مفعول ثانٍ ، وهي جمع " صَدُقة " بفتح الصَّاد وضمَّ الدَّال بزنة " سَمُرة " ، والمرادُ بها : المهر وهذه هي القراءة المشهُورَةُ ، وهي لُغَةُ الحجاز .
وقرأ قتادةُ{[6519]} : " صُدْقاتهن " بضمِّ الصَّادِ وإسكان الدَّال ، جمعُ صُدْقَةٍ بزنة غُرْفَةٍ .
وقرأ مجاهدٌ{[6520]} وابن أبي عبلة بضمهما وهي جمع صدقة بضم الصاد والدال ، وهي تثقيل الساكنة الدَّال للإتباع .
وقرأ ابن وثاب{[6521]} والنخعي " صُدُقَتَهُنَّ " بضمهما مع الإفراد .
قال الزَّمخشريُّ وهي تثقيل صُدْقة كقولهم في " ظُلْمة " " ظُلُمة " ، وقد تقدم الخلاف ، هل يجوز تثقيل الساكن المضموم الفاء ؟
وقرئ{[6522]} : " صدقاتهن " بفتح الصَّادِ وإسْكَانِ الدَّالِ وهي تخفيف القراءة المشهورة ، كقولهم في عَضُد : عَضْد .
قال الوَاحِدِيُّ : ولفظ الصَّادِ والدَّال والقاف موضوع للكمال والصحة ، يسمّى المهر صداقاً وصدقة وذلك لأنَّ عقد النكاح به يتم .
وفي نصب " نحلة " أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّها منصوبةِ على المصدر{[6523]} ، والعامل فيها الفعل قبلها ؛ لأن " آتوهن " بمعنى انحلوهُنَّ ، فهي مصدر على غير الصدر نحو : " قَعَدْت جلوساً " .
الثاني : أنها مصدرٌ واقِعٌ موقع الحال ، وفي صاحب الحال ثلاثة احتمالات :
أحدها : أنَّهُ الفاعل من " فآتوهن " أي : فآتوهن ناحِلين .
الثاني : أنَّهُ المفعول الأوَّل وهو : النِّسَاءُ .
الثالث : أنه المفعول الثاني وهو " صدقاتهن " . أي : منحولات .
الوجه الثَّالثُ : أنَّها مفعول من أجله ، إذا فُسِّرَتْ بمعنى : شِرْعة .
الوجه الرابع : انتصابها بإضمار فعل بمعنى : شَرَعَ أي : نحل الله ذلك نِحلة ، أي : شَرَعَةُ شِرْعة وديناً .
والنِّحْلَةُ العَطِيَّةُ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ ، والنَّحْلَة : الشِّرْعَة ، ومنه : نِحْلة الإسلام خَير النحل{[6524]} ، وفلان ينتحل بكذا : أي يَدِيِنُ به ، والنَّحْلَةُ : الفَرِيضةُ .
قال الراغب : والنِّحْلَة والنَّحْلَةُ : الْعَطِيَّةُ على سبيل التبرع ، وهي أخصُّ من الهِبَةِ ، إذ كُل هبة نحلة من غير عكس ، واشتقاقهُ فيما أرَى من النَّحْلِ ، نظراً منه إلى فعله ، فكأن " نَحَلْتهُ " أعْطَيْتَهُ عَطِيةَ النحل ، ثم قال : ويجوز أن تكون النِّحْلةُ أصلاً فَسُمَّى النَّحْلُ{[6525]} بذلك اعتباراً بفعله .
وقال الزَّمخشريُّ : مِنْ نَحَلَه كذا أي : أعطاه إيَّاه ووهبه له عن طيب نفسه ، نِحْلَةً وَنَحْلاً ، ومنه حديث أبي بكر - رضي الله عَنْهُ - : " إنِّي نَحَلْتُكَ جِدَادَ عِشْرِينَ وِسْقاً " {[6526]} .
قال القَفَّالُ{[6527]} : وأصله إضافة الشيء إلى غير من هو له ، يقال{[6528]} : هذا شعر منحول ، أي : مضاف إلى غير قائله ، وانتحلت{[6529]} كذا إذا ادَّعَيْتَهُ وَأَضَفْتَهُ إلى نَفْسِكَ .
