اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَّن يُصۡرَفۡ عَنۡهُ يَوۡمَئِذٖ فَقَدۡ رَحِمَهُۥۚ وَذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡمُبِينُ} (16)

" مَنْ " شرطيةٌ ، ومَحَلُّها يحتمل الرَّفْعَ والنصب ، كما سيأتي بيانه .

وقرأ الأخوان{[13399]} ، وأبو بكر عن عاصم : " يَصْرِف " بفتح الياء وكسر الراء على تسمية الفاعل .

والباقون{[13400]} بضمِّ الياء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله .

فأمَّا في القراءة الأولى ، ف " مَنْ " فيها تَحْتَمِلُ الرفع والنصب ، فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ ، وهو الابتداء ، وخبرها فعل الشَّرطِ أو الجواب أو هما ، على حَسَبِ الخلاف ، وفي مفعول " يَصْرِف " حينئذ احتمالان :

أحدهما : أنه مَذْكُورٌ وهو " يومئذ " ، ولا بُدَّ من حَذْفِ مُضَافٍ ، أي : من يَصْرِفِ اللَّه عنه هَوْلَ يومئذ أو عذابَ يومئذ - فقد رحمه - فالضمير في " يَصْرِف " ، يعود على اللَّهِ تعالى ، ويدلُّ{[13401]} عليه قراءة أبَيِّ{[13402]} بن كعبٍ " مَنْ يَصْرِف اللَّهُ " بالتصريح به .

والضميران في " عنه " و " رحمه " ل " مَنْ " .

والثاني : أنه محذوف لدلالةِ ما ذكر عليه قَبْلَ ذلك ، أي : مَنْ يَصْرف اللَّهُ عنه العذاب " يومئذ " منصوب على الظرِفِ .

وقال مكيٌ{[13403]} : " ولا يَحْسُنُ أن تُقَدَّر هاء ؛ لأن الهاء إنما تُحْذَفُ من الصِّلاتِ " .

قتل شهابُ الدين{[13404]} : يعني أنه لا يُقَدَّر المَفْعُولُ ضميراً عائداً على عذاب يوم ؛ لأن الجملة الشرطية عنده صِفَةٌ ل " عَذَاب " ، والعائِدُ منها محذوف ، لكنَّ الحَذْفَ إنما يكون من الصِّلَةِ لا من الصِّفَةِ ، وهذا معنى قول الواحديّ أيضاً{[13405]} ، إلاَّ أنَّ قَوْلَ مَكي " إنما يُحْذَفُ من الصِّلاتِ " يريدُ في الأحسن ، وإلاَّ فيحذف من الصِّفاتِ والأخبار والأحوال ، ولكنَّه دون الصِّلة .

والنصبُ من وجهين :

أحدهما : أنَّه مفعول مُقَدَّمٌ ل " يَصْرِف " والضمير في " عنه " على هذا يتعيَّنُ عودهُ على العذابِ المتقدمّ ، والتقدير : أيَّ شخصٍ يصرفِ اللَّهُ عن العذاب .

والثاني : أنه مَنْصُوبٌ على الاشْتِغَالِ بفعلٍ مُضْمَرٍ لا يبرز ، يفسره هذا الظَّاهِرُ من معناه لا من لَفْظِهِ ، والتقدير : مَنْ نُكْرِمْ أو مَنْ نُنَجِّ يَصْرِف اللَّه .

والضمير في " عنه " للشرطية .

وأمَّا مفعول " يَصْرِفْ " على هذا فَيَحْتَمِلُ الوجهين المُتقدِّمينِ ، أعني كونه مذكوراً ، وهو " يومئذٍ " على حَذْفِ مُضافٍ ، أو محذوفاً اختصاراً .

وأمَّا القراءة الثَّانية ف " مَنْ " تحتمل وجهين :

أحدهما : أنها في مَحَلّ رفع بالابتداء ، وخبره ما بعده على ما تقدَّم والفاعل المَحْذُوفُ هو اللَّهُ -تعالى- يَدُلُّ عليه قراءةُ أبيّ المُتقدِّمةُ وفي القائم مقامه أربعة أوجه :

أحدهما : أنه ضمير العذاب ، والضمير في " عنه " يعود على " مَنْ " فقط ، والظرف فيه حينئذ ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوب ب " يصرف " .

