12- يا أيها الذين آمنوا : ابتعدوا عن كثير من ظن السوء بأهل الخير . إن بعض الظن إثم يستوجب العقوبة ، ولا تتبعوا عورات المسلمين ، ولا يذكر بعضكم بعضاً بما يكره في غيبته . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً ، فقد كرهتموه ؟ ! فاكرهوا الغيبة فإنها مماثلة له ، وقوا أنفسكم عذاب الله بامتثال ما أمر ، واجتناب ما نهى . إن الله عظيم في قبول توبة التائبين ذو رحمة واسعة بالعالمين .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } قيل : نزلت الآية في رجلين اغتابا رفيقهما ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ، ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب ، فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره ، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام فلم يهيئ لهما شيئا ، فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئاً ؟ قال : لا ، غلبتني عيناي ، قالا له : انطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاماً ، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق إلى أسامة بن زيد ، وقل له : إن كان عنده فضل من طعام وإدام فليعطك ، وكان أسامة خازن محمد صلى الله عليه وسلم على رحله ، فأتاه فقال : ما عندي شيء ، فرجع سلمان إليهما وأخبرهما ، فقالا : كان عند أسامة طعام ولكن بخل ، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة ، فلم يجد عندهم شيئاً ، فلما رجع قالا : لو بعثناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، ثم انطلقا يتجسسان ، هل عند أسامة ما أمر لهما به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فلما جاءا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ، قالا : والله يا محمد ما تناولنا يومنا هذا لحماً ، قال : بل ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } وأراد : أن يظن بأهل الخير شرا { إن بعض الظن إثم } قال سفيان الثوري : الظن ظنان : أحدهما إثم ، وهو أن تظن وتتكلم به ، والآخر ليس بإثم وهو أن تظن ولا تتكلم . { ولا تجسسوا } التجسس : هو البحث عن عيوب الناس ، نهى الله تعالى عن البحث عن المستور من عيوب الناس وتتبع عوراتهم حتى لا يظهر على ما ستره الله منها .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تناجشوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً " . أنبأنا أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن الحسن الطوسي بها ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفرايني ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أنبأنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يحيي بن أكثم ، أنبأنا الفضل بن موسى الشيباني ، عن الحسين بن واقد ، عن أبي أوفى بن دلهم ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورات المسلمين ، يتتبع الله عورته ، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " . قال ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك . وقال زيد بن وهب : قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً ، فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن يظهر لنا شيء نأخذه به { ولا يغتب بعضكم بعضاً } يقول : لا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوء مما هو فيه .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول : فقد بهته " .
أنبأنا أبو الطاهر الحارثي ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده " أنهم ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فقالوا : لا يأكل حتى يطعم ، ولا يرحل حتى يرحل ، فقال النبي : قد اغتبتموه . فقالوا : إنما حدثنا بما فيه ، قال : حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه " . قوله عز وجل : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه } قال مجاهد : لما قيل لهم : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً قالوا : لا ، قيل : فكرهتموه أي فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً . قال الزجاج : تأويله : إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحم أخيك ، وهو ميت لا يحس بذلك .
أجبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا الفريابي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، حدثني صفوان بن عمرو ، حدثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير ، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ولحومهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " . قال ميمون بن سيار : بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول : كل ، قلت : يا عبد الله ولم آكل ؟ قال : بما اغتبت عبد فلان ، فقلت : والله ما ذكرت فيه خيراً ولا شراً ، قال : ولكنك استمعت ورضيت به ، فكان ميمون لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً يغتاب عنده أحدا . { واتقوا الله إن الله تواب رحيم* }
( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ، إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ، ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه . واتقوا الله ، إن الله تواب رحيم ) . .
فأما هذه الآية فتقيم سياجا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم ، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم ، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم ، في أسلوب مؤثر عجيب . .
وتبدأ - على نسق السورة - بذلك النداء الحبيب : يا أيها الذين آمنوا . . ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن ، فلا يتركوا نفوسهم نهبا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك . وتعلل هذا الأمر : ( إن بعض الظن إثم ) . وما دام النهي منصبا على أكثر الظن ، والقاعدة أن بعض الظن إثم ، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيء أصلا ، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثما !
بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيء ، فيقع في الإثم ؛ ويدعه نقيا بريئا من الهواجس والشكوك ، أبيض يكن لإخوانه المودة التي لا يخدشها ظن السوء ؛ والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك ، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع . وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون !
ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب . بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل ، وسياجا حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف ، فلا يؤخذون بظنة ، ولا يحاكمون بريبة ؛ ولا يصبح الظن أساسا لمحاكمتهم . بل لا يصح أن يكون أساسا للتحقيق معهم ، ولا للتحقيق حولهم . والرسول[ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " إذا ظننت فلا تحقق " . . ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء ، مصونة حقوقهم ، وحرياتهم ، واعتبارهم . حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه . ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم !
فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص ! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا ، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلا ، وحققه في واقع الحياة ، بعد أن حققه في واقع الضمير ?
ثم يستطرد في ضمانات المجتمع إلى مبدأ آخر يتصل باجتناب الظنون :
والتجسس قد يكون هو الحركة التالية للظن ؛ وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات ، والاطلاع على السوءات .
والقرآن يقاوم هذا العمل الدنيء من الناحية الأخلاقية ، لتطهير القلب من مثل هذا الاتجاه اللئيم لتتبع عورات الآخرين وكشف سوآتهم . وتمشيا مع أهدافه في نظافة الأخلاق والقلوب .
ولكن الأمر أبعد من هذا أثرا . فهو مبدأ من مباديء الإسلام الرئيسية في نظامه الاجتماعي ، وفي إجراءاته التشريعية والتنفيذية .
إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز أن تنتهك في صورة من الصور ، ولا أن تمس بحال من الأحوال .
ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم يعيش الناس آمنين على أنفسهم ، آمنين على بيوتهم ، آمنين على أسرارهم ، آمنين على عوراتهم . ولا يوجد مبرر - مهما يكن - لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت والأسرار والعورات . حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس . فالناس على ظواهرهم ، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم . وليس لأحد أن يأخذهم إلا بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم . وليس لأحد أن يظن أو يتوقع ، أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما ، فيتجسس عليهم ليضبطهم ! وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها ، مع الضمانات الأخرى التي ينص عليها بالنسبة لكل جريمة .
قال أبو داود : حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب . قال : أتى ابن مسعود ، فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمرا . فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .
وعن مجاهد : لا تجسسوا ، خذوا بما يظهر لكم ، ودعوا ما ستر الله .
وروى الإمام أحمد - بإسناده - عن دجين كاتب عقبة . قال : قلت لعقبة : إن لنا جيرانا يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط ، فيأخذونهم . قال : لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم . قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دجين فقال : إني قد نهيتهم فلم ينتهوا . وإني داع لهم الشرط فتأخذهم . فقال له عقبة : ويحك ! لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها " .
وقال سفيان الثوري ، عن راشد بن سعد ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال : سمعت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم " . فقال أبو الدرداء - رضي الله عنه - كلمة سمعها معاوية - رضي الله عنه - من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نفعه الله تعالى بها .
فهكذا أخذ النص طريقه في النظام العملي للمجتمع الإسلامي ! ولم يعد مجرد تهذيب للضمير وتنظيف للقلب ، بل صار سياجا حول حرمات الناس وحقوقهم وحرياتهم ، فلا تمس من قريب أو بعيد ، تحت أي ذريعة أو ستار .
فأين هذا المدى البعيد ? وأين هذا الأفق السامق ? وأين ما يتعاجب به أشد الأمم ديمقراطية وحرية وحفظا لحقوق الإنسان بعد ألف وأربع مائة عام ?
بعد ذلك يجيء النهي عن الغيبة في تعبير عجيب ، يبدعه القرآن إبداعا :
( ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه ) . .
لا يغتب بعضكم بعضا . ثم يعرض مشهدا تتأذى له أشد النفوس كثافة وأقل الأرواح حساسية . مشهد الأخ يأكل لحم أخيه . . ميتا . . ! ثم يبادر فيعلن عنهم أنهم كرهوا هذا الفعل المثير للاشمئزاز ، وأنهم إذن كرهوا الاغتياب !
ثم يعقب على كل ما نهاهم عنه في الآية من ظن وتجسس وغيبة باستجاشة شعور التقوى ، والتلويح لمن اقترف من هذا شيئا أن يبادر بالتوبة تطلعا للرحمة :
( واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) . .
ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول إلى سياج حول كرامة الناس ، وإلى أدب عميق في النفوس والقلوب . ويتشدد فيه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] متمشيا مع الأسلوب القرآني العجيب في إثارة الاشمئزاز والفزع من شبح الغيبة البغيض .
في حديث رواه أبو داود : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " ذكرك أخاك بما يكره " . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " . . [ ورواه الترمذي وصححه ] .
وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثني علي بن الأقمر عن أبي حذيفة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] : حسبك من صفية كذا وكذا " قال عن مسدد تعني قصيرة " فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " . قالت : وحكيت له إنسانا . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا " . .
وروى أبو داود بإسناده عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم . قلت : من هؤلاء يا جبرائيل ? قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " . .
ولما اعترف ماعز بالزنا هو والغامدية ، ورجمهما رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد إقرارهما متطوعين وإلحاحهما عليه في تطهيرهما ، سمع النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ! ثم سار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حتى مر بجيفة حمار ، فقال : " أين فلان وفلان ? انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار " . قالا : غفر الله لك يا رسول الله ! وهل يؤكل هذا ? قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه . والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " .
وبمثل هذا العلاج الثابت المطرد تطهر المجتمع الإسلامي وارتفع ، وانتهى إلى ما صار إليه : حلما يمشي على الأرض ، ومثلا يتحقق في واقع التاريخ .
{ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم }
أعيد النداء خامس مرة لاختلاف الغرض والاهتمام به وذلك أن المنهيات المذكورة بعد هذا النداء من جنس المعاملات السيئة الخفية التي لا يتفطن لها من عومل بها فلا يدفعها فما يزيلها من نفس من عامله بها .
ففي قوله تعالى : { اجتنبوا كثيراً من الظن } تأديب عظيم يبطل ما كان فاشياً في الجاهلية من الظنون السيئة والتهم الباطلة وأن الظنون السيئة تنشأ عنها الغيرة المفرطة والمكائد والاغتيالات ، والطعن في الأنساب ، والمبادأة بالقتال حذراً من اعتداء مظنون ظناً باطلاً ، كما قالوا : خذ اللص قبْلَ أن يَأخُذَك .
وما نجمت العقائد الضالة والمذاهب الباطلة إلا من الظنون الكاذبة قال تعالى : { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } [ آل عمران : 154 ] وقال : { وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } [ الزخرف : 20 ] وقال : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من شيء } [ الأنعام : 148 ] ثم قال : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } [ الأنعام : 148 ] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » ولما جاء الأمر في هذه الآية باجتناب كثير من الظن علمنا أن الظنون الآثمة غير قليلة ، فوجب التمحيص والفحص لتمييز الظن الباطل من الظن الصادق .
والمراد ب { الظن } هنا : الظن المتعلق بأحوال الناس وحذف المتعلّق لتذهب نفس السامع إلى كل ظن ممكن هو إثم . وجملة { إن بعض الظن إثم } استئناف بياني لأن قوله : { اجتنبوا كثيراً من الظن } يستوقف السامع ليتطلب البيان فأعلموا أن بعض الظن جرم ، وهذا كناية عن وجوب التأمل في آثار الظنون ليعرضوا ما تفضي إليه الظنون على ما يعلمونه من أحكام الشريعة ، أو ليسألوا أهل العلم على أن هذا البيان الاستئنافي يقتصر على التخويف من الوقوع في الإثم . وليس هذا البيان توضيحاً لأنواع الكثير من الظن المأمور باجتنابه ، لأنها أنواع كثيرة فنبه على عاقبتها وتُرك التفصيل لأن في إبهامه بعثاً على مزيد الاحتياط .
ومعنى كونه إثماً أنه : إمّا أن ينشأ على ذلك الظن عمل أو مجرد اعتقاد ، فإن كان قد ينشأ عليه عمل من قول أو فعل كالاغتياب والتجسس وغير ذلك فليقدِّر الظانّ أن ظنه كاذب ثم لينظر بعدُ في عمله الذي بناه عليه فيجده قد عامل به من لا يستحق تلك المعاملة من اتهامه بالباطل فيأثم مما طوى عليه قلبه لأخيه المسلم ، وقد قال العلماء : إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز . وإن لم ينشأ عليه إلا مجرد اعتقاد دون عمل فليقدِّر أن ظنه كان مخطئاً يجد نفسه قد اعتقد في أحد ما ليس به ، فإن كان اعتقادا في صفات الله فقد افترى على الله وإن كان اعتقاداً في أحوال الناس فقد خسر الانتفاع بمن ظنه ضاراً ، أو الاهتداء بمن ظنه ضالاً ، أو تحصيل العلم ممن ظنه جاهلاً ونحو ذلك .
ووراء ذلك فالظن الباطل إذا تكررت ملاحظته ومعاودة جولانه في النفس قد يصير علماً راسخاً في النفس فتترتب عليه الآثار بسهولة فتصادف من هو حقيق بضدها كما تقدم في قوله تعالى : { أن تُصِيبُوا قوما بجهالة فتُصبحُوا على ما فعلتم نادمين } [ الحجرات : 6 ] .
والاجتناب : افتعال مِن جنَّبه وأجنبه ، إذا أبعده ، أي جعله جانباً آخر ، وفعله يُعدّى إلى مفعولين ، يقال : جَنبه الشرَّ ، قال تعالى : { واجْنُبْنِي وبَنِيّ أن نعبد الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] . ومطاوعه اجتَنب ، أي ابتعد ، ولم يسمع له فعل أمر إلا بصيغة الافتعال .
ومعنى الأمر باجتناب كثير من الظن الأمر بتعاطي وسائل اجتنابه فإن الظن يحصل في خاطر الإنسان اضطراراً عن غير اختيار ، فلا يعقل التكليف باجتنابه وإنما يراد الأمر بالتثبت فيه وتمحيصه والتشكك في صدقه إلى أن يتبين موجبه بدون تردد أو برجحان أو يتبين كذبه فتكذب نفسك فيما حدثتك . وهذا التحذير يراد منه مقاومة الظنون السيئة بما هو معيارها من الأمارات الصحيحة . وفي الحديث « إذا ظننتم فلا تحققوا » على أن الظن الحسن الذي لا مستند له غير محمود لأنه قد يوقع فيما لا يحد ضره من اغترار في محل الحذر ومن اقتداء بمن ليس أهلاً للتأسي . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم عطية حين مات في بيتها عثمان بن مظعون وقال : « رحمة الله عليك أبا السايب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله وما يدريكِ أن الله أكرمه . فقالت : يا رسول الله ومن يكرمه الله ؟ فقال : أمَّا هو فقد جاءه اليقين وإنّي أرجو له الخير وإنّي والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي . فقالت أم عطية : والله لا أزكّي بعده أحداً » .
