قوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } قال الكلبي ومجاهد : هذا الخطاب للأولياء وذلك أن ولي المرأة كان إذا زوجها فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلاً ولا كثيراً وإن كان زوجها غريباً حملوها إليه على بعير ولم يعطوها من مهرها غير ذلك ، فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم أن يدفعوا الحق إلى أهله . قال الحضرمي : وكان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته ، ولا مهر بينهما فنهوا عن ذلك وأمروا بتسمية المهر في العقد .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو اسحق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك بن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن الشغار " والشغار : أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق . وقال الآخرون : الخطاب للأزواج ، أمروا بإيتاء نسائهم الصداق ، وهذا أصح ، لأن الخطاب فيما قبل مع الناكحين ، والصدقات : المهور ، واحدها صدقة ، نحلة ، قال قتادة : فريضة ، وقال ابن جريج : فريضة مسماة . قال أبو عبيدة : ولا تكون النحلة إلا مسماةً معلومة .
وقال الكلبي : عطية وهبة . وقال أبو عبيدة : عن طيب نفس . وقال الزجاج : تديناً . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا الليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) .
قوله تعالى : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } . يعني : فإن طابت نفوسهن بشيء من ذلك فوهبن منكم ، فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها فخرجت النفس مفسرة ، فذلك وحد النفس ، كما قال الله تعالى : { وضاق بهم ذرعاً } و{ وقري عيناً } وقيل : لفظها واحد ومعناها جمع .
قوله تعالى :{ فكلوه هنيئاً مريئا } . سائغاً طيباً ، يقال : هنأني الطعام يهنئني ، بفتح النون في الماضي وكسرها في الحاضر وقيل : الهنيء : الطيب المساغ الذي لا ينغصه شيء والمريء : المحمود العاقبة التام الهضم الذي لا يضر . قرأ أبو جعفر { هنيا مريا } بتشديد الياء فيهما من غير همزة . وكذلك " بري وبريون وبرياً وكهية " والآخرون يهمزونها .
وقوله : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : النحلة : المهر .
وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : نحلة : فريضة . وقال مقاتل وقتادة وابن جريج : نحلة : أي فريضة . زاد ابن جريج : مسماه . وقال ابن زيد : النحلة في كلام العرب : الواجب ، يقول : لا تنكحها إلا بشيء واجب لها ، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب ، ولا ينبغي أن يكون{[6589]} تسمية الصداق كذبا بغير حق .
ومضمون كلامهم : أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حَتمًا ، وأن يكون طيب النفس بذلك ، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبًا بها ، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك ، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالا طيبًا ؛ ولهذا قال [ تعالى ]{[6590]} { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة ، عن علي قال : إذا اشتكى أحدكم شيئًا ، فَلْيسأل امرأته ثلاثة{[6591]} دراهم أو نحو ذلك ، فليبتع بها عسلا ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئًا مريئًا شفاء مباركا .
وقال هُشَيم ، عن سيار ، عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله عن ذلك ، ونزل : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } رواه ابن أبي حاتم وابن جرير .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، عن سفيان عن عمير{[6592]} الخثعمي ، عن عبد الملك{[6593]} بن المغيرة الطائفي ، عن عبد الرحمن بن البَيْلَمَاني{[6594]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } قالوا : يا رسول الله ، فما العلائق بينهم ؟ قال : " ما تراضى عليه أهْلوهُم " {[6595]} .
وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق حَجَّاج بن أرْطاة ، عن عبد الملك بن المغيرة ، عن عبد الرحمن بن البَيْلمَاني{[6596]} عن عمر بن الخطاب قال : خَطَبَ{[6597]} رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أنكحوا الأيامى " ثلاثا ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، ما العلائق بينهم ؟ قال : " ما تراضى عليه أهلوهم " .
ابن البَيْلمَاني{[6598]} ضعيف ، ثم فيه انقطاع أيضًا{[6599]} .
