قوله تعالى : { من يصرف عنه } ، يعني : من يصرف العذاب عنه ، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ، عن عاصم و يعقوب ( يصرف ) بفتح الياء وكسر الراء ، من ، أي : من يصرف الله عنه العذاب ، فقد رحمه ، وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الراء .
قوله تعالى : { يومئذ } ، يعني : يوم القيامة .
قوله تعالى : { فقد رحمه وذلك الفوز المبين } ، أي : النجاة البينة .
وأمر كذلك أن يقذف في قلوبهم بالرعب والترويع ؛ في الوقت الذي يعلن فيه تصوره لجدية الأمر والتكليف ولخوفه هو من عذاب ربه ، إن عصاه فيما أمر به من الإسلام والتوحيد :
( قل : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه ، وذلك الفوز المبين ) . .
إنه تصوير لحقيقة مشاعر الرسول [ ص ] تجاه أمر ربه له ؛ وتجسيم لخوفه من عذابه . العذاب الذي يعتبر مجرد صرفه عن العبد رحمه من الله وفوزا مبينا . ولكنه في الوقت ذاته حمله مزلزلة على قلوب المشركين في ذلك الزمان ، وقلوب المشركين بالله في كل زمان . حملة مزلزلة تصور العذاب في ذلك اليوم العظيم ؛ يطلب الفريسة ، ويحلق عليها ، ويهجم ليأخذها . فلا تصرفه عنها إلا القدرة القادرة التي تأخذ بخطامه فتلويه عنها ! وإن أنفاس القاريء لهذا التصوير لتحتبس - وهو يتمثل المشهد - في انتظار هذه اللقطة الأخيرة !
{ يصرف } مبني للمجهول في قراءة الأكثر ، على أنّه رافع لضمير العذاب أو لضمير { من } على النيابة عن الفاعل . والضمير المجرور ب« عن » عائد إلى { مَن } أي يصرف العذاب عنه ، أو عائد إلى العذاب ، أي من يصرف هو عن العذاب ، وعلى عكس هذا العود يكون عود الضمير المستتر في قوله : { يصرف } .
وقرأه حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف { يصرف } بالبناء للفاعل على أنّه رافع لضمير { ربّي } على الفاعلية .
أمّا الضمير المستتر في { رحمَهُ } فهو عائد إلى { ربّي } ، والمنصوب عائد إلى { مَن } على كلتا القراءتين .
ومعنى وصف العذاب بمضمون جملة الشرط والجزاء ، أي من وفّقه الله لتجنّب أسباب ذلك العذاب فهو قد قدّر الله له الرحمة ويسّر له أسبابها .
والمقصود من هذا الكلام إثبات مقابل قوله : { إنّي أخاف إن عصيت ربّي عذاب يوم عظيم } كأنّه قال : أرجو إن أطعته أن يرحمني ربّي ، لأنّ من صرف عنه العذاب ثبتت له الرحمة . فجاء في إفادة هذا المعنى بطريقة المذهب الكلامي . وهو ذكر الدليل ليعلم المدلول . وهذا ضرب من الكناية وأسلوب بديع بحيث يدخل المحكوم له في الحكم بعنوان كونه فرداً من أفراد العموم الذين ثبت لهم الحكم .
ولذلك عقّبه بقوله : { وذلك الفوز المبين } . والإشارة موجّهة إلى الصرف المأخوذ من قوله : { من يصرف عنه } أو إلى المذكور . وإنّما كان الصرف عن العذاب فوزاً لأنّه إذا صرف عن العذاب في ذلك اليوم فقد دخل في النعيم في ذلك اليوم . قال تعالى : { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز } [ آل عمران : 185 ] . و { المبين } اسم فاعل من أبان بمعنى بان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من يصرف} الله {عنه} العذاب {يومئذ} يوم القيامة، {فقد رحمه وذلك} الصرف، يعني صرف العذاب، {الفوز المبين}، يعني: النجاة العظيمة المبينة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قراء الحجاز والمدينة والبصرة: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ بضم الياء وفتح الراء، بمعنى: من يصرف عنه العذاب يومئذ. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ» بفتح الياء وكسر الراء، بمعنى: من يصرف الله عنه العذاب يومئذ.
