21- ومن شأن الناس أننا إذا أنعمنا عليهم ، من بعد شدة أصابتهم في أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم ، لم يشكروا الله على ما أنعم به عليهم بعد صرف الضر عنهم ، بل هم يقابلون ذلك بالإمعان في التكذيب والكفر بالآيات . قل - أيها الرسول - : إن الله قادر على إهلاككم والإسراع بتعذيبكم ، لولا حكم سابق منه بإمهالكم إلى موعد اختص - وحده - بعلمه . إن رسلنا من الملائكة الموكلين بكم يكتبون ما تمكرون ، وسيحاسبكم ويجازيكم .
قوله تعالى : { وإذا أذقنا الناس } ، يعني : الكفار ، { رحمة من بعد ضراء } ، أي : راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء ، وقيل : القطر بعد القحط ، { مستهم } ، أي : أصابتهم ، { إذا لهم مكر في آياتنا } ، قال مجاهد : تكذيب واستهزاء . وقال مقاتل بن حيان : لا يقولون : هذا رزق الله ، إنما يقولون : سقينا بنوء كذا ، وهو قوله : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة-82 ] . { قل الله أسرع مكرا } ، أعجل عقوبة وأشد أخذا وأقدر على الجزاء ، يريد عذابه في إهلاككم أسرع إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق ، { إن رسلنا } ، حفظتنا ، { يكتبون ما تمكرون } ، وقرأ يعقوب : يمكرون بالياء .
يخبر{[14142]} تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ، كالرخاء بعد الشدة ، والخصب{[14143]} بعد الجدب ، والمطر بعد القحط ونحو ذلك { إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا } .
قال مجاهد : استهزاء وتكذيب . كما قال : { وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [ يونس : 12 ] ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح على{[14144]} أثر سماء - مطر{[14145]} - أصابهم{[14146]} من الليل ثم قال : " هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ " قالوا{[14147]} الله ورسوله أعلم . قال : " قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مُطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب " . {[14148]} وقوله : { قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا } أي : أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب ، وإنما هو في مهلة ، ثم يؤخذ على غرة منه ، والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله ، ويحصونه عليه ، ثم يعرضون على عالم الغيب والشهادة ، فيجازيه على الحقير والجليل{[14149]} والنقير والقِطْمير .
وقوله { وإذا أذقنا الناس } الآية ، المراد ب { الناس } في هذه الآية الكفار وهي بعد تتناول من العاصين من لا يؤدي شكر الله تعالى عند زوال المكروه عنه ولا يرتدع بذلك عن معاصيه ، وذلك في الناس كثير ، و «الرحمة » هنا بعد الضراء ، كالمطر بعد القحط والأمن بعد الخوف والصحة بعد المرض ونحو هذا مما لا ينحصر ، و «المكر » الاستهزاء والطعن عليها من الكفار واطراح الشكر والخوف من العصاة ، ووصف مكر الله بالسرعة وإن كان الاستدراج بمهلهم لأنه متيقن به واقع لا محالة ، وكل آت قريب ، قال أبو حاتم : قرأ الناس «أن رسُلنا » بضم السين ، وخفف السين الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ، وقال أبو علي { اسرع } من سرع ولا يكون من أسرع يسرع ، قال ولو كان من أسرع لكان شاذاً .
قال القاضي أبو محمد : وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نار جهنم «لهي أسود من القار »{[6053]} وما حفظ للنبي صلى الله عليه وسلم فليس بشاذ{[6054]} . وقرأ الحسن والأعرج ونافع وقتادة ومجاهد «تمكرون » بتاء على المخاطبة وهي قراءة أهل مكة وشبل وأبي عمرو وعيسى وطلحة وعاصم والأعمش والجحدري وأيوب بن المتوكل [ وقرأ الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ]{[6055]} ، ورويت أيضر عن نافع والأعرج ، قال أبو حاتم : قال أيوب بن المتوكل : في مصحف أبيّ «يا أيها الناس إن الله أسرع مكراً وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون »{[6056]} .
لما حكى تمرد المشركين بيّن هنا أنهم في ذلك لاهون ببطرهم وازدهائهم بالنعمة والدَّعة فأنساهم ما هم فيه من النعمة أن يتوقعوا حدوث ضده فتفننوا في التكذيب بوعيد الله أفانين الاستهزاء ، كما قال تعالى : { وذرني والمكذبين أولي النّعمة ومهِّلهم قليلاً } [ المزمل : 11 ] .
وجاء الكلام على طريقة الحكاية عن حالهم ، والمُلقَى إليه الكلام هو النبي صلى الله عليه وسلم والمُؤمنون . وفيه تعريض بتذكير الكفار بحال حلول المصائب بهم لعلهم يتذكرون ، فيعدوا عدة الخوف من حلول النقمة التي أنذرهم بها في قوله { فانتظروا } [ يونس : 20 ] كما في الحديث : « تَعَرَّف إلى الله في الرخاء يَعْرِفْك في الشدة » فالمراد ب { الناس } الناس المعهودون المتحدث عنهم بقرينة السياق على الوجهين المتقدمين في قوله تعالى : { وإذا مَس الإنسان الضر دعانا لجنبه } [ يونس : 12 ] .
