البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحۡلَةٗۚ فَإِن طِبۡنَ لَكُمۡ عَن شَيۡءٖ مِّنۡهُ نَفۡسٗا فَكُلُوهُ هَنِيٓـٔٗا مَّرِيٓـٔٗا} (4)

الصدقة على وزن سمرة المهر ، وقد تسكن الدال ، وضمها وفتح الصاد لغة أهل الحجاز .

ويقال : صدقة بوزن غرفة .

وتضم داله فيقال : صدقة وأصدقها أمهرها .

النحلة : العطية عن طيب نفس .

والنحلة الشرعة ، ونحلة الإسلام خير النحل .

وفلان ينحل بكذا أي يدين به .

هنيئاً مريئاً : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه .

ويقال : هنا يهنا بغير همز ، وهنأني الطعام ومرّأني ، فإذا لم تذكر هنأني قلت : أمرأني رباعياً ، واستعمل مع هنأني ثلاثياً للاتباع .

قال سيبويه : هنيئاً مريئاً صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل ، للدلالة التي في الكلام عليه كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئاً مريئاً انتهى .

وقال كثير :

هنيئاً مريئاً غير داء مخامر *** لعزة من أعراضنا ما استحلت

قيل : واشتقاق الهنيء من هناء البعير ، وهو الدواء الذي يطلى به من الجرب ، ويوضع في عقره .

ومنه قوله :

متبذل تبدو محاسنه *** يضع الهناء مواضع النقب

والمريء ما يساغ في الحلق ، ومنه قيل لمجرى الطعام في الحلقوم إلى فم المعدة : المريء .

{ وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } الظاهر : أن الخطاب للأزواج ، لأن الخطاب قبله لهم ، قاله : ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وابن جريج .

قيل : كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول : أرثك وترثيني فتقول : نعم .

فأمروا أن يسرعوا إعطاء المهور .

وقيل : الخطاب لأولياء النساء ، وكانت عادة بعض العرب أن يأكل ولي المرأة مهرها ، فرفع الله ذلك بالإسلام .

قاله : أبو صالح ، واختاره : الفراء وابن قتيبة .

وقيل : المراد بالآية ترك ما كان يفعله المتشاغرون من تزويج امرأة بأخرى ، وأمروا بضرب المهور قاله : حضرمي ، والأمر بإيتاء النساء صدقاتهن نحلة يتناول هذه الصور كلها .

والصدقات المهور .

قال ابن عباس وابن جريج وابن زيد وقتادة : نحلة فريضة .

وقيل : عطية تمليك قاله الكلبي والفراء .

وقيل : شرعة وديناً قاله : ابن الأعرابي .

قال الراغب : والنحلة أخص من الهبة ، إذ كل هبة نحلة ولا ينعكس ، وسمي الصداق نحلة من حيث لا يجب في مقابلته أكثر من تمتع دون عوض مالي .

ومن قال : النحلة الفريضة نظر إلى حكم الآية ، لا إلى موضوع اللفظ والاشتقاق ، والآية اقتضت إتيانهن الصداق انتهى .

ودل هذا الأمر على التحرج من التعرض لمهور النساء كما دل الأمر في : { وآتوا اليتامى أموالهم } ، وأنهما متساويان في التحريم .

ولما أذن في نكاح الأربع أمر الأزواج والأولياء باجتناب ما كانوا عليه من سنن الجاهلية .

وقرأ الجمهور صدقاتهن جمع صدقة ، على وزن سمرة .

وقرأ قتادة وغيره : بإسكان الدال وضم الصاد .

وقرأ مجاهد وموسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم : بضمها .

وقرأ النخعي وابن وثاب : صدقتهن بضمها والافراد ، وانتصب نحلة على أنه مصدر على غير الصدر ، لأن معنى : وآتوا انحلوا فالنصب فيها بآتوا .

وقيل : بانحلوهن مضمرة .

وقيل : مصدر في موضع الحال ، إما عن الفاعلين أي ناحلين ، وإما من المفعول الأول أو الثاني أي : منحولات .

