قوله تعالى : { ووضع الكتاب } يعني : كتب أعمال العباد توضع في أيدي الناس ، في أيمانهم وشمائلهم ، وقيل : معناه يوضع بين يدي الله تعالى{ فترى المجرمين مشفقين } خائفين { مما فيه } من الأعمال السيئة { ويقولون } إذا رأوها { يا ويلتنا } يا هلاكنا . الويل و الويلة : الهلكة ، وكل من وقع في هلكة دعا بالويل ، ومعنى النداء تنبيه المخاطبين { مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً } من ذنوبنا . قال ابن عباس : الصغيرة : التبسم ، والكبيرة : القهقهة . وقال سعيد بن جبير : الصغيرة ) : اللمم ، واللمس ، والقبلة ، والكبيرة : الزنا . { إلا أحصاها } عدها . قال السدي : كتبها وأثبتها . قال مقاتل بن حيان : حفظها .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني ، أنبأنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو بن بسطام ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن يسار القرشي ، ثنا يوسف بن عدي المصري ، ثنا أبو ضمرة أنس بن عياض ، عن أبي حازم قال : لا أعلمه إلا عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود ، وجاء هذا بعود ، فأنضجوا خبزتهم ، وإن محقرات الذنوب لموبقات " .
قوله تعالى : { ووجدوا ما عملوا حاضراً } مكتوباً مثبتاً في كتابهم { ولا يظلم ربك أحداً } أي : لا ينقص ثواب أحد عمل خيراً . وقال الضحاك : لا يؤاخذ أحداً بجرم لم يعمله . وقال عبد الله بن قيس : يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما العرضتان : فجدال ومعاذير ، وأما العرضة الثالثة : فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه ، وآخذ بشماله ، ورفعه بعضهم عن أبي موسى .
وقوله : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أي : كتاب الأعمال ، الذي فيه الجليل والحقير ، والفتيل والقطمير ، والصغير والكبير { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } أي : من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة ، { وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا } أي : يا حسرتنا وويلنا{[18236]} على ما فرطنا في أعمارنا { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا } أي : لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا ولا عملا وإن صغر { إِلا أَحْصَاهَا } أي : ضبطها ، وحفظها .
وروى الطبراني ، بإسناده المتقدم في الآية قبلها ، إلى سعد ابن جنادة قال : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حُنَيْن ، نزلنا قفرًا من الأرض ، ليس فيه شيء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اجمعوا ، من وجد عُودًا فليأت به ، ومن وجد حطبًا أو شيئًا فليأت به . قال : فما كان إلا ساعة حتى جعلناه رُكامًا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذا ؟ فكذلك تُجْمَع الذنوب على الرجل منكم كما جَمَعْتُم هذا . فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، فإنها مُحْصَاة عليه " {[18237]}
وقوله : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } أي : من خير أوشر كما قال تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } [ آل عمران : 30 ] ، وقال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] وقال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] أي : تظهر المخبآت والضمائر .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل غادر لواء يومَ القيامة [ يعرف به " {[18238]} .
أخرجاه في الصحيحين ، وفي لفظ : " يُرْفَع لكل غادر لواء يومَ القيامة ]{[18239]} عند استه بقدر غَدْرته ، يقال : هذه غَدْرَة فلان بن فلان " {[18240]}
وقوله : { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } أي : فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعًا ، ولا يظلم أحدا من خلقه ، بل يعفر{[18241]} ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء ، بقدرته وحكمته وعدله ، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي ، [ ثم ينجي أصحاب المعاصي ]{[18242]} ويُخلَّد فيها الكافرون{[18243]} وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم ، قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] وقال : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] والآيات في هذا{[18244]} كثيرة .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن القاسم بن عبد الواحد المكي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتريت بعيرًا ثم شددت عليه رَحْلي ، فسرت عليه شهرًا ، حتى قدمت عليه الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس{[18245]} فقلت للبواب : قل له : جابر على الباب . فقال : ابن عبد الله ؟ فقلت : نعم . فخرج يطأ ثوبه ، فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص ، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسَمَعه فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشُر الله ، عز وجل الناس يوم القيامة - أو قال : العبادَ - عُرَاةَ غُرْلا بُهْمًا " قلت : وما بهمًا ؟ قال : " ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد ، كما يسمعه من قَربَ : أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ، وله عند أحد من أهل الجنة حق ، حتى أقصه{[18246]} منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، وله عند رجل من أهل النار حق ، حتى أقصه{[18247]} منه حتى اللطمة " . قال : قلنا : كيف ، وإنما نأتي الله ، عز وجل ، حفاة عُراة غُرْلا بُهْمًا ؟ قال : بالحسنات والسيئات " {[18248]} .
وعن شعبة ، عن العوام بن مُزَاحم ، عن أبي عثمان ، عن عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة " {[18249]} رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر ، وقد ذكرناها عند قوله : { وَنَضَعُ{[18250]} الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا } [ الأنبياء : 47 ] وعند قوله تعالى : { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ الأنعام : 38 ]
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.