فصل من المقصود بالخطاب في الآية
أحدهما : أنه " لأولياء " [ النساء ] ؛ لأنَّ العربَ كانت في الجاهليَّة لا تعطي النساء من مهورهن شيئاً ، وكذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئاً لك النافجة ، ومعناه : أنَّك تأخذ مهرها إبلاً فَتُضُمُّهَا إلى إبلك فتنفج مالك أي : تعظمه ، وقال ابن الأعرابي{[6530]} : النافجة{[6531]} ما يأخذه الرَّجلُ من الحلوانِ إذا زوج ابنته ، فَنَهى الله عن ذلك ، وأمر بدفع الحقِّ إلى أهله ، وهذا قول الكلبيِّ وأبي صالح واختيار الفرَّاء وابن قتيبةَ .
وقال الحضرميّ : وكان أولياء النساء يُعطى هذا أُخْتَه على أن يعطيه الآخرُ أخته ، ولا مهرَ بينهما ، فَنُهوا عن ذلك ، " ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغَار " {[6532]} ، وهو أن يزوج الرَّجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ، ولا صداق بَيْنَهُمَا .
الثاني : أنَّ الخطاب للأزواج ، أمِرُوا بإيفاء مهور النساء ، وهذا قول علقمة ، والنَخَعِيِّ وقتادة{[6533]} ، واختيار الزجَّاج ، لأنه لا ذكر للأولياء ها هنا ، والخطاب قبله للأزواج .
قال قَتَادَةُ : نحله فريضة{[6534]} .
وقال ابن جريج : فريضة مسمَّاة{[6535]} .
قال أبو عبيدة{[6536]} : لا تكون النِّحْلَةُ إلاَّ مُسَمَّاة ومعلومة . قال القَفَّال{[6537]} : يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة ، ويحتمل أن يكون المراد منه الالتزام كقوله تعالى :
{ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ } [ التوبة : 29 ] أي : يضمنوها ويلتزموها{[6538]} ، فعلى الأول المراد دفع المُسَمَّى ، وعلى الثاني أن المراد بيان أن الفروج{[6539]} لا تُستباح إلا بعوض يلتزم سواء سمَّي أو لم يسمَّ ، إلا ما خُصَّ به النبي صلى الله عليه وسلم في الموهوبة .
قوله : { فإن طبن لكم منه } " منه " في محل جر ؛ لأنه صفة ل " شيء " فيتعلق بمحذوف أي : عن شيء كائن منه .
أحدهما : أنها للتبعيض ، ولذلك لا يجوز لها أن تَهَبَهُ كُلَّ الصَّداق ، وإليه ذهب الليث .
والثاني : أنها للبيان ، ولذلك يجوز أن تَهَبَهُ كُلَّ الصَّداق .
قال ابن عطيَّة : و " مِنْ " لبيان الجنس ها هنا ولذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو [ وقعت ]{[6540]} على التبعيض لما جَازَ ذلك انتهى .
وقد تَقَدَّمَ أن الليث يمنع ذلك ، ولا يشكل كونها للتَّبعيض ، وفي هذا الضمير أقوال :
أحدها : أنه يعود على الصَّداق المدلول عليه ب { صَدُقَاتِهِنَّ } .
الثاني : أنه يعود على " الصَّدُقات " لسدِّ الواحِدِ مَسَدَّها ، لو قيل : صَداقَهُنَّ لم يختلَّ المعنى ، وهو شبيهٌ بقولهم : هو أحسنُ الفتيان وأجْمَلُهُ ؛ ولأنه لو قيل : " هو أحسنُ فتىً " لَصَحَّ المعنى .
وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ{[6541]} *** . . .
في " برد " ضمير يعود على " ألبان " لسدِّ " لبن " مسدَّها .
الثالث : أنه يعود على " الصَّدُقات " أيضاً ، لكن ذهاباً بالضمير مذهب الإشارة فَإنَّ اسم الإشارة قد يُشارُ بِهِ مفرداً مذكراً إلى أشياء تقدمت{[6542]} ، كقوله :
{ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلِكُمْ } [ آل عمران : 15 ] بعد ذكر أشياء قبله ، وقد تقدم ما روي في البقرة ما حكي عن رؤية لما قيل له في قوله : [ الرجز ]
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادِ وَبَلَقْ *** كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ{[6543]}
فقال : أردت ذلك فأجْرَى الضمير مجرى اسم الإشارة .
الرابع : أنه يعود على المال ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ؛ لأنَّ الصَّدُقاتِ تدُلُّ عليه .
