تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٞ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

{ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتفقين }

المفردات :

تأمنه : من أمنته بمعنى ائتمنته ويقال أمنته بكذا او على كذا .

قنطار : المراد به هنا العدد الكثير أو المال الكثير كما ان المراد بالدينار العدد القليل .

ليس علينا في الأميين سبيل : يعنون بالأميين العرب بجهلهم وقتئذ بالكتابة والقراءة .

سبيل : مؤاخذة وذنب ومعنى كلامهم ليس علينا فيما نأخذه من أموالهم مأخذ ولا حساب .

التفسير :

75- { ومن اهل الكتاب من عن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك . . . }

هذه الآية من اظهر الأدلة على سماحة القرآن فقد تحدثت الآيات السابقة عن اهل الكتاب والكلام هنا موصول عنهم والآية تصفهم وتذكر ان منهم أمناء يؤدون الأمانة مهما كثر مقدارها ومنهم خونة يجحدون الأمانة مهما قل عددها .

فمن الأمناء عبد الله ابن سلام استودعه عربي قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا حين كان ابن سلام على يهوديته فلما طلبها القرشي أداها إليه كاملة ومن الخونة رجل اسمه فنحاص بن عازوراء استودعه رجل آخر منم قريش دينارا فجحده ثم بينت الآية السبب في هذا السلوك ثم قالت { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل } أي ليس علينا إثم في أكل أموالهم فلا حساب ولا عقاب في أكل أموال العرب .

وخلاصة رأيهم ان كل من ليس من شعب الله المختار من أهل دينهم فلا يأبه الله له بل هو مبغض عنده محتقر لديه فلا حقوق له ولا حرمة لماله فكل ما يستطاع أخذه منه فلا ضير فيه ولا شك ان هذا من الصلف والغرور والغلو في الدين واحتقار المخالف وهضم حقوقه .

روى ابن جرير ان جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم الثمن فقالوا ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه وادعوا إنهم وجدوا ذلك في كتابهم فرد الله عليهم بقوله :

{ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } وهم إذ يقولون هذا - يكذبون على الله تعالى - عن عمد وعلم انهم كاذبون لأن من جاء من عند الله فهو في كتابه والتوراة التي بين أيديهم ليس فيها خيانة الأميين ولا أكل أموالهم بالباطل .

أخرج عبد الرزاق بن أبي صعصعة بن يزيد ان رجلا سال ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال اهل الذمة الدجاجة والشاة . قال ابن عباس فتقولون ماذا ؟ قال نقول ليس علينا بذلك بأس قال ابن عباس : هذا كما قال أهل الكتاب : { ليس علينا في الأميين سبيل } إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ( 187 ) .

و أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما قال اهل الكتاب : { ليس علينا في الأميين سبيل } قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " ( 188 ) .

ويستفاد من الآية ما يأتي :

1- لا يحل لمسلم ان يخون أحدا ولو خالفه في الدين .

2- لا يصح لمسلم ان يتصف بالخيانة مع من خانه .

3- قال القرطبي : في الآية رد على الكفرة الذين يحرمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله ويجعلون ذلك من الشرع

4- استدل أبو حنيفة بالآية على ما ذهب إليه من مشروعية ملازمة الغريم بقوله تعالى لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك .

ومن هدى السنة ما رواه أبو داود والترمذي والحاكم والطبراني والبخاري في التاريخ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " ( 189 ) .

والله تعالى يقول : ولا يجرمنكم شنآن قوم على الا تعدلوا ( المائدة 8 ) .

ولا نستطيع ان نبرأ هذه الآية حتى نؤكد إنصاف القرآن لأهل الكتاب فهو لم يجردهم جميعا من الأمانة أو الإيمان ومن هذا الإنصاف قوله تعالى :

{ ليسوا سواء من أهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } ( آل عمران 113 ) .