وقيل : انتصب على إضمار فعل بمعنى شرع ، أي : أنحل الله ذلك نحلة ، أي شرعه شرعة وديناً .

وقيل : إذا كان بمعنى شرعة فيجوز انتصابه على أنه مفعول من أجله ، أو حال من الصدقات .

وفي قوله : وآتوا النساء صدقاتهن دلالة على وجوب الصداق للمرأة ، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن بعض أهل العراق : أن السيد إذا زوج عبده بأمته لا يجب فيه صداق ، وليس في الآية تعرض لمقدار الصداق ، ولا لشيء من أحكامه .

وقد تكلم بعض المفسرين في ذلك هنا ، ومحل الكلام في ذلك هو كتب الفقه .

{ فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } الخطاب فيه الخلاف : أهو للأزواج ؟ أو للأولياء ؟ وهو مبني على الخلاف في : وآتوا النساء .

وقال حضرمي : سبب نزولها أن قوماً تحرجوا أن يرجع إليهم شيء ما دفعوا إلى الزوجات ، والضمير في : منه ، عائد على الصداق قاله : عكرمة .

إذ لو وقع مكان صدقاتهن لكان جائزاً وصار شبيهاً بقولهم : هو أحسن الفتيان وأجمله لصلاحية ، هو أحسن فتى .

قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد ، فيكون متناولاً بعضه .

فلو أنث لتناول ظاهرة هبة الصداق كله ، لأن بعض الصدقات واحد منها فصاعداً انتهى .

وأقول : حسن تذكير الضمير ، لأن معنى : فإن طبن ، فإن طابت كل واحدة ، فلذلك قال منه أي : من صداقها ، وهو نظير : { واعتدت لهن متكأ } أي لكل واحدة ، ولذلك أفرد متكأ .

وقيل : يعود على صدقاتهن مسلوكاً به مسلك اسم الإشارة ، كأنه قيل عن شيء من ذلك .

واسم الإشارة وإن كان مفرداً قد يشار به إلى مجموع كقوله : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } وقد تقدّمت عليه أشياء كثيرة .

وقيل : لرؤبة كيف قلت : كأنه في الجلد توليع البهق ، وقد تقدم ، فيها خطوط من سواد وبلق .

فقال : أردت كان ذاك .

وقيل : يعود على المال ، وهو غير مذكور ، ولكن يدل عليه صدقاتهن .

وقيل : يعود على الإيتاء وهو المصدر الدال عليه : وآتوا ، قاله الراغب ، وذكره ابن عطية .

ويتعلق المجروران بقوله : طبن ، ومنه في موضع الصفة لشيء ، فيتعلق بمحذوف ، وظاهر من التبعيض .

وفيه إشارة إلى أن ما تهبه يكون بعضاً من الصداق ، ولذلك ذهب الليث بن سعد إلى أنه لا يجوز تبرعها له إلا باليسير .

وقال ابن عطية : ومن تتضمن الجنس هاهنا .

وكذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك .

وانتصب نفساً على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من الفاعل .

وإذا جاء التمييز بعد جمع وكان منتصباً عن تمام الجملة ، فإما أن يكون موافقاً لما قبله في المعنى ، أو مخالفاً فإن كان موافقاً طابقه في الجمعية نحو : كرم الزيدون رجالاً ، كما يطابق لو كان خبراً ، وإن كان مخالفاً ، فإما أن يكون مفرداً لمدلول أو مختلفه ، إن كان مفرداً لمدلول لزم إفراد اللفظ الدال كقولك في أبناء رجل واحد : كرم بنو فلان أصلاً وأباً .

وكقولك : زكاة الأتقياء ، وجاد الأذكياء وعياً .

وذلك إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محاله .

وإن كان مختلف المدلول ، فإما أن يلبس أفراده لو أفرد ، أو لا يلبس .

فإن ألبس وجبت المطابقة نحو : كرم الزيدون آباء ، أي : كرم آباء الزيدين .