الخامس : أنه يعود على الإيتاء المدلول عليه ب " آتوا " ، قاله الرَّاغب وابن عطيَّة .
السَّادس : قال الزمخشريُّ " ويجوز أن يُذَكَّر الضميرُ ؛ لينصرف إلى الصَّداق الواحد ، فيكون متناولاً بَعْضَهُ ، ولو أَنّثَ لتناول ظاهرة هبةَ الصَّداق كُلِّه ؛ لأنَّ بعض الصُّدقات واحد منها{[6544]} فصاعداً " .
وقال أبو حَيَّان : وأقولُ حَسَّن تذكير الضمير أن معنى " فَإنْ طِبْنَ " فإن طابَتْ كُلُّ واحدةٍ فلذلك قال : " منه " أي : مِنْ صَداقِها ، وهو نظير قوله : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً }
[ يوسف : 31 ] ؛ أي لكلّ واحدة منهن ، ولذلك أفرد " متكأ " .
قوله : " نَفْساً " منصوب على التَّمييز ، وهو هنا منقولٌ من{[6545]} الفاعل ؛ إذ الأصل : فإنْ طابَتْ أنفسُهُنَّ ، ومثله : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] .
وهذا منصوب عن تمام الكلام ، وجِيء بالتمييز هنا مفرداً ، وإن كان قبلَه جمعٌ لعدم اللَّبْسِ ، إذْ من المعلوم أنَّ الكُلَّ لَسْنَ مشتركاتٍ{[6546]} في نفسٍ واحدةٍ ، ومثله : قَرَّ الزيدون عيناً ، كقوله :
{ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } [ هود : 77 ] وقيل : لَفْظُهَا واحد ومعناها جمع ، ويجوز " أنفساً " " وأعيناً " وَلاَ بُدَّ مِنَ التعرُّض لقاعدةٍ يَعُمُّ نفعها ، وهي أنَّه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصبٍ عن تمام الكلام فلا يخلو : إمَّا أن يكون موافقاً لما قبله في المعنى ، أو مخالفاً له ، فإن كان الأوَل وَجَبَتْ مطابقةُ التَّمييز لما قبله نحو : كَرُمَ الزيدون رجالاً ، كما يطابقهُ خبراً وصفةً وحالاً .
وإن كان الثاني : فإمَّا أن يكونَ مفرد المدلول أو مختلفة ، فإن كان مفردَ المدلول وَجَبَ إفرادُ التمييز كقولك في أبناء رجل واحد : كَرُمَ بنو زيدٍ أباً أو أصلاً ، أي : إنَّ لهم جميعهم أباً واحداً متصفاً بالكرمِ ، ومثله " كَرم الأتقياءُ سَعْياً " ، إذا لم تَقصدْ بالمصدر اختلافَ الأنواع لاختلاف محالَّه ، وإنْ كَانَ مختلفَ المدلول : فإما أن يُلبِسَ إفرادُ التمييز لو أُفرد أولاً ، فإن ألْبَسَ وَجَبَت المطابقُ نحو : كَرُمَ الزيدون آباء ، أي : أن لكل واحد أباً غير أب الآخر يتصفُ بالكرمِ ، ولو أفردت هنا لَتُوُهِّم أنهم كلَّهم بنو أبٍ واحد ، والغرضُ خلافه ، وإنْ لم يُلبس جاز الأمران المطابقة والإفراد ، وهو الأوْلى ، ولذلك جاءت عليه الآية الكريمةُ ، وحكمُ التثنية في ذلك كالجمع ، وَحَسَّنَ الإفرادَ هاهنا أيضاً ما تقدَّم مِن مُحَسِّنِ{[6547]} تذكير الضمير وإفراده في " منه " ، وهو أنَّ المعنى : فإن طابت كُلُّ واحدة نفساً .
وقال بعض البصريين : " إنَّما أفرد ؛ لأن المراد بالنفس هنا الهوى ، والهوى مصدر ، والمصادر لا تُثَنَّى ولا تجمع " .
وقال الزَّمخشريُّ : و " نَفْساً " تمييزٌ ، وتوحيدُها ؛ لأن الغرضَ بيانُ الجنس والواحد يدل عليه . ونحا أبو البَقاءِ نَحْوهُ ، وشَبَّهَهُ ب " درهماً " في قولك : عشرون درهماً .
