التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗاۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لَيۡسَ عَلَيۡنَا فِي ٱلۡأُمِّيِّـۧنَ سَبِيلٞ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

قوله تعالى : ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين ) .

ذلك إخبار من الله عن أهل الكتاب وهم اليهود من بني إسرائيل ، بأن منهم أهل أمانة يؤدونها ولا يخونونها ، ومنهم الخائن أمانته الفاجر في يمينه . وجملة ذلك أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدي أمانته وإن كانت كثيرة ، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة ، ومن كان أمينا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى ، ومن كان خائنا في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى .

أما وجه إخبار الله نبيه صلى الله عليه و سلم بذلك فهو تحذير المسلمين من ائتمانهم على أموالهم وتخويفهم من الاغترار بهم لاستحال كثير منهم أموال المؤمنين .

والمؤمنون لا يستطيعون التمييز بين الخائن والأمين من أهل الكتاب ، ومعلوم أن أهل الخيانة فيهم أكثر من أهل الأمانة لخروج الكلام على الغالب فلزم اجتناب جميعهم{[496]} .

قوله : ( لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ) المراد بالقيام هنا : الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة : ومعنى الآية أن هذا الخائن لهو من الشح وفساد النفس واستمراء الحرام أنك إن تأمنه على دينار واحد لا يؤده إليك إلا بالمطالبة والملازمة والخصومة والتقاضي لاستخلاص الحق منه . وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فإن ما فوقه أولى أن لا يؤديه إليك .

قوله : ( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ) ( الأميين ) جمع ومفرده الأمي ، وهو من لا يكتب أو من على خلقة الأمة لم يتعلم الكتاب وهو باق عل جبلته ، والأمي منسوب إلى الأم ؛ لأنها أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بقي على أصله في أن لا يكتب{[497]} .

وذلك إخبار عن اليهود كانوا إذا بايعوا من على غير ملتهم من العرب أو عاملوهم فإنهم لا يجدون حرجا أو غضاضة في دينهم أن يظلموهم أو يجحدوا حقهم أو يكذبوا عليهم من أجل أن يأكلوا أموالهم بغير حق . وذلك مقتضى قوله تعالى عنهم : ( ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ) أي ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب ( سبيل ) أي حرج أو إثم . وذلك شطط فاضح وغاية في الإفراط المتعصب من غير تبصر ولا يقين ولا ضمير بما يبيح للمتعصبين الغلاة أن يعتدوا على غيرهم من أولي الأديان الأخرى بمختلف صور العدوان ما بين تقتيل وتهجير وتنكيل وأكل للأموال بالباطل .

قوله : ( ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) أي أن هذه المقالة منهم كانت محض افتراء واختلاق ، بل إن ذلك غاية في الإفك والضلالة وهي قولهم : لا جناح علينا في أكل أموال غير اليهود ، لا جرم أن ذلك بهتان وكذب لا يتورع عن مقارفته من هان عليه دينه فعاث فيه تحريفا وتزييفا ، وهانت عليه التوراة فألبسها التزوير والتشويه والخلط ، كل ذلك ( وهم يعلمون ) أي لما قالوا : إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة كانوا كاذبين في ذلك وكانوا عالمين بأنهم كاذبون فيه ، بل كانوا عالمين أن الخيانة محرمة وإن الخائن آثم .

ولئن كانت هذه الخليقة هي ديدن يهود وطبيعتهم في التعامل والتقاضي مع الآخرين فلا جرم أن لا يكون هؤلاء خليقين بثقة غيرهم من الناس ، ليسوا خليقين بالتصديق في عهد ولا عقد ولا ميثاق . ولا خليقين بالائتمان على الأموال والأنفس والأوطان ، فضلا عن عدم ائتمانهم على القيم والأخلاق والعقائد .

أما المسلمون فلا جرم أنهم موضع الثقة والائتمان الكاملين على البشرية في أديانها وعقائدها وأوطانها وأموالها البشرية بكل دياناتها السماوية المعتبرة .

المسلمون مؤتمنون على رعاية الإنسان ليظل آمنا مطمئنا على نفسه وماله وعرضه ودينه ، سواء كان من اليهود أو النصارى أو المجوس . وأولئك في ظل الإسلام سالمون مكرمون ، وليس لأحد من الناس- مسلما أو غير مسلم- أن يعتدي عليهم أو يمسهم بسوء أو أذى ماداموا أهل ذمام وعهد ولهم حق المواطنة الكاملة .

سأل رجل ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة . قال ابن عباس : فتقولون ماذا ؟ قال : نقول : ليس علينا بذلك بأس . قال : هذا كما قال أهل الكتاب : ( ليس علينا في الأميين سبيل ) إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم .


[496]:- تفسير الطبري جـ 3 ص 225 وفتح القدير للشوكاني جـ 1 ص 353.
[497]:- القاموس المحيط جـ 4 ص 77 وتفسير الرازي جـ 8 ص 113.