ولو قلت : كرم الزيدون أباً ، لأوهم أن أباهم واحد موصوف بالكرم .

وإن لم يلبس جاز الإفراد والجمع .

والإفراد أولى ، كقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً إذ معلوم أن لكل نفساً ، وإنهن لسن مشتركات في نفس واحدة .

وقرّ الزيدون عيناً ، ويجوز أنفساً وأعيناً .

وحسن الإفراد أيضاً في الآية ما ذكرناه قبل من محسن تذكير الضمير وإفراده ، وهو أن المعنى : فإن طابت كل واحدة عن شيء منه نفساً .

وقال بعض البصريين : أراد بالنفس الهوى .

والهوى مصدر ، والمصادر لا تثنى ولا تجمع .

وجواب الشرط : فكلوه ، وهو أمر إباحة .

والمعنى : فانتفعوا به .

وعبر بالأكل لأنه معظم الانتفاع .

وهنيئاً مريئاً أي : شافياً سائغاً .

وقال أبو حمزة : هنيئاً لا إثم فيه ، مريئاً لأداء فيه .

وقيل : هنيئاً لذيذاً ، مريئاً محمود العاقبة .

وقيل : هنيئاً مريئاً أي ما لا تنغيص فيه .

وقيل : ما ساغ في مجراه ولا غص به من تحساه .

وقيل : هنيئاً مريئاً أي : حلالاً طيباً .

وقرأ الحسن والزهري : هنياً مرياً دون همزة ، أبدلوا الهمزة التي هي لام الكلمة ياء ، وأدغموا فيها ياء المدّ .

وانتصاب هنيئاً على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : فكلوه أكلاً هنيئاً ، أو على أنه حال من ضمير المفعول ، هكذا أعربه الزمخشري وغيره .

وهو قول مخالف لقول أئمة العربية ، لأنه عند سيبويه وغيره : منصوب بإضمار فعل لا يجوز إظهاره .

وقد ذكرنا في المفردات نص سيبويه على ذلك .

فعلى ما قاله أئمة العربية يكون هنيئاً مريئاً من جملة أخرى غير قوله : فكلوه هنيئاً مريئاً ، ولا تعلق له به من حيث الإعراب ، بل من حيث المعنى .

وجماع القول في هنيئاً : أنها حال قائمة مقام الفعل الناصب لها .

فإذا قيل : إن فلاناً أصاب خيراً فقلت هنيئاً له ، ذلك فالأصل ثبت له ذلك هنيئاً فحذف ثبت ، وأقيم هنيئاً مقامه .

واختلفوا إذ ذاك فيما يرتفع به ذلك .

فذهب السيرافي إلى أنه مرفوع بذلك الفعل المختزل الذي هو ثبت ، وهنيئاً حال من ذلك ، وفي هنيئاً ضمير يعود على ذلك .

وإذا قلت : هنيئاً ولم تقل له ذلك ، بل اقتصرت على قولك : هنيئاً ، ففيه ضمير مستتر يعود على ذي الحال ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في ثبت المحذوفة .

وذهب الفارسي إلى أن ذلك إذا قلت : هنيئاً له ، ذلك مرفوع بهنيئاً القائم مقام الفعل المحذوف ، لأنه صار عوضاً منه ، فعمل عمله .

كما أنك إذا قلت : زيد في الدار ، رفع المجرور الضمير الذي كان مرفوعاً بمستقر ، لأنه عوض منه .

ولا يكون في هنيئاً ضمير ، لأنه قد رفع الظاهر الذي هو اسم الإشارة .

وإذا قلت : هنيئاً ففيه ضمير فاعل بها ، وهو الضمير فاعلاً لثبت ، ويكون هنيئاً قد قام مقام الفعل المختزل مفرعاً من الفعل .

وإذا قلت : هنيئاً مريئاً ، فاختلفوا في نصب مريء .

فذهب بعضهم : إلى أنه صفة لقولك هنيئاً ، وممن ذهب إلى ذلك الحوفي .