واختلف النحاةُ في جوازِ تقديمِ التمييزِ على عامله إذا كان متصرفاً فمنعه سيبويه ، وأجازه المبرد وجماعة مستدلين بقوله : [ الطويل ]
أتَهْجُرُ لَيْلَى بِالفِرَاقِ حَبيبَها *** وَمَا كَانَ نَفْساً بالفراقِ تَطِيبُ{[6548]}
رَدَدْتُ بِمِثْلِ السَّيدِ نَهْدٍ مُقَلَّصٍ *** كَمِيشٍ إذَا عِطْفَاهُ مَاءً تَحَلَّبَا{[6549]}
والأصل تطيبُ نفساً ، وتحلَّبا ماء ، وفي البيتين كلامٌ طويل ليس هذا محلَّه ، وحجةُ سيبويه في منع ذلك أنَّ التَّمييز فاعل في الأصْلِ ، والفاعِلُ لا يَتَقدَّم ، فكذلك ما في قوته ، واعترضَ على هذا بنحو : زيداً ، من قولك أخرجْتُ زيداً ، فإن زيداً في الأصل فاعل قبل النَّقْل ، إذ الأصل : خرج زيدٌ والفرق لائح فالتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم . والجارّان في قوله { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ } متعلقان بالفعل قبلهما متضمناً معنى الإعراض ، ولذلك عُدِّي ب " عن " {[6550]} كأنَّهُ قيل : فَإن أعْرَضن لَكُمْ عَن شيء منه طيبات النفوس ، والفاء في " فَكُلوه " {[6551]} جواب الشرط وهي واجبة ، والفاء في " فَكُلوه " عائدة على " شيء " .
فإن قيل : لِمَ قال : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ } ولم يقل : وَهَبْنَ لَكُمْ أوْ سَمَحْنَ لَكُمْ ؟
فالجواب أنَّ المراعى وهو تجافي نفسها عن بالموهوب طيبة ]{[6552]} .
قوله : { فكلوه هنيئاً مريئاً } .
في نصب " هَنِيئاً " أربعةُ أقوال :
أحدها : أنَّه منصوبٌ على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره : أكْلاً هنيئاً .
الثاني : أنه منصوب على الحال من الهاء في " فَكلُوهُ " أي : مُهَنِّئاً ، أي سهلاً .
والثالث : أنه منصوب على الحال بفعل لا يجوز إظهاره ألبتة ؛ لأنَّهُ قصد بهذه الحال النيابةُ عن فعلها نحو : " أقائماً وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ " ، كما ينوب المصدر عن فعله نحو " سَقْياً لَهُ وَرَعْياً " .
الرابع : أنهما صفتان قامتا مقام المصدر المقصود به الدعاءُ النائب عن فعله .
قال الزَّمَخشرِيُّ : وقد يوقف على " فَكُلُوهُ " ويبتدأ ب " هنيئاً مريئاً " على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين ، كأنه قيل : " هَنْئاً مًرْءاً " .
قال أبو حيان : وهذا تحريف لكلام النُّحاة ، وتحريفه هو جَعْلهما أُقِيما مُقام المصدر ، فانتصابهما انتصابَ المصدرِ ، ولذلك قال : كَأَنَّهُ قيل : " هَنْئاً مَرْءاً " ، فصار كقولك " سٌقْياً لك " و " رَعْياً لك " ، وَيَدُلُّ على تحريفه وَصِحَّةِ قول النحاة أنَّ المصادرَ المقصودَ بها الدعاء لا ترفع الظاهر ، لا تقول : " سقياً اللَّهَ لك " ، ولا : " رعياً الله لك " ، وإنْ كَانَ ذلك جائزاً في أفعالها ، و " هنيئاً مريئاً " ، يرفعان الظاهر بدليل قوله : [ الطويل ]
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخامِرٍ *** لِعِزَّةَ مِنْ أعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ{[6553]}
ف " ما " مرفوع ب " هنيئاً " أو " مريئاً " على الإعمال ، وجاز ذلك وَإنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَاملين رَبْطٌ بِعَطْفٍ ولا غيره ؛ لأن " مريئاً " لا يستعملُ إلاَّ تابعاً ل " هنيئاً " {[6554]} فكأنَّهما عاملٌ واحد .
ولو قلت : " قام قعد زيد " لم يكن من الإعمال إلاَّ على نِيَّة حرف العطف . انتهى .