وقد علم من قوله : { كثيراً من الظن } وتبيينِه بأن بعض الظن إثم أن بعضاً من الظن ليس إثماً وأنا لم نؤمر باجتناب الظن الذي ليس بإثم لأن { كثيراً } وصف ، فمفهوم المخالفة منه يدلّ على أن كثيراً من الظنّ لم نؤمر باجتنابه وهو الذي يبينه { إن بعض الظن إثم } أي أن بعض الظن ليس إثماً ، فعلى المُسلم أن يكون معيارُه في تمييز أحد الظنين من الآخر أن يعرضه على ما بينته الشريعة في تضاعيف أحكامها من الكتاب والسنة وما أجمعت عليه علماء الأمة وما أفاده الاجتهاد الصحيح وتتبع مقاصد الشريعة ، فمنه ظن يجب اتباعه كالحَذر من مكائد العدّو في الحرب ، وكالظنّ المستند إلى الدليل الحاصل من دلالة الأدلة الشرعية ، فإن أكثر التفريعات الشرعية حاصلة من الظن المستند إلى الأدلة . وقد فتح مفهوم هذه الآية باب العمل بالظن غير الإثم إلا أنها لا تقوم حجة إلاّ على الذين يَرون العمل بمفهوم المخالفة وهو أرجح الأقوال فإن معظم دلالات اللغة العربية على المفاهيم كما تقرر في أصول الفقه .
وأما الظن الذي هو فهم الإنسان وزكانته فذلك خاطر في نفسه وهو أدْرَى فمعتاده منه من إصابه أو ضدها قال أوس بن حجر :
الألمعيُ الذي يظن بك الظ *** ن كـأن قَدْ رأى وقد سمِعا
التجسس من آثار الظن لأن الظن يبعث عليه حين تدعو الظانَّ نفسُه إلى تحقيق ما ظنه سراً فيسلك طريق التجنيس فحذرهم الله من سلوك هذا الطريق للتحقق ليسلكوا غيره إن كان في تحقيق ما ظن فائدة .
والتجسّس : البحث بوسيلة خفيّة وهو مشتق من الجس ، ومنه سمي الجاسوس .
والتجسّس من المعاملة الخفية عن المتجسس عليه . ووجه النهي عنه أنه ضرب من الكيد والتطلع على العورات . وقد يرى المتجسس من المتجسس عليه ما يسوءه فتنشأ عنه العداوة والحقد . ويدخل صدره الحرج والتخوف بعد أن كانت ضمائره خالصة طيبة وذلك من نكد العيش .
وذلك ثلم للأخوة الإسلامية لأنه يبعث على إظهار التنكر ثم إن اطلع المتجسس عليه على تجسس الآخر ساءه فنشأ في نفسه كره له وانثلمت الأخوة ثلمة أخرى كما وصفنا في حال المتجسِّس ، ثم يبعث ذلك على انتقام كليهما من أخيه .
وإذ قد اعتبر النهي عن التجسس من فروع النهي عن الظن فهو مقيد بالتجسس الذي هو إثم أو يفضي إلى الإثم ، وإذا علم أنه يترتب عليه مفسدة عامة صار التجسس كبيرة . ومنه التجسس على المسلمين لمن يبتغي الضُرّ بهم .
فالمنهي عنه هو التجسس الذي لا ينجرّ منه نفع للمسلمين أو دفع ضر عنهم فلا يشمل التجسس على الأعداء ولا تجسس الشُرَط على الجناة واللصوص .
{ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فكرهتموه } .
الاغتياب : افتعال من غَابه المتعدي ، إذا ذَكره في غيبه بما يسوءه .
فالاغتياب ذكر أحد غائب بما لا يُحب أن يُذكَر به ، والاسم منه الغِيبة بكسر الغين مثل الغِيلة . وإنما يكون ذكره بما يكره غيبه إذا لم يكن ما ذكره به مما يثلم العِرض وإلا صار قذعا .
وإنما قال : { ولا يغتب بعضكم بعضاً } دون أن يقول : اجتنبوا الغيبة . لقصد التوطئة للتمثيل الوارد في قوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } لأنه لما كان ذلك التمثيل مشتملاً على جانب فاعل الاغتياب ومفعولِه مُهّد له بما يدلّ على ذاتين لأن ذلك يزيد التمثيل وضوحاً .
والاستفهام في { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } تقريري لتحقق أن كل أحد يقر بأنه لا يحب ذلك ، ولذلك أجيب الاستفهام بقوله : { فكرهتموه } .
