غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٞ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

72

ثم إنه تعالى كذبهم في دعواهم الاختصاص بالمناصب العالية فإن فيهم الخيانة المستقبحة في جميع الأديان ونقض العهد والكذب على الله إلى غير ذلك من القبائح فقال : { ومن أهل الكتاب } الآية ، فيها دلالة على انقسامهم إلى قسمين : أهل للأمانة وأهل للخيانة . فقيل : إن أهل الأمانة هم الذي أسلموا ، أما الذي بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أنه يحل لهم قتل كل من يخالفهم في الدين وأخذ أموالهم . وقيل : إن أصحاب الأمانة هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم ، وأهل الخيانة اليهود لكثرة ذلك فيهم .

وقال ابن عباس : { من إن تأمنه بقنطار يؤده } هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأداه إليه و { من إن تأمنه بدينار لا يؤده } هو فنحاص بن عازورا استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه . وقال أهل الحقيقة : هي فيمن يؤتى كثيراً من الدنيا فيخرج عن عهدته بعدم الالتفات إليه وقطع النظر عنه ثقة بالله وتوكلاً عليه واكتفاء به ، وفيمن يمتحن بالدنيا فيكون همه مقصوراً عليها معرضاً عما سواها غير مؤد حقوقها . ويقال : أمنته بكذا وعلى كذا ، فمعنى الباء إلصاق الأمانة بحفظها وحياطتها ، ومعنى " على " استعلاؤها والاستيلاء عليها . والمراد بالقنطار والدينار ههنا العدد الكثير والعدد القليل فلا حاجة إلى تعيينه . وأما الأقوال فيه فقد مرت في أوائل السورة . وقد يستدل بما روينا عن ابن عباس أن القنطار ألف ومائتا أوقية . ويدخل تحت القنطار والدينار العين والدين ، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقارضة ، وليس في الآية ما يدل على التعيين لكنه نقل عن ابن عباس أنه محمول على المبايعة فقال : منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ، ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك . ونقلنا عنه أيضا أنها نزلت في الوديعة . وأما قوله { إلا ما دمت عليه قائماً } فمنهم من حمله على حقيقته . قال السدي : يعني إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائماً على رأسه مجتمعاً معه ملازماً إياه ، فإن أنظرت وأخرت أنكر . ومنهم من يحمله على الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة . قال ابن قتيبة : أصله أن الطالب للشيء يقوم به والتارك له يقعد عنه ومنه قوله تعالى :{ أمة قائمة }[ آل عمران : 113 ] أي عاملة بأمر الله غير تاركة له . وقال أبو علي الفارسي : إنه في اللغة الدوام والثبات ومنه قوله :{ ديناً قيماً }[ الأنعام : 161 ] أي ثابتاً لا ينسخ . فمعنى الآية إلا دائماً ثابتاً في مطالبتك إياه بذلك المال . { ذلك } الاستحلال وترك الأداء الذي دل عليه لا يؤده بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل بالخطاب والعتاب . إما لأنهم يبالغون في التعصب لدينهم حتى استحلوا قتل المخالف وأخذ ماله بأي طريق كان ، وإنا لأنهم قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا ، ويحتمل أن يكونوا اعتقدوا في الإسلام أنه كفر فيحكمون على المسلمين بالردة فيستحلون دماءهم وأموالهم . روي أن اليهود عاملوا رجالاً في الجاهلية من قريش . فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا : ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فلا جرم قال تعالى : { ويقولون على الله الكذب } بادعائهم أن ذلك في كتابهم { وهم يعلمون } أنهم كاذبون ، وهذه غاية الجرأة والجهالة .

أو يعلمون حرمة الخيانة ، أو يعلمون ما على الخائن من الإثم . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها : " كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر " . وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة . قال : فتقولون ماذا ؟ قال : نقول ليس علينا في ذلك بأس . قال : هذا كما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل . إنهم إذا أدوا الجزية لم يحل أكل أموالهم إلا بطيب أنفسهم .