اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا} (49)

قوله : { وَوُضِعَ الكتاب } : العامة على بنائه للمفعول ، وزيد{[21133]} بن عليٍّ على بنائه للفاعل ، وهو الله ، أو الملك ، و " الكِتاب " منصوب مفعولاً به ، و " الكتابُ " جنس للكتب ؛ إذ من المعلوم أنَّ لكلِّ إنسانٍ كتاباً يخصُّه ، وقد تقدَّم الوقف على " مَا لهذا الكتابِ " وكيف فصلت لام الجرِّ من مجرورها خطًّا في سورة النساء عند { فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } [ النساء : 78 ] .

و " لا يُغَادِرُ " جملة حالية من " الكتاب " . والعامل الجار والمجرور ؛ لقيامه مقام الفعل ، أو الاستقرار الذي تعلق به الحال .

قوله : " إلاَّ أحْصَاهَا " في محل نصب نعتاً لصغيرة وكبيرة ، ويجوز أن تكون الجملة في موضع المفعول الثاني ؛ لأنَّ " يُغَادِرُ " بمعنى " يترك " و " يتركُ " قد يتعدَّى لاثنين ؛ كقوله : [ البسيط ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . *** فَقدْ تَركْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشبِ{[21134]}

في أحد الوجهين .

روى أبو هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : " يُحشَرُ النَّاس على ثلاثِ طرائقَ رَاغبينَ رَاهبينَ ، فاثْنانِ على بَعيرٍ ، وثَلاثةٌ على بَعيرٍ ، وأرْبعةٌ على بَعيرٍ ، وعَشرةٌ على بَعيرٍ ، وتَحشُرُ بقيَّتهُم النَّارُ ، تَقيلُ مَعهُمْ ، حَيْثُ قَالُوا ، وتَبِيتُ معهم ؛ حيث باتوا ، وتُصْبِحُ معهم ، حيث أصبحُوا ، وتمسي معهم ، حيث أمسوا " {[21135]} .

وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : " قلت : يا رسول الله كيف يُحْشَر النَّاسُ يوم القِيامة ؟ قال : حُفاةً عُراةً ، قالت : قلتُ : والنِّساء ؟ قال : والنِّساء ، قالت : قلت : يا رسول الله ، أستحي ، قال : يا عائشة ، الأمر أشدُّ من ذلك ؛ أن يهمهم أن ينظر بعضهم لبعض " {[21136]} .

ووضع الكتابُ ، يعني كتب أعمال العباد ، توضع في أيدي الناس في أيمانهم .

وقيل : توضعُ بين يدي الله عزَّ وجلَّ ، { فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ } خائفين { مِمَّا فِيهِ } في الكتاب من الأعمال الخبيثة ، كيف تظهر لأهل الموقف ، فيفتضحون { وَيَقُولُونَ } إذا رأوها : { ياويلتنا } يا هلاكنا ، والويلُ والويلة : الهلكة ، وكأنَّ كلَّ من وقع في مهلكة ، دعا بالويل ، ومعنى النِّداء تنبيه المخاطبين .

{ مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } من ذنوبنا .

قال ابن عباس : الصَّغيرة : التبسُّم ، والكبيرة : القهقهة{[21137]} .

قال سعيد بن جبير : الصغيرة : اللَّمم ، [ والمسُّ ، و القبلة ]{[21138]} ، والكبيرة : الزِّنا{[21139]} .

{ إِلاَّ أَحْصَاهَا } وهو عبارة عن الإحاطة ، أي : ضبطها وحصرها ، وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة ، على تقدير أنَّ المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة .

قال - عليه الصلاة والسلام - : " إيَّاكُم ومحقِّرات الذنوب ؛ فإنَّما مثلُ محقِّرات الذنوب ؛ مثل قوم نزلوا ببطنِ وادٍ ، فجاء هذا بعودٍ ، وجاء هذا بعودٍ ، وجاء هذا بعودٍ ، حتَّى أنضجوا خبزتهم ، وإنَّ محقِّراتِ الذنوب لموبقاتٌ " {[21140]} .

{ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } مكتوباً في الصَّحيفة .

{ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } لا ينقص ثواب أحدٍ عمل خيراً .

وقال الضحاك : لم يؤاخذ أحداً بجرم لم يعمله{[21141]} .

فصل في الرد على المجبرة

قال الجبائي{[21142]} : هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة في مسائل :

أحدها : أنه لو عذَّب عباده من غير ذنب صدر منهم ، لكان ظالماً .

وثانيها : أنه لا يعذِّب الأطفال بغير ذنب .

وثالثها : بطلان قولهم : لله أن يفعل ما شاء ، ويعذِّب من غير جرم ؛ لأنَّ الخلق خلقه ، إذ لو كان كذلك ، لما كان لنفي الظلم عنه معنى ؛ لأنَّ بتقدير أنه إذا فعل أي شيءٍ ، لم يكن ظلماً منه ؛ لم يكن لقوله : " إنَّه لا يظلمُ " فائدة .

فإن قيل : أيُّ فائدة في ذلك ؟ .

فالجواب عن الأوَّل بمعارضة العلم والدَّاعي .

وعن الثاني : أنَّه تعالى ، قال : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] ولم يدلَّ هذا على أنَّ اتخاذ الولد يصحُّ عليه ، فكذلك ها هنا .


[21133]:ينظر: البحر المحيط 6/128، الدر المصون 4/463.
[21134]:تقدم.
[21135]:أخرجه البخاري 11/385، كتاب الرقاق: باب كيف الحشر (6522) ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها: باب فناء الدنيا (59 ـ 2861) والنسائي في المصدر السابق (2085).
[21136]:أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها: باب فناء الدنيا (58 ـ 2859) والنسائي 4/114- 115 كتاب الجنائز : باب البعث (2084) وأخرجه أحمد في المسند6/53.
[21137]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/234) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/411) وزاد نسبته إلى ابن مردويه وابن أبي الدنيا في "ذم الغيبة" وابن أبي حاتم.
[21138]:في ب: والمسيس والقبل.
[21139]:ذكره البغوي في "تفسيره" (3/166).
[21140]:أخرجه أحمد في "مسنده" (5/331).
[21141]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/166).
[21142]:ينظر: الفخر الرازي 21/114.