وإنما لم يرد الاستفهام على نفي محبة ذلك بأن يقال : ألا يحب أحدكم ، كما هو غالب الاستفهام التقريري ، إشارة إلى تحقق الإقرار المقرَّر عليه بحيث يترك للمقرّر مجالاً لعدم الإقرار ومع ذلك لا يسعه إلا الإقرار .
مثُلّت الغيبة بأكل لحم الأخ الميت وهو يستلزم تمثيل المولوع بها بمحبة أكل لحم الأخ الميت ، والتمثيل مقصود منه استفظاع الممثَّل وتشويهه لإفادة الإغلاظ على المغتابين لأن الغيبة متفشية في الناس وخاصة في أيام الجاهلية .
فشبهت حالة اغتياب المسلم مَن هو أخوه في الإسلام وهو غائب بحالة أكل لحم أخيه وهو ميت لا يدافع عن نفسه ، وهذا التمثيل للهيئة قابل للتفريق بأن يشبه الذي اغتاب بآكل لحم ، ويشبه الذي اغتيب بأخ ، وتشبه غَيْبته بالمَوت .
والفاء في قوله : { فكرهتموه } فاء الفصيحة ، وضمير الغائب عائد إلى { أحدكم } ، أو يعود إلى { لحم } .
والكراهة هنا : الاشمئزاز والتقذر . والتقدير : إن وقع هذا أو إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه .
وفاء الفصيحة تفيد الإلزام بما بعدها كما صرح به الزمخشري في قوله تعالى : { فقد كذبوكم بما تقولون } في سورة الفرقان ، أي تدل على أن لا مناص للمواجه بها من التزام مدلول جواب شرطها المحذوف .
والمعنى : فتعيّن إقراركم بما سئلتم عنه من الممثَّل به ( إذ لا يستطاع جَحْدَهُ ) تحققتْ كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أن تكرهوا نظيره الممثَّل وهو الغِيبة فكأنه قيل : فاكرهوا الممثل كما كرهتم الممثل به .
وفي هذا الكلام مبالغات : منها الاستفهام التقريري الذي لا يقع إلا على أمر مسلّم عند المخاطب فجعلك للشيء في حيّز الاستفهام التقريري يقتضي أنك تدّعي أنه لا ينكره المخاطب .
ومنها جعل ما هو شديد الكراهة للنفس مفعولاً لفعل المحبة للإشعار بتفظيع حالة ما شبه به وحالة من ارتضاه لنفسه فلذلك لم يقل : أيَتحمل أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً ، بل قال : { أيحب أحدكم } .
ومنها إسناد الفعل إلى { احد } للإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك .
ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتّى جَعل الإنسان أخاً .
ومنها أنه لم يقتصر على كون المأكول لحم الأخ حتى جعل الأخَ ميتاً .
وفيه من المحسنات الطباق بين { أيحب } وبين { فكرهتموه } .
والغِيبة حرام بدلالة هذه الآية وآثار من السنة بعضها صحيح وبعضها دونه .
وذلك أنها تشتمل على مفسدة ضُعف في أخوة الإسلام . وقد تبلغ الذي اغتيب فتقدح في نفسه عداوة لمن اغتابه فينثلم بناء الأخوة ، ولأن فيها الاشتغال بأحوال الناس وذلك يلهي الإنسان عن الاشتغال بالمهم النافع له وترك ما لا يعنيه .
وهي عند المالكية من الكبائر وقلّ من صرح بذلك ، لكن الشيخ عليّاً الصعيدي في « حاشية الكفاية » صرح بأنها عندنا من الكبائر مطلقاً . ووجهُه أن الله نهَى عنها وشنّعها . ومُقتضى كلام السجلماسي في كتاب « العمل الفاسي » أنها كبيرة .
وجعلها الشافعية من الصغائر لأن الكبيرة في اصطلاحهم فِعل يؤذن بقلة اكتراث فاعله بالدين ورقة الديانة كذا حدّها إمامُ الحرمين .
فإذا كان ذلك لوجه مصلحة مثل تجريح الشهود ورواة الحديث وما يقال للمستشير في مخالطة أو مصاهرة فإن ذلك ليس بغِيبة ، بشرط أن لا يتجاوز الحد الذي يحصل به وصف الحالة المسؤول عنها .
وكذلك لا غيبة في فاسق بذكر فسقه دون مجاهرة له به . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما استؤذن عنده لعُيينة بن حصن { بئس أخو العشيرة } ليحذّره من سمعه إذ كان عيينة يومئذ منحرفاً عن الإسلام .
وعن الطبري صاحب « العُدة » في فروع الشافعية أنها صغيرة ، قال المحلي وأقره الرافعي ومن تبعه . قلت : وذكر السجلماسي في نظمه في المسائل التي جرى بها عمل القضاة في فاس فقال :
ولا تجرح شاهداً بالغيبه *** لأنها عمت بها المصيبه
وذكر في شرحه : أن القضاة عملوا بكلام الغزالي .