والثاني : أنه منصوب بالعذاب ، أي : الذي قام ضميره مقام الفاعل ، قاله أبو البقاء{[13406]} - رضي الله عنه - . ويلزم منه إعْمَالُ المصدر مضمراً ، وقد يقال : يُغْتَفَرُ ذلك في الظروف .

الثالث : قال أبو البقاء{[13407]} : " إنه حال من الضمير " - يعني الضمير الذي قامَ مقامَ الفاعل ، وجازَ وقوع الحال ظَرْفَ زمان ؛ لأنها في معنًى لا عن جُثّة .

الثاني من الأوجه الأربعة : أن القَائِمَ مقام الفاعل ضميره " مَنْ " والضمير في " عنه " يعُود على العذاب ، والظَّرف منصوب ، إمَّا ب " يُصْرف " وإمَّا على الحالِ من هاء " عنه " .

والثالث : من أوجه العامل في " يومئذٍ " متعذِّرٌ هنا وهو واضح ، والتقديرُ : أي شخصٍ يُصْرف هو عن العذاب .

الثالث : أنَّ القائم مقام الفاعل " يومئذ " إمَّا على حذف مضاف أي : من يُصْرَف عنه فَزَعُ أو هَوْلُ يومئذ ، وإمَّا على قيام الظرف دون مضاف ، كقولك : " سير يوم الجمعة " ، وإنما بُنِيَ " يومئذٍ " على الفَتْحِ لإضافته إلى غير مُتَمَكِّنٍ{[13408]} ، ولو قُرِئَ بالرفع لكان جَائِزاً في الكلام ، وقد قرئ : { وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ } [ هود :66 ] فتحاً وجراً بالاعتبارين ، وهما اعتبارانِ مُتَغَايِرَان .

فإن قيل : يلزمُ على عدم تقدير حَذْفِ المضاف إقامةُ الظَّرْفِ غير التام مقام الفاعل ، وقد نصُّوا على أنَّ الظَّرْفِ المقطُوعَ عن الإضافة لا يُخبَرُ به ، ولا يقوم مقام فاعل ، ولو قلت : " ضُرب قبلُ " لم يَجُزْ ، والظرف هنا في حكم المقطوع عن الإضافة فلا يجوز هنا قيامه مقام الفاعل ، إلاَّ على حَذْفِ مضاف ، فالجواب أن هذا في قُوَّة الظَّرْفِ المضاف ؛ إذ التنوين عِوَضٌ عنه ، وهذا ينتهضُ على رَأي الجمهور أما الأخفش{[13409]} فلا ، لأنَّ التنوين عنده تَنْوِينُ صَرْفٍ والكَسْرُ كَسْرُ إعراب .

والرابع : أنَّ القائم مقامَهُ " عنه " ، والضميرُ في " عنه " يعودُ على " مَنْ " ، و " يومئذٍ " منصوب على الظَّرْفِ ، والعامل فيه " يُصْرَفْ " ، ولا يجوز الوجهان الأخيران ، أعني نَصْبَهُ على الحالِ ، لأن الضمير للجُثَّة والزَّمَان لا يقع حالاً عنهما ، كما لا يَقَعُ خبراً ، وأعني كونه مَعْمُولاً للعذاب ، إذ ليس هو قائماً مقام الفاعلِ .

والثاني من وَجْهي{[13410]} " مَنْ " أنها في مَحَلِّ نصب بفعل مُضْمَرٍ يفسّره الظاهرُ بعده ، وهذا إذا جعلنا " عنه " في مِحَلِّ نصب بأنْ يُجْعَلَ القائم مقامَ الفاعل : إمَّا ضميرَ العذاب ، وإمَّا " يومئذ " .

والتقدير : مَنْ يكرم اللَّهُ ، أو من