمت تنام ، وهي لغة ، فعلى هذا يكون وزن دام ، فعل بكسر العين ، نحو : خاف يخاف .

والتدويم الاستدارة حول الشيء .

ومنه قول ذي الرمة :

والشمس حيرى لها في الجوّ تدويم *** وقال علقمة في وصف خمر :

تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها *** ولا يخالطها في الرأس تدويم

والدوام : الدوار ، يأخذ في رأس الإنسان فيرى الأشياء تدور به .

وتدويم الطائر في السماء ثبوته إذا صف واستدار .

ومنه : الماء الدائم ، كأنه يستدير حول مركزه .

{ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده اليك ومنهم من إن تامنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً } الجمهور على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى أخبر الله تعالى بذم الخونة منهم ، فظاهره أن في اليهود والنصارى من يؤتمن فيفي ومن يؤتمن فيخون .

وقيل : أهل الكتاب عنى به أهل القرآن ، قاله ابن جريج .

وهذا ضعيف جداً لما يأتي بعده من قولهم : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } وقيل : المراد بأهل الكتاب : اليهود ، لأن هذا القول { ليس علينا في الأميين سبيل } لم يقله ولا يعتقده إلاَّ اليهود .

وقيل : { من إن تأمنه بقنطار } هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم .

و : { من إن تأمنه بدينار } هم اليهدو لغلبة الخيانة عليهم .

وعين منهم كعب بن الأشرف وأصحابه .

وقيل : { من إن تأمنه بقنطار } هم من أسلم من أهل الكتاب .

و : { من إن تأمنه بدينار } من لم يسلم منهم .

وروي أنه بايع بعض العرب بعض اليهود وأودعوهم فخانوا من أسلم ، وقالوا : قد خرجتم عن دينكم الذي عليه بايعناكم ، وفي كتابنا : لا حرمة لأموالكم ، فكذبهم الله تعالى .

قيل : وهذا سبب نزول هذه الآية .

وعن ابن عباس : { من إن تأمنه بقنطار يؤده } هو عبد الله بن سلام ، استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً ، فأدّاه إليه .

و : { من إن تأمنه بدينار } فنحاص بن عازوراء ، استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه . انتهى .

ولا ينحصر الشرط في ذينك المعينين ، بل كل منهما فرد ممن يندرج تحت : من .

ألا ترى كيف جمع في قوله : { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا } قالوا والمخاطب بقوله : تأمنه ، هو النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف ، ويحتمل أن يكون السامع من أهل الإسلام ، وبيّنه قولهم : { ليس علينا في الأمّيين سبيل } فجمع الأمّيين وهم اتباع النبي الأمي .

وقرأ أبي بن كعب : تئمنه ، في الحرفين ، و : تئمنا ، في يوسف .

وقرأ ابن مسعود ، والأشهب العقيلي ، وابن وثاب : تيمنه ، بتاء مكسورة وياء ساكنة بعدها ، قال الداني : وهي لغة تميم .

وأما إبدال الهمزة ياء في : تئمنه ، فلكسرة ما قبلها كما أبدلوا في بئر .

وقد ذكرنا الكلام على حروف المضارعة من : فعل ، ومن : ما أوله همزة وصل عند الكلام على قوله { نستعين } فأغنى عن إعادته .

وقال : ابن عطية ، حين ذكر قراءة أبي : وما أراها إلاَّ لغة : قرشية ، وهي كسر نون الجماعة : كنستعين ، وألف المتكلم ، كقول ابن عمر : لا إخاله ، وتاء الخاطب كهذه الآية ، ولا يكسرون الياء في الغائب ، وبها قرأ أبي في : تئمنه . انتهى .

ولم يبين ما يكسر فيه حروف المضارعة بقانون كلي ، وما ظنه من أنها لغة قرشية ليس كما ظنّ .

وقد بينا ذلك في { نستعين } وتقدّم تفسير : القنطار ، في قوله : { والقناطير المقنطرة }

وقرأ الجمهور : يؤده ، بكسر الهاء ووصلها بياء .

وقرأ قالون باختلاس الحركة ، وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر ، وحمزة ، والأعمش بالسكون .

قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيِّن ، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل .

وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة ، فغلط عليه كما غلط عليه في : بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه ، وهو ضابط لمثل هذا ، أنه كان يكسر كسراً خفيفاً .

انتهى كلام ابن إسحاق .

وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط ليس بشيء ، إذ هي قراءة في السبعة ، وهي متواترة ، وكفى أنها منقولة من إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء .

فإنه عربي صريح ، وسامع لغة ، وإمام في النحو ، ولم يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا .

وقد أجاز ذلك الفراء وهو إمام في النحو واللغة .

وحكى ذلك لغة لبعض العرب تجزم في الوصل والقطع .

وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب : أنهم يختلسون الحركة في هذه الهاء إذا كانت بعد متحرك ، وأنهم يسكنون أيضاً .

قال الكسائي : سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون : { لربه لكنود } بالجزم ، و : لربه لكنود ، بغير تمام وله مال وغير عقيل وكلاب لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في : له وشبهه إلاَّ في ضرورة نحو قوله .

له زجل كأنه صوت حاد *** وقال :

إلا لأن عيونه سيل واديها *** ونص بعض أصحابنا على أن حركة هذه الهاء بعد الفعل الذاهب منه حرف لوقف أو جزم يجوز فيها الإشباع ، ويجوز الاختلاس ، ويجوز السكون .

وأبو إسحاق الزجاج ، يقال عنه : إنه لم يكن إماماً في اللغة ، ولذلك أنكر على ثعلب في كتابه : ( الفصيح ) مواضع زعم أن العرب لا تقولها ، وردّ الناس على أبي إسحاق في إنكاره ، ونقلوها من لغة العرب .

وممن ردّ عليه : أبو منصور الجواليقي ، وكان ثعلب إماماً في اللغة وإماماً في النحو على مذهب الكوفيين ، ونقلوا أيضاً قراءتين : إحداهما ضم الهاء ووصلها بواو ، وهي قراءة الزهري ، والأخرى : ضمها دون وصل ، وبها قرأ سلام .

والباء في : بقنطار ، وفي : بدينار قيل : للإلصاق .

وقيل : بمعنى على ، إذا الأصل أن تتعدى بعلى ، كما قال مالك : { لا تأمنا على يوسف } وقال : { هل آمنكم عليه إلاَّ كما أمنتكم على أخيه } وقيل : بمعنى في أي : في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار .

والذي يظهر أن القنطار والدينار مثالان للكثير والقليل ، فيدخل أكثر من القنطار وأقل .

وفي الدينار أقل منه .

قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد طبقه يعني في الدينار لا يجوز إلاَّ في دينار فما زاد ، ولم يعن بذكر الخائنين في : أقل ، إذ هم طغام حثالة . انتهى .

ومعنى : { إلاَّ ما دمت عليه قائماً } قال قتادة ، ومجاهد ، والزجاج ، والفراء ، وابن قتيبة : متقاضياً بأنواع التقاضي من : الخفر ، والمرافعة إلى الحكام ، فليس المراد هيئة القيام ، إنما هو من قيام المرء على أشغاله : أي اجتهاده فيها .

وقال السدي وغيره : قائماً على رأسه وهي الهيئة المعروفة وذلك نهاية الخفر ، لأن معنى ذلك الخفر ، لأن معنى ذلك أنه في صدد شغل آخر يريد أن يستقبله .

وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء ، وانتزعوا من الآية جواز السجن ، لأن الذي يقوم عليه غريمه هو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء ، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن .

وقيل : قائماً بوجهك فيها بك ويستحي منك .

وقيل : معنى : دمت عليه قائماً ، أي : مستعلياً ، فإن استلان جانبك لم يؤدّ إليك أمانتك .

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وابن أبي ليلى ، والفياض بن غزوان ، وطلحة ، وغيرهم : دمت بكسر الدال ، وتقدم أنها لغة تميم وتقدم الخلاف في مضارعه .

و : ما ، في : ما دمت ، مصدرية ظرفية .

و : دمت ، ناقصة فخبرها : قائماً ، وأجاز أبو البقاء أن تكون : ما ، مصدرية فقط لا ظرفية ، فتتقدر بمصدر ، وذلك المصدر ينتصب على الحال ، فيكون ذلك استثناءً من الأحوال لا من الأزمان .

قال : والتقدير : إلاَّ في حال ملازمتك له .