وأما عموم البلوى فلا يوجب اغتفار ما عمّت به إلاّ عند الضرورة والتعذر كما ذكر ذلك عن أبي محمد بن أبي زيد .
وعندي : أن ضابط ذلك أن يكثر في الناس كثرةً بحيث يصير غير دالّ على استخفاف بالوازع الديني فحيئذٍ يفارقها معنى ضعف الديانة الذي جعله الشافعية جزءاً من ماهية الغِيبة .
{ واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رحيم } .
عطف على جُمل الطلب السابقة ابتداء من قوله : { اجتنبوا كثيراً من الظن } هذا كالتذييل لها إذ أمر بالتقوى وهي جُماع الاجتناب والإمتثال فمن كان سالماً من التلبس بتلك المنهيات فالأمر بالتقوى يجنبه التلبس بشيء منها في المستقبل ، ومن كان متلبساً بها أو ببعضها فالأمر بالتقوى يجمع الأمر بالكف عما هو متلبس به منها .
وجملة { إن الله تواب رحيم } تذييل للتذييل لأن التقوى تكون بالتوبة بعد التلبس بالإثم فقيل : { إن الله تواب } وتكون التقوى ابتداء فيرحم الله المتقي ، فالرحيم شامل للجميع .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لا تقربوا كثيرا من الظنّ بالمؤمنين، وذلك أن تظنوا سوءا، فإن الظانّ غير محقّ، وقال جلّ ثناؤه:"اجْتَنِبُوا كَثِيرا مِنَ الظّنّ "ولم يقل: الظنّ كله، إذ كان قد أذِن للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير، فقال: "لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ المُؤْمنُونَ وَالمُؤْمِناتَ بُأنْفُسِهِمْ خَيْرا وَقالُوا هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ" فأذن الله جلّ ثناؤه للمؤمنين أن يظنّ بعضهم ببعض الخير وأن يقولوه، وإن لم يكونوا من قيله فيهم على يقين... وقوله: "إنّ بَعْضَ الظّنّ إثْمٌ" يقول: إن ظنّ المؤمن بالمؤمن الشرّ لا الخير إثم، لأن الله قد نهاه عنه، ففعل ما نهى الله عنه إثم.
وقوله: "وَلا تَجَسّسُوا" يقول: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما لا تعلمونه من سرائره...
وقوله: "ولا يغتب بعضكم بعضا" يقول: ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه... حدثني يزيد بن مخلد الواسطيّ، قال: حدثنا خالد بن عبد الله الطحان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة، فقال: «هُوَ أنْ تَقُولَ لأخِيكَ ما فِيهِ، فإنْ كُنْتَ صَادِقا فَقَدِ اغْتَبْتَه، وَإنْ كُنْتَ كاذِبا فَقَدْ بَهَتّهُ»...
وقوله "أَيُحِبّ أحَدُكُمْ أنْ يأْكُلَ لَحْمَ أخِيهِ مَيْتا فَكَرِهْتُمُوهُ" يقول تعالى ذكره للمؤمنين أيحبّ أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتا، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه، لأن الله حرّم ذلك عليكم، فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته، فاكرهوا غيبته حيا، كما كرهتم لحمه ميتا، فإن الله حرّم غيبته حيا، كما حرّم أكل لحمه ميتا...
وقوله: "وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ" يقول تعالى ذكره: فاتقوا الله أيها الناس، فخافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظنّ أحدكم بأخيه المؤمن ظنّ السوء، وتتبع عوراته، والتجسس عما ستر عنه من أمره، واغتيابه بما يكرهه، تريدون به شينه وعيبه، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم عنها ربكم، "إنّ اللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ" يقول: إن الله راجع لعبده إلى ما يحبه إذا رجع العبد لربه إلى ما يحبه منه، رحيم به بأن يعاقبه على ذنب أذنبه بعد توبته منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{اجتنبوا كثيرا من الظن} كأنه نهى أن يحقَّق القول أو العمل في صاحبه بسوء على ظاهر الأسباب التي هي على شرف الزوال وطرف الانتقال، يجوز أن تكون غير محقّقة في الأصل أو زائلة، والله أعلم. ثم في الآية دليل على أنه ليس كل ظن يُجتنب عنه، ولا كل الظن يكون إثما لأنه استثنى منه بعضه بقوله: {إن بعض الظن} فجائز أن يكون ما استثنى من الظن، ولا يُؤمَن بالاجتناب عنه، هو ما تغلب عليه الأسباب، وغالب الأسباب ربما يعمل عمل العلم واليقين بحق المُكره على شيء يرخّص له، ويباح العمل إذا رأى من ظاهر حال المكروه أنه فاعل به ما أوعده، وإن كان يجوز ألا يفعل به، أو لا يقدر على ما أوعده. وعلى ذلك موضوع عامة الأحكام والشرائع بين الخلق أنها على غالب الظن وُضعت، ليس على التحقيق، والله أعلم. ويحتمل أن يرجع ما استثنى من الظن القليل الذي لا إثم فيه إلى الظن الحسن؛ إذ يجوز أن يظن الإنسان الظن الحسن، ولا إثم فيه. إنما الأمر بالاجتناب إلى الظن بالسوء على غير تحقُّق أسباب أو غير تحقّق غير ذاك، والله أعلم. وقوله تعالى: {ولا تجسّسوا} التّجسُّس، هو تكلف طلب المساوئ في الناس من غير أن يظهر منهم من أسبابها شيء. فنهى عن تكلّف طلب ذلك أو عن الإظهار، وأمر بالسّتر...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
{اجْتَنِبُوا كثيراً منَ الظَّنِ إنَّ بَعْضَ الظّنِّ إثْمٌ}: يدل على أنه لم ينه عن جميعه. ففي الظنون ما هو محظور، مثل سوء الظن بالله تعالى، وسوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة. وكل ظن استند العلم به إلى دليل يقيني، فالعمل به واجب...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{ولا تجسسوا} فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه في آية واحدة. ومعنى التجسس: أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلى الاطلاع وهتك الستر حتى ينكشف له ما لو كان مستورا عنه كان أسلم لقلبه ودينه. (الإحياء: 3/161) يكفيك زجرا عن الغيبة قوله تعالى: {ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} فقد شبهك الله بآكل لحم الميتة، فما أجدرك أن تحترز منها. (بداية الهداية ضمن المجموعة رقم 6 ص: 63).