إلاَّ أن عبارة سيبويه فيها ما يُرْشِدُ لِما قاله الزَّمخشريُّ ، فإنه قال : هنيئاً مَرِيئاً صِفَتَانِ نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل المذكور غير المستعمل إظهارُهُ المختزل لدلالة الكلام عليه ، كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئاً مريئاً ، فَأوَّلُ العبارة يُساعِدُ الزمخشري ، وآخرها وهو تقديره بقوله : كأنهم قالوا : ثَبَتَ هنيئاً ، يُعَكِّر عليه ، فعلى القولين الأوَّلين يكُون " هَنيئاً مَريئاً " متعلقين بالجملة قبلهما لفظاً ومعنى ، وعلى الآخرين مقتطعين{[6555]} لفظاً ؛ لأنَّ عاملهما مُقَدَّر من جُملةٍ أخرى كما تقدم تقريره .
واختلف النحويون في قولك لمن قال : أصاب فلان{[6556]} خيراً هنيئاً مريئاً له ذلك . هل " ذلك " مرفوع بالفعل المقدر ، وتقديره : ثبت له ذلك هنيئاً ، فحذف " ثبت " وقام " هنيئاً " مقامه الذي هو حال أو مرفوع ب " هنيئاً " نفسه ؛ لأنه لمَّا قَامً مقامَ الفعلِ رَفَع ما كان الفعل يرفعه ، كما أن قولك : " زَيْدٌ في الدَّارِ " " في الدار " ضمير كان مستتراً{[6557]} في الاستقرار فلما حذف الاستقرار ، وقام الجار مقامه رفع الضمير [ المستتر ]{[6558]} الذي كان فيه ، وقد ذهب إلى الأول السيرافي وجعل في " هنيئاً " ضميراً عائداً على " ذلك " ، وذهب إلى الثاني أبو علي ، وجعل " هنيئاً " فارغاً من الضمير لرفعه الاسمَ الظاهر ، وَإذا قُلْتَ : " هَنِيئاً " وَلَمْ تَقُلْ " ذلك " فعلى مذهب السيرافي يكون في " هَنِيئاً " ضمير عائدٌ على ذِي الْحَالِ ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في " ثبت " المحذوفِ ، وعلى مذهب الفارسي يكون في " هنيئاً " ضمير فاعل بها ، وهو الضميرُ المستتر الذي كان فاعلاً ل " ثبت " ، ويكون " هنيئاً " قد قام مقام الفعل المحذوف فارغاً من الضمير .
وأما نصب " مريئاً " ففيه خمسة أوجه :
أحدها : أنَّهُ صِفَةٌ ل " هنيئاً " وإليه ذَهَبَ الحوفي .
والثاني : أنَّه انتصب انتصاب " هنيئاً " ، وقد تقدَّم ما فيه من الأوجه ، ومنع{[6559]} الفارسي كونه صفة ل " هنيئاً " {[6560]} قال : لأنَّ هنيئاً قام مقام الفعل ، والفعل لا يوصف ، فكذا{[6561]} ما قام مَقَامَهُ ، ويؤيد ما قاله الفارسيُّ أنَّ اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المبالغة والمصادر إذا وُصِفت لم تَعْمَل عمل الفعل ، ولم تستعمل " مريئاً " إلا تابعاً ل " هنيئاً " ، ونقل بعضهم أنه قد يجيء [ غير ] تابع{[6562]} وهو مردود ؛ لأن العرب لم تَستَعْمِله إلاَّ تابعاً ، وهل " هَنِيئاً مريئاً " في الأصل اسما فاعل على زنة المَبَالَغَة ؟ أم هما مصدران جاءا على وزن فَعِيلٍ ، كالصَّهيلِ والهدير ؟ خلاف .
نقل أبُو حَيَّان القول الثاني عن أبي البَقَاءِ قال : وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على خلاف وزن " فعيل " ، كالصَّهيل والهدير ، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر . انتهى .