فعلى هذا يكون : قائماً ، منصوباً على الحال ، لا خبراً لدام ، لأن شرط نقص : دام ، أن يكون صلة لما المصدرية الظرفية .

{ ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الامّيين سبيل } روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال .

العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء الإسلام ، وأسلم من أسلم من العرب ، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت الآية مانعة من ذلك .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي ، إلاَّ الأمانة فإنها مؤادّة إلى البر والفاجر » والإشارة بذلك إلى ترك الأداء الذي دل عليه لا يؤدّه ، أي : كونهم لا يؤدّون الأمانة كان بسبب قولهم .

والضمير في : بأنهم ، قيل : عائد على اليهود وقيل : عائد على لفيف بني إسرائيل .

والأظهر أنه عائد على : من ، في قوله : { من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك } وجمع حملاً على المعنى ، أي : ترك الأداء في الدِّينار فما دونه وفما فوقه كائن بسبب قول المانع للأداء الخائن : { ليس علينا في الأمّيين } وهم الذين ليسوا من أهل الكتاب ، وهم العرب .

وتقدّم كونهم سموا أمّيين في سورة البقرة .

والسبيل ، قيل : العتاب والذم وقيل : الحجة على ، نحو قول حميد بن ثور :

وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة *** من السرح موجود عليّ طريق

وقوله : فأولئك ما عليهم من سبيل من هذا المعنى ، وهو كثير في القرآن وكلام العرب وقيل : السبيل هنا الفعل المؤدّي إلى الإثم .

والمعنى : ليس عليهم طريق فيما يستحلون من أموال المؤمنين الأمّيين .

قال : وسبب استباحتهم لأموال الأمّيين أنهم عندهم مشركون ، وهم بعد إسلامهم باقون على ما كانوا عليه ، وذلك لتكذيب اليهود للقرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم وقيل : لأنهم انتقض العهد الذي كان بينهم بسبب إسلامهم ، فصاروا كالمحاربين ، فاستحلوا أموالهم وقيل : لأن ذلك مباح في كتابهم أخذ مال من خالفهم .

وقال الكلبي : قالت اليهود : الأموال كلها كانت لنا ، فما في أيدي العرب منها فهو لنا ، وأنهم ظلمونا وغصبونا ، فلا سبيل علينا في أخذ أموالنا منهم وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة ، أن رجلاً قال لابن عباس : أنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمّة : الشاة والدجاجة ، ويقولون : ليس علينا بذلك بأس ، فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب : { ليس علينا في الأمّيين سبيل } أنهم إذا أدّوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلاَّ عن طيب أنفسهم .

وذكر هذا الأثر الزمخشري ، وابن عطية ، وفيه بعد ذكر الشاة أو الدجاجة ، قال : فيقولون ماذا قال ؟ يقول : ليس علينا في ذلك بأس .

{ ويقولون على الله الكذب } أي القول الكذب يفترونه على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم .

قال السدّي ، وابن جريج ، وغيرهما : ادعت طائفة من أهل الكتاب أن في التوراة إحلالاً لهم أموال الأمّيين كذباً منها وهي عالمة بكذبها ، فيكون الكذب المقول هنا هو هذا الكذب المخصوص في هذا الفصل .

والظاهر أنه أعم من هذا ، فيندرج هذا فيه ، أي : هم يكذبون على الله في غير ما شيء وهم علماء بموضع الصدق .

وجوّزوا أن يكون : علينا ، خبر : ليس ، وأن يكون الخبر : في الأمّيين ، وذهب قوم إلى عمل : ليس ، في الجار ، فيجوز على هذا أن يتعلق بها .

قيل : ويجوز أن يرتفع : سبيل ، بعلينا ، وفي : ليس ، ضمير الأمر ، ويتعلق : على الله ، بيقولون بمعنى : يفترون .

قيل : ويجوز أن يكون حالاً من الكذب مقدماً عليه ولا يتعلق بالكذب .

قيل : لأن الصلة لا تتقدّم على الموصول .

{ وهم يعلمون } جملة حالية تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب ، أي : إن العلم بالشيء يبعد ويقبح أن يكذب فيه ، فكذبهم ليس عن غفلة ولا جهل ، إنما هو عن علم .

/خ82