ثم رخص الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال :{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم } أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم ، { وتقسطوا إليهم } تعدلوا فيهم بالإحسان والبر ، { إن الله يحب المقسطين } قال ابن عباس : نزلت في خزاعة كانوا قد صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً ، فرخص الله في برهم . وقال عبد الله بن الزبير : نزلت في أسماء بنت أبي بكر ، وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها بالمدينة بهدايا ، ضباباً وأقطاً وسمناً ، وهي مشركة ، فقالت أسماء : لا أقبل منك هدية ولا تدخلي علي بيتي حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها وتقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة ، حدثنا حاتم عن هشام ابن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : " قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم مع أبيها فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها ؟ قال : " صليها " . وروي عن ابن عيينة قال : فأنزل الله فيها ، { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } .
وقوله تعالى : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين ، كالنساء والضعفة منهم ، { أَنْ تَبَرُّوهُمْ } أي : تحسنوا إليهم { وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } أي : تعدلوا { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر ، عن أسماء - هي بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما - قالت : قَدَمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا ، فأتيتُ النبي{[28676]} صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إن أمي قدمت وهي راغبة ، أفأصلها ؟ قال : " نعم ، صلي أمك " أخرجاه{[28677]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مصعب بن ثابت ، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه قال : قدمت قُتَيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا : صِنَاب وأقط{[28678]} وسمن ، وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها تدخلها بيتها ، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ، عز وجل : { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } إلى آخر الآية ، فأمرها أن تقبل هديتها ، وأن تدخلها بيتها .
وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث مصعب بن ثابت ، به {[28679]} . وفي رواية لأحمد وابن{[28680]} جرير : " قُتَيلة بنت عبد العزي بن [ عبد ] {[28681]} أسعد ، من بني مالك بن حسل{[28682]} . وزاد ابن أبي حاتم : " في المدة التي كانت بين قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم " .
وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو قتادة العدوي ، عن ابن أخي الزهري ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة وأسماء أنهما قالتا : قدمت علينا أمنا المدينة ، وهي مشركة ، في الهدنة التي كانت بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : يا رسول الله ، إن أمنا قدمت علينا المدينة راغبةً ، أفنصلها ؟ قال : " نعم ، فَصِلاها " {[28683]} .
ثم قال : وهذا الحديث لا نعلمه يروي عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة إلا من هذا الوجه .
قلت : وهو منكر بهذا السياق ؛ لأن أم عائشة هي أم رومان ، وكانت مسلمة مهاجرة وأم أسماء غيرها ، كما هو مصرح باسمها في هذه الأحاديث المتقدمة والله أعلم .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } تقدم تفسير ذلك في سورة " الحجرات " ، وأورد الحديث الصحيح : ( المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم ، وأهاليهم ، وما وَلُوا ) {[28684]} .
اختلف الناس في هؤلاء الذين لم ينه عنهم أن يبروا من هم . فقال مجاهد : هم المؤمنون من أهل مكة الذين آمنوا ولم يهاجروا وكانوا لذلك في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة ، وقال آخرون : أراد المؤمنين التاركين للهجرة كانوا من أهل مكة ومن غيرها . وقال الحسن وأبو صالح : أراد خزاعة وبني الحارث بن كعب ، وقبائل من العرب كفارا إلا أنهم كانوا مظاهرين للنبي صلى الله عليه وسلم محبين فيه وفي ظهوره ، ومنهم كنانة وبنو الحارث بن عبد مناف ومزينة ، وقال قوم : أراد من كفار قريش من لم يقاتل : ولا أخرج ولا أظهر سوءاً ، وعلى هذين القولين فالآية منسوخة بالقتال ، وقال عبد الله بن الزبير : أراد النساء والصبيان من الكفرة ، وقال إن الآية نزلت بسبب أم أسماء حين استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في برها وصلتها فأذن لها ، وكانت المرأة خالتها فيما روي فسمتها في حديثها أماً ، وقال أبو جعفر بن النحاس والثعلبي : أراد المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة ، وهذا قول ضعيف . وقال مرة الهمداني وعطية العوفي : نزلت في قوم من بني هاشم ، منهم العباس ، قال وقتادة نسختها { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[11049]} [ التوبة : 5 ] . وقوله تعالى : { أن تبروهم } بدل ، وهذا هو بدل الاشتمال ، والإقساط : العدل .