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ}؟ فإن قلت: بَيِّن الفصل بيْنَ {كَثِيراً}، حيث جاء نكرة وبينه لو جاء معرفة. قلت: مجيئه نكرة يفيد معنى البعضية، وإنّ في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين. لئلا يجترئ أحد على ظنّ إلا بعد نظر وتأمّل، وتمييز بين حقه وباطله بأمارة بينة، مع استشعار للتقوى والحذر؛ ولو عرف لكان الأمر باجتناب الظنّ منوطاً بما يكثر من دون ما يقل، ووجب أن يكون كل ظنّ متصف بالكثرة مجتنباً، وما اتصف منه بالقلة مرخصاً في تظننه. والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها: أنّ كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراماً واجب الاجتناب؛ وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظنّ الفساد والخيانة به محرّم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ولا تجسسوا} أي لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس وادفعوا بالتي هي أحسن، واجتزوا بالظواهر الحسنة...
{إن بعض الظن إثم} إشارة إلى الأخذ بالأحوط كما أن الطريق المخوفة لا يتفق كل مرة فيه قاطع طريق، لكنك لا تسلك لاتفاق ذلك فيه مرة ومرتين، إلا إذا تعين فتسلكه مع رفقة كذلك الظن ينبغي بعد اجتهاد تام ووثوق بالغ. قوله تعالى: {ولا تجسسوا} إتماما لما سبق لأنه تعالى لما قال: {اجتنبوا كثيرا من الظن} فهم منه أن المعتبر اليقين...
{ولا يغتب بعضكم بعضا} إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن في غيبته وفيه معان؛
(أحدها) في قوله تعالى: {بعضكم بعضا} فإنه للعموم في الحقيقة...
{بعضكم بعضا} وأما الكافر فيعلن ويذكر بما فيه وكيف لا والفاسق يجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة...
{أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} دليل على أن الاغتياب الممنوع اغتياب المؤمن لا ذكر الكافر، وذلك لأنه شبهه بأكل لحم الأخ، وقال من قبل {إنما المؤمنون إخوة} فلا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا منع إلا من شيء يشبه أكل لحم الأخ ففي هذه الآية نهى عن اغتياب المؤمن دون الكافر.
(رابعها) ما الحكمة في هذا التشبيه؟ نقول هو إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، وهذا من باب القياس الظاهر، وذلك لأن عرض المرء أشرف من لحمه، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى لأن ذلك آلم، وقوله {لحم أخيه} آكد في المنع لأن العدو يحمله الغضب على مضغ لحم العدو...
وفيه معنى: وهو أن الاغتياب كأكل لحم الآدمي ميتا، ولا يحل أكله إلا للمضطر بقدر الحاجة، والمضطر إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي الميت فلا يأكل لحم الآدمي، فكذلك المغتاب أن وجد لحاجته مدفعا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا) لفظ البخاري. قال علماؤنا: فالظن هنا وفي الآية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى: "ولا تجسسوا " وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضا، فليجتنب كثير منه احتياطا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{اجتنبوا} أي كلفوا أنفسكم أن تتركوا وتبعدوا وتجعلوا في جانب بعيد عنكم {كثيراً من الظن} أي في الناس وغيرهم فاحتاطوا في كل ظن ولا تمادوا معه حتى تجزموا به فتقدموا بسببه على ما يقتضيه من الشر إلا بعد التبين لحقه من باطله بأن يظهر عليه أمارة صحيحة وسبب ظاهر...