وذهب الفارسي : إلى أن انتصابه انتصاب قولك هنيئاً ، فالتقدير عنده : ثبت مريئاً ، ولا يجوز عنده أن يكون صفة لهنيئاً ، من جهة أنَّ هنيئاً لما كان عوضاً من الفعل صار حكمه حكم الفعل الذي ناب منابه ، والفعل لا يوصف ، فكذلك لا يوصف هو .

وقد ألمّ الزمخشري بشيء مما قاله النحاة في هنيئاً لكنه حرفه فقال بعد أن قدّم أن انتصابه على أنه وصف للمصدر ، أو حال من الضمير في فكلوه أي : كلوه وهو هنيء مريء .

قال : وقد يوقف على فكلوه ، ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء ، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدر ، كأنه قيل : هنئاً مرئاً انتهى .

وتحريفه أنه جعلهما أقيما مقام المصدر ، فانتصابهما على هذا انتصاب المصدر ، ولذلك قال : كأنه قيل هنأ مرأ ، فصار كقولك : سقياً ورعياً ، أي : هناءة ومراءة .

والنحاة يجعلون انتصاب هنيئاً على الحال ، وانتصاب مريئاً على ما ذكرناه من الخلاف .

إما على الحال ، وإما على الوصف .

ويدل على فساد ما حرفه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع الأسماء الظاهرة بعد هنيئاً مريئاً ، ولو كانا ينتصبان انتصاب المصادر .

والمراد بها : الدعاء .

أجاز ذلك فيها تقول : سقياً لك ورعياً ، ولا يجوز سقياً الله لك ، ولا رعياً الله لك ، وإن كان ذلك جائزاً في فعله فتقول : سقاك الله ورعاك .

والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدها قول الشاعر :

هنيئاً مريئاً غير داء مخامر *** لعزة من أعراضنا ما استحلت

فما : مرفوع بما تقدّم من هنيء أو مريء .

أو بثبت المحذوفة على اختلاف السيرافي وأبي عليّ على طريق الأعمال .

وجاز الأعمال في هذه المسألة وإن لم يكن بينهما رابط عطف ، لكون مريئاً لا يستعمل إلا تابعاً لهنيئاً ، فصارا كأنهما مرتبطان لذلك .

ولو كان ذلك في الفعل لم يجز لو قلت : قام خرج زيد ، لم يصح أن يكون من الأعمال إلا على نية حرف العطف .

وذهب بعضهم : إلى أنّ مريئاً يستعمل وحده غير تابع لهنيئاً ، ولا يحفظ ذلك من كلام العرب ، وهنيئاً مريئاً اسماً فاعل للمبالغة .

وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءآ على وزن فعيل ، كالصهيل والهدير ، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر .

وظاهر الآية يدل على أنّ المرأة إذا وهبت لزوجها شيئاً من صداقها طيبة بها نفسها غير مضطرة إلى ذلك بإلحاح أو شكاسة خلق ، أو سوء معاشرة ، فيجوز له أن يأخذ ذلك منها ويتملكه وينتفع به .

ولم يوقت هذا التبرع بوقت ، ولا استثناء فيه رجوع .

وذهب الأوزاعي : إلى أنه لا يجوز تبرعها ما لم تلد ، أو تقم في بيت زوجها سنة ، فلو رجعت بعد الهبة فقال شريح وعبد الملك بن مروان : لها أن ترجع .

وروى مثله عن عمر .

كتب عمر إلى قضاته : أن النساء يعطين رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أعطت زوجها ثم أرادت أن ترجع فلها ذلك .

قال شريح : لو طابت نفسها لما رجعت .

وقال عبد الملك : قال تعالى : { فلا تأخذوا منه شيئاً } وكلا القولين خلاف الظاهر من هذه الآية .

وفي تعليق القبول على طيب النفس ذون لفظة الهبة أو الإسماح ، دلالة على وجوب الاحتياط في الأخذ ، وإعلام أنّ المراعى هو طيب نفسها بالموهوب .

وفي قوله : هنيئاً مريئاً مبالغة في الإباحة والقبول وزوال التبعة .

/خ10