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي، قراءة من قرأه: «يَصْرِفْ عَنْهُ» بفتح الياء وكسر الراء، لدلالة قوله: فَقَدْ رَحِمَهُ على صحة ذلك، وأن القراءة فيه بتسمية فاعله. ولو كانت القراءة في قوله:"مَنْ يُصْرَفُ" على وجه ما لم يسمّ فاعله، كان الوجه في قوله: فَقَدْ رَحِمَهُ أن يقال: «فقد رُحِم» غير مسمى فاعله وفي تسمية الفاعل في قوله: فَقَدْ رَحِمَهُ دليل على بين أن ذلك كذلك في قوله: «مَنْ يَصْرِفُ عَنْهُ». وإذا كان ذلك هو الوجه الأولى بالقراءة، فتأويل الكلام: مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ من خلقه يَوْمِئِذٍ عذابه فَقَدْ رَحِمَهُ وذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ المُبِينُ. ويعني بقوله: "ذَلِكَ": وصرف الله عنه العذاب يوم القيامة، ورحمته إياه الفَوْزُ أي النجاة من الهلكة والظفر بالطلبة المُبِينُ يعني الذي بين لمن رآه أنه الظفر بالحاجة وإدراك الطلبة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وذلك الفوز المبين} وذلك الصرف؛ يعني صرف العذاب الفوز المبين. وإنما ذكره، والله أعلم، فوزا مبينا لأنه فوز دائم، لا زوال له، وليس كفوز هذه الدنيا؛ يكون في وقت، ثم يزول عن قريب، وكذلك فوز الآخرة.
المسألة الثانية: ظاهر الآية يقتضي كون ذلك اليوم مصروفا وذلك محال، بل المراد عذاب ذلك اليوم، وحسن هذا الحذف لكونه معلوما. المسألة الثالثة: دلت الآية على أن الطاعة لا توجب الثواب، والمعصية لا توجب العقاب لأنه تعالى قال: {من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه} أي كل من صرف الله عنه العذاب في ذلك اليوم فقد رحمه. وهذا إنما يحسن لو كان ذلك الصرف واقعا على سبيل التفضل، أما لو كان واجبا مستحقا لم يحسن أن يقال فيه إنه رحمه ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب العبد، فإذا لم يضربه لا يقال إنه رحمه. أما إذا حسن منه أن يضربه ولم يضربه فإنه يقال إنه رحمه، فهذه الآية تدل على أن كل عقاب انصرف وكل ثواب حصل، فهو ابتداء فضل وإحسان من الله تعالى،...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
والفوز: هو حصول الربح ونفي الخسارة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان قد قدم من عموم رحمته ما أطمع الفاجر ثم أيأسه من ذلك بما أشير إليه من الخسارة، صرح هنا بما اقتضاه ذلك المتقدم، فقال واصفاً لذلك العذاب مبيناً أن الرحمة في ذلك اليوم على غير المعهود الآن، فإنها خاصة لا عامة دائمة السبوغ على من نالته، لا زائلة وكذا النعمة، هكذا شأن ذلك اليوم {من يصرف عنه} أي ذلك العذاب؛ ولما كان المراد دوام الصرف في جميع اليوم، قال: {يومئذ} أي يوم إذ يكون عذاب ذلك اليوم به {فقد رحمه} أي فعل به بالإنعام عليه فعل المرحوم {وذلك} أي لا غيره {الفوز} أي الظفر بالمطلوب {المبين} أي الظاهر جداً، ومن لم يصرف عنه فقد أهانه، وذلك هو العذاب العظيم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين (16)} أي من يصرف ويحول عن ذلك العذاب في ذلك اليوم العظيم حتى يكون بمعزل عنه، أو من يصرف عنه ذلك العذاب في ذلك اليوم – فقد رحمه الله بإنجائه من الهول الأكبر، وبما وراء النجاة من دخول الجنة، لأن من لا يعذب يومئذ يكون منعما حتما. وذلك الجمع بين النجاة من العذاب والتمتع بالنعيم في دار البقاء هو الفوز المبين الظاهر..
وقد أراد الحق أن يبين لنا أن المعصوم لا يتأتى منه عصيان الله. لكن هذا القول يأتي على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنعلم أن هناك عذابا عظيما توعد به الله من يعصيه. وهو عذاب يلح على العاصي حتى يأتي إليه. لهذا العذاب خاصية أن تكون بينه وبين العاصي جاذبية كجاذبية المغناطيس لغيره من المواد. ونجاة الإنسان من العذاب تحتاج إلى من يصرف عنه هذا اللون القاسي من العذاب...
فكأن من لا يصرف عنه هذا العذاب هو من ينجذب إلى قوة العذاب؛ لأن لنار جهنم شهيقا يجذب ويسحب إليه الذين قدر عليهم العذاب...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من هذه الآية نفهم أيضاً أنّ شعور الأنبياء بالمسؤولية يفوق شعور الآخرين بها. ولكي يتّضح أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يستطيع شيئاً بغير الاستناد إِلى لطف الله ورحمته، فكل شيء بيد الله وبأمره، وحتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه يترقب بعين الرجاء رحمة الله الواسعة ومنه يطلب النجاة والفوز: (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين). هذه الآيات تبيّن منتهى درجات التوحيد، وترد على الذين كانوا يرون للأنبياء سلطاناً مستقلا عن إرادة الله، كما فعل المسيحيون عندما جعلوا من المسيح (عليه السلام) المخلّص والمنقذ، فتقول لهم: إِنّ الأنبياء أنفسهم يحتاجون إِلى رحمة الله مثلكم...