{إن بعض الظن إثم} أي ذنب يوصل صاحبه لاستحقاق العقوبة كالظن في أصول الدين، وحيث يخالفه قاطع،... ولما نهى عن اتباع الظن، أتبعه ما يتفرع عنه فقال: {ولا تجسسوا} أي تمعنوا في البحث عن العورات ولا يكون ذلك إلا في المستورين. ولما كانت الغيبة أعم من التجسس.
قال: {ولا يغتب} أي يتعمد أن يذكر {بعضكم بعضاً} في غيبته بما يكره...
{أيحب} وعم بقوله: {أحدكم} وعبر بأن والفعل تصويراً للفعل فقال: {أن يأكل} وزاد في التنفير بجعله في إنسان هو أخ فقال: {لحم أخيه} وأنهى الأمر بقوله: {ميتاً}. ولما كان الجواب قطعاً: لا يحب أحد ذلك، أشار إليه بما سبب من قوله: {فكرهتموه} أي بسب ما ذكر طبعاً فأولى أن تكرهوا الغيبة المحرمة عقلاً، لأن داعي العقل بصير عالم، وداعي الطبع أعمى جاهل، وقد رتب سبحانه هذه الحكم أبدع ترتيب، فأمر سبحانه بالتثبت...
{واتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بترك ذلك وإصلاح ذات البين... {إن الله} أي الملك الأعظم {تواب} أي مكرر للتوبة، وهي الرجوع عن المعصية إلى ما- كان قبلها من معاملة التائب وإن كرر الذنب، فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت {رحيم} يزيده على ذلك أن يكرمه غاية الإكرام...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وذلك، كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال، والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا، إساءة الظن بالمسلم، وبغضه، وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه.
{وَلَا تَجَسَّسُوا} أي: لا تفتشوا عن عورات المسلمين، ولا تتبعوها، واتركوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافل عن أحواله التي إذا فتشت، ظهر منها ما لا ينبغي.
{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} والغيبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه} ثم ذكر مثلاً منفرًا عن الغيبة، فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} شبه أكل لحمه ميتًا، المكروه للنفوس [غاية الكراهة]، باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، وخصوصًا إذا كان ميتًا، فاقد الروح، فكذلك، [فلتكرهوا] غيبته، وأكل لحمه حيًا.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} والتواب، الذي يأذن بتوبة عبده، فيوفقه لها، ثم يتوب عليه، بقبول توبته، رحيم بعباده، حيث دعاهم إلى ما ينفعهم، وقبل منهم التوبة، وفي هذه الآية، دليل على التحذير الشديد من الغيبة، وأن الغيبة من الكبائر، لأن الله شبهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما هذه الآية فتقيم سياجا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم، في أسلوب مؤثر عجيب...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد ب {الظن} هنا: الظن المتعلق بأحوال الناس...وجملة {إن بعض الظن إثم} استئناف بياني لأن قوله: {اجتنبوا كثيراً من الظن} يستوقف السامع ليتطلب البيان...
لأنها أنواع كثيرة فنبه على عاقبتها وتُرك التفصيل لأن في إبهامه بعثاً على مزيد الاحتياط. ومعنى كونه إثماً أنه: إمّا أن ينشأ على ذلك الظن عمل أو مجرد اعتقاد، فإن كان قد ينشأ عليه عمل من قول أو فعل كالاغتياب والتجسس وغير ذلك فليقدِّر الظانّ أن ظنه كاذب ثم لينظر بعدُ في عمله الذي بناه عليه فيجده قد عامل به من لا يستحق تلك المعاملة من اتهامه بالباطل فيأثم مما طوى عليه قلبه لأخيه المسلم...
. وإن لم ينشأ عليه إلا مجرد اعتقاد دون عمل فليقدِّر أن ظنه كان مخطئاً يجد نفسه قد اعتقد في أحد ما ليس به... وقد علم من قوله: {كثيراً من الظن} وتبيينِه بأن بعض الظن إثم أن بعضاً من الظن ليس إثماً وأنا لم نؤمر باجتناب الظن الذي ليس بإثم لأن {كثيراً} وصف، فمفهوم المخالفة منه يدلّ على أن كثيراً من الظنّ لم نؤمر باجتنابه وهو الذي يبينه {إن بعض الظن إثم} أي أن بعض الظن ليس إثماً، فعلى المُسلم أن يكون معيارُه في تمييز أحد الظنين من الآخر أن يعرضه على ما بينته الشريعة في تضاعيف أحكامها من الكتاب والسنة وما أجمعت عليه علماء الأمة وما أفاده الاجتهاد الصحيح وتتبع مقاصد الشريعة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذه القاعدة تضمن للمجتمع استقراره النفسي، عندما يعيش أفراده الشعور بأنهم لا يواجهون الأحكام أو الانطباعات السلبية البعيدة عن الدقّة من قبل الآخرين، وعندما يتوخى المؤمنون الدقّة في دراسة الحيثيات الموثوقة، في ما يحكمون به على الناس أو ما يحملونه من انطباعاتٍ عنهم...