المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓـٔٗا مَّرِيٓـٔٗا} (4)

وقوله : { وءاتوا النساء صدقاتهن نحلة } قال ابن عباس وقتادة وابن جريج : إن الخطاب في هذه الآية للأزواج ، أمرهم الله أن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم ، وقال أبو صالح : الخطاب لأولياء النساء ، لأن عادة بعض العرب كانت أن يأكل ولي المرأة مهرها ، فرفع الله ذلك بالإسلام وأمر بأن يدفع ذلك إليهن ، وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه : زعم حضرمي أن المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى ، فأمروا أن يضربوا المهور .

قال القاضي أبو محمد : والآية تتناول هذه الفرق الثلاث ، قرأ جمهور الناس والسبعة «صَدٌقاتهن » بفتح الصاد وضم الدال ، وقرأ موسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم «صُدُقاتهن » بضم الصاد والدال ، وقرأ قتادة وغيره «صُدْقاتهن » بضم الصاد وسكون الدال ، وقرأ ابن وثاب والنخعي «صدقتهن » بالإفراد وضم الصاد وضم الدال . والإفراد من هذا صدَقة . و { نحلة } : معناه : نحلة منكم لهن أي عطية ، وقيل التقدير : من الله عز وجل لهن ، وذلك لأن الله جعل الصداق{[3853]} على الرجال ولم يجعل على النساء شيئاً ، وقيل { نحلة } معناه : شرعة ، مأخوذ من النحل تقول : فلان ينتحل دين كذا ، وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء ، ويتجه مع سواه ، ونصبها على أنها من الأزواج بإضمار فعل من لفظها ، تقديره - أنحلوهن نحلة ، ويجوز أن يعمل الفعل الظاهر ، وإن كان من غير اللفظ لأنه مناسب للنحلة في المعنى ونصبها على أنها من الله عز وجل بإضمار فعل مقدر من اللفظ لا يصح غير ذلك ، وعلى أنها شريعة هي أيضاً من الله وقوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } الخطاب حسبما تقدم من الاختلاف في الأزواج والأولياء ، والمعنى : إن وهبن غير مكرهات طيبة نفوسهن ، والضمير في { منه } راجع على الصداق ، وكذلك قال عكرمة وغيره ، أو على الإيتاء ، وقال حضرمي : سبب الآية أن قوماً تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات ، و { نفساً } نصب على التمييز ، ولا يجوز تقدمه على العامل عند سيبويه إلا في ضرورة شعر مع تصرف العامل ، وإجازة غيره في الكلام .

ومنه قول الشاعر{[3854]} [ المخبل السعدي ] : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وما كان نفساً بالفراق تطيب . و_من - تتضمن الجنس ها هنا ، ولذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو وقفت «من » على التبعيض لما جاز ذلك ، وقرىء «هنياً مرياً » دون همز ، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن والزهري ، قال الطبري : ومن هناء البعير أن يعطي الشفاء .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وإنما قال اللغويون : الطعام الهنيء هو السائغ المستحسن الحميد المغبة ، وكذلك المريء ، قال اللغويون : يقولون هنأني الطعام ومرأني على الإتباع ، فإذا أفردوا قالوا : أمرأني على وزن أفعل . قال أبو علي : وهذا كما جاء في الحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات »{[3855]} فإنما اعتلت الواو من موزورات إتباعاً للفظ مأجورات ، فكذلك مرأني اتباعاً لهنأني ، ودخل رجل على علقمة - وهو يأكل شيئاً مما وهبته امرأته من مهرها - فقال له : كل من الهنيء المريء ، قال سيبويه ؛ { هنيئاً مريئاً } صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره ، المختزل للدلالة التي في الكلام عليه ، كأنهم قالوا : ثبت ذلك «هنيئاً مريئاً » .


[3853]:- صداق عند المازني بكسر الصاد قال: ولا يقال بالفتح، وروي عن النحاس بالفتح.
[3854]:- هو المخبل السعدي، واسمه ربيعة بن مالك (الشعر والشعراء: 333، والخزانة 2/536- والإصابة 2/218)- وصدر البيت: أتهجر ليلى بالفراق حبيبها؟
[3855]:- حديث صحيح أخرجه ابن ماجه (عن علي)، انظر الجامع الصغير 1/37.