{ وآتوا النساء صدقاتهن } مهورهن . وقرئ بفتح الصاد وسكون الدال على التخفيف ، وبضم الصاد وسكون الدال ، جمع صدقة كغرفة ، وبضمهما على التوحيد وهو تثقيل صدقة كظلمة في ظلمة . { نحلة } أي عطية يقال نحلة كذا نحلة ونحلا إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض ومن فسرها بالفريضة ونحوها نظر إلى مفهوم الآية لا إلى موضوع اللفظ ، ونصبها على المصدر لأنها في معنى الإيتاء أو الحال من الواو ، أو الصدقات أي آتوهن صدقاتهن ناحلين أو منحولة . وقيل المعنى نحلة من الله وتفضلا منه عليهن فتكون حالا من الصدقات . وقيل ديانة من قولهم انتحل فلان كذا إذا دان به على أنه مفعول له ، أو حال من الصدقات أي دينا من الله تعالى شرعه ، والخطاب للأزواج ، وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور مولياتهم . { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } للصداق حملا على المعنى أو جرى مجرى اسم الإشارة كقول رؤبة :
إذ سئل فقال : أردت كأن ذاك . وقيل للإيتاء ، ونفسا تمييز لبيان الجنس ولذلك وحد ، والمعنى فإن وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيب نفس ، لكن جعل العمدة طيب النفس للمبالغة وعداه بعن لتضمن معنى التجافي والتجاوز ، وقال منه بعثا لهن على تقليل الموهوب { فكلوه هنيئا مريئا } فخذوه وأنفقوه حلالا بلا تبعة . والهنيء والمريء صفتان من هنأ الطعام ومرأ إذا ساغ من غير غصص ، أقيمتا مقام مصدريهما أو وصف بهما المصدر أو جعلتا حالا من الضمير وقيل الهنيء ما يلذه الإنسان ، والمريء ما تحمد عاقبته .
وقوله : { وءاتوا النساء صدقاتهن نحلة } قال ابن عباس وقتادة وابن جريج : إن الخطاب في هذه الآية للأزواج ، أمرهم الله أن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم ، وقال أبو صالح : الخطاب لأولياء النساء ، لأن عادة بعض العرب كانت أن يأكل ولي المرأة مهرها ، فرفع الله ذلك بالإسلام وأمر بأن يدفع ذلك إليهن ، وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه : زعم حضرمي أن المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى ، فأمروا أن يضربوا المهور .
قال القاضي أبو محمد : والآية تتناول هذه الفرق الثلاث ، قرأ جمهور الناس والسبعة «صَدٌقاتهن » بفتح الصاد وضم الدال ، وقرأ موسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم «صُدُقاتهن » بضم الصاد والدال ، وقرأ قتادة وغيره «صُدْقاتهن » بضم الصاد وسكون الدال ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «صدقتهن » بالإفراد وضم الصاد وضم الدال . والإفراد من هذا صدَقة . و { نحلة } : معناه : نحلة منكم لهن أي عطية ، وقيل التقدير : من الله عز وجل لهن ، وذلك لأن الله جعل الصداق{[3853]} على الرجال ولم يجعل على النساء شيئاً ، وقيل { نحلة } معناه : شرعة ، مأخوذ من النحل تقول : فلان ينتحل دين كذا ، وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء ، ويتجه مع سواه ، ونصبها على أنها من الأزواج بإضمار فعل من لفظها ، تقديره - أنحلوهن نحلة ، ويجوز أن يعمل الفعل الظاهر ، وإن كان من غير اللفظ لأنه مناسب للنحلة في المعنى ونصبها على أنها من الله عز وجل بإضمار فعل مقدر من اللفظ لا يصح غير ذلك ، وعلى أنها شريعة هي أيضاً من الله وقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } الخطاب حسبما تقدم من الاختلاف في الأزواج والأولياء ، والمعنى : إن وهبن غير مكرهات طيبة نفوسهن ، والضمير في { منه } راجع على الصداق ، وكذلك قال عكرمة وغيره ، أو على الإيتاء ، وقال حضرمي : سبب الآية أن قوماً تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات ، و { نفساً } نصب على التمييز ، ولا يجوز تقدمه على العامل عند سيبويه إلا في ضرورة شعر مع تصرف العامل ، وإجازة غيره في الكلام .
ومنه قول الشاعر{[3854]} [ المخبل السعدي ] : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وما كان نفساً بالفراق تطيب . و_من - تتضمن الجنس ها هنا ، ولذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو وقفت «من » على التبعيض لما جاز ذلك ، وقرىء «هنياً مرياً » دون همز ، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن والزهري ، قال الطبري : ومن هناء البعير أن يعطي الشفاء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وإنما قال اللغويون : الطعام الهنيء هو السائغ المستحسن الحميد المغبة ، وكذلك المريء ، قال اللغويون : يقولون هنأني الطعام ومرأني على الإتباع ، فإذا أفردوا قالوا : أمرأني على وزن أفعل . قال أبو علي : وهذا كما جاء في الحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات »{[3855]} فإنما اعتلت الواو من موزورات إتباعاً للفظ مأجورات ، فكذلك مرأني اتباعاً لهنأني ، ودخل رجل على علقمة - وهو يأكل شيئاً مما وهبته امرأته من مهرها - فقال له : كل من الهنيء المريء ، قال سيبويه ؛ { هنيئاً مريئاً } صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره ، المختزل للدلالة التي في الكلام عليه ، كأنهم قالوا : ثبت ذلك «هنيئاً مريئاً » .