وقد قيل : إن الآية تشير إلى ما أصاب قريشاً من القحط سبعَ سنين بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ثم كَشف الله عنهم القحط وأنزل عليهم المطر ، فلما حيوا طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدون له . والقحط الذي أصاب قريشاً هو المذكور في سورة الدخان . وقد أنذروا فيها بالبطشة الكبرى . وقال ابن عباس : هي بطشة يوم بدر . فتكون هذه الآية قد نزلت بعد انقراض السبع السنين التي هي كسني يوسف وبعد أن حيُوا ، فتكون قد نزلت بعد سنة عشر من البعثة أو سنة إحدى عشرة .
والإذاقة : مستعملة في مطلق الإدراك استعارةً أو مجازاً ، كما تقدم في قوله : { ليذوق وبال أمره } في سورة [ العقود : 95 ] .
والرحمة : هنا مطلقة على أثر الرحمة ، وهو النعمة والنفع ، كقوله : { وينشر رحمته } [ الشورى : 28 ] .
والضراء : الضر . والمس : مستعمل في الإصابة . والمعنى إذا نالت الناس نعمة بعد الضر ، كالمطر بعد القحط ، والأمن بعد الخوف ، والصحة بعد المرض .
و ( إذا ) في قوله : { إذا لهم مكرٌ } للمفاجأة ، وهي رابطة لجواب ( إذا ) الشرطية لوقوعه جملة اسمية وهي لا تصلح للاتصال بإذا الشرطية التي تلازمها الأفعال إن وقعت ظرفاً ثم إن وقعت شرطاً فلا تصلح لأن تكون جواباً لها ، فلذلك أدخل على جملة الجواب حرف ( إذا ) الفجائية ، لأن حرف المفاجأة يدل على البِدار والإسراع بمضمون الجملة ، فيُفيد مُفاد فاء التعقيب التي يؤتى بها الربط جواب الشرط بشرطه ، فإذا جاء حرف المفاجأة أغنى عنها .
والمكرُ : حقيقته إخفاء الإضرار وإبرَازه في صورة المسألة ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { ومكروا ومكر الله } في سورة [ آل عمران : 54 ] .
و ( في ) من قوله : في آياتنا } للظرفية المجازية المرادُ منها الملابسة ، أي مكرهم المصاحب لآياتنا . ومعنى مكرهم في الآيات أنهم يمكرون مكراً يتعلق بها ، وذلك أنهم يوهمون أن آيات القرآن غير دالة على صدق الرسول ويزعمون أنه لو أنزلت عليه آية أخرى لآمنوا بها وهم كاذبون في ذلك وإنما هم يكذبونه عناداً ومكابرة وحفاظاً على دينهم في الشرك .
ولما كان الكلام متضمناً التعريض بإنذارهم ، أمر الرسول أن يعظهم بأن الله أسرع مكراً ، أي منكم ، فجعل مكر الله بهم أسرع من مكرهم بآيات الله .
ودل اسم التفضيل على أن مكر الكافرين سريع أيضاً ، وذلك لما دل عليه حرف المفاجأة من المبادرة وهي إسراع . والمعنى أن الله أعجل مكراً بكم منكم بمكرمكم بآيات الله .
وأسرعُ : مأخوذ من أسرع المزيدِ على غير قياس ، أو من سَرع المجرد بناء على وجوده في الكلام فيما حكاه الفارسي .
وأطلق على تأجيل الله عذابهم اسم المكر على وجه الاستعارة التمثيلية لأن هيئة ذلك التأجيل في خفائه عنهم كهيئة فعل الماكر ، وحسنته المشاكلة كما تقدم في آية آل عمران .
وجملة : { إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون } استئناف خطاب للمشركين مباشرة تهديداً من الله ، فلذلك فصلت على التي قبلها لاختلاف المخاطب . وتأكيد الجملة لكون المخاطبين يعتقدون خلاف ذلك ، إذ كانوا يحسبون أنهم يمكرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن مكرهم يتمشى عليه ولا يشعر به فأعلمهم الله بأن الملائكة الموكلين بإحصاء الأعمال يكتبون ذلك . والمقصود من هذا أن ذلك محصي معدود عليهم لا يهمل ، وهو إنذار بالعذاب عليه ، وهذا يستلزم علم الله تعالى بذلك .
وعبر بالمضارع في { يكتبون } و { يمكرون } للدلالة على التكرر ، أي تتكرر كتابتهم كلما يتكرر مكرهم ، فليس في قوله : { ما تمكرون } التفات من الغيبة إلى الخطاب لاختلاف معادي الضميرين .
وقرأه الجمهور { ما تمكرون } بتاء الخطاب . وقرأه روح عن يعقوب { ما يمكرون } بياء الغائب ، والضمير ل { الناس } في قوله : { وإذا أذقنا الناس رحمة } . وعلى هذه القراءة فالكلام موجه للنبيء صلى الله عليه وسلم .