وأبو البقاء في عبارته إشْكَالٌ ، فلا بد من التعرض إليها ليُعرف ما فيها ، قال : " هنيئاً " مصدر جاء على وزن " فَعِيل " ، وهو نعت لمصدر محذوفٍ ، أي : أكْلاً هنيئاً ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال من الهاء ، والتقدير مُهَنَّأً{[6563]} ، و " مريئاً " مثله ، والمريءُ فعيل بمعنى مُفْعِل ، لأنَّك تقول : " أمْرَأَنِي الشَّيْء " ، ووجه الإشكال : أنَّه بعد الحكم عليهما{[6564]} بالمصدريَّة كيف يجعلهما [ حالاً ]{[6565]} وصفين لمصدر محذوف ؟ وكيف يفسر " مريئاً " المصدر بمعنى اسم الفاعل ؟
ذهب الزمخشري إلى أنَّهُمَا وصفان قال : " فإنَّ الهنيءَ والْمَريءَ صفتان من هَنُؤ الطعام ومَرُؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص{[6566]} فيه " . انتهى .
وَهَنَا يَهْنَا بغير همز{[6567]} - لغة ثانية أيضاً ، وقرأ{[6568]} أبو جعفر : " هنيّاً مريّاً " ، بتشديد الياء فيهما من غير همزة ، كذلك " بري " و " بريون " {[6569]} و " بريَّا " ، ويقال : هَنَأَني الطعامُ ومرأني ، وإن أفردت " مَرَأنِي " لم يستعمل إلا رباعيّاً فتقول : " أمْرَأني " ، وإنَّما استعمل ثلاثياً للتَّشاكل مع " هَنَأني " ، وهذا كما قالوا : أخَذَهُ ما قَدُمَ{[6570]} وَمَا حَدُثَ ، بضم الدَّال من " حدث " مشاكلة ل " قَدُمَ " {[6571]} ، ولو أُفرد لم يستعمل إلاَّ مفتوح الدال ، وله نظائر أخر ، ويقال : هَنَأتُ الرجل أهْنِئُهُ بكسر العين في المضارع أي : أعطيته . واشتقاق الهنيء من الهِناء ، وهو ما{[6572]} يُطْلَى به البعير للجرب كالقطران قال : [ الكامل ]
مُتَبَذِّلاً تَبْدُو مَحَاسِنُهُ *** يَضَعُ الْهَنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ{[6573]}
والمريءُ مَا سَاغَ وَسَهُلَ من الحق ، ومنه قِيل لمجرى الطَّعَام من الحُلْقُوم إلى فم المعدة : مَرِيء .
دَلَّت الآية الكريمة على أمور :
منها أنَّ المهر لها ولا حق للولي فيه .
ومنها جواز هبتها للمهر قبل القبضِ ؛ لأن اللَّه تعالى لم يفرق بين الحالين .
فإن قيل : قوله : { فكلوه هنيئاً مريئاً } يتناول ما إذا كان المهر عيناً ، أما إذا كان ديناً فالآية غير متناولة له{[6574]} لأنَّهُ لا يقال لما في الذمة كُلْهُ هَنِيئاً مريئاً .
فالجواب أن المراد بقوله " هنيئاً مريئاً " ليس نفس الأكل ، بل المراد منه كل التصرفات{[6575]} ، وإنما خَصَّ الأكل بالذكر ، لأنَّهُ معظم المقصود من المال لقوله
{ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً } { النساء : 10 ] وقوله : { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [ النساء : 29 ] .
قال بعض العلماء : إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة ، علم أنها لم تطب عنه نفساً ، وعن الشعبي : أن امرأة جاءت مع زوجها إلى شُريح في عَطِيَّة أعْطَتْهَا إيَّاهُ ، وَهِيَ تطلب الرجوع ، فقال شُرَيْح : رُدَّ عَلَيْهَا{[6576]} ، فقال الرجل : أليس قد قال الله تعالى { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ } ، فقال : لو طابت نفسها عنه ما رجعت فيه{[6577]} .
وروي عنه أيضاً : أقيلها فيما وهبت ولا أقيله ؛ لأنهن يخدعن{[6578]} .
وَرُوِيَ أنَّ رجلاً من آل أبي معيطٍ أعطته امرأته ألف دينار صداقاً كان لها عليه ، فلبثت شهراً ثم طلقها ، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان ، فقال الرَّجُلُ : أعْطَتْنِي طيبة به نفسها ، فقال عبدُ الملك : فإن{[6579]} الآية التي بَعْدَهَا { فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً }
[ النساء : 20 ] أردد عليها{[6580]} .
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كتب إلى قُضاتِه : إن النساءَ يُعْطين رَغْبَةً ورهبة ، وَأَيُّمَا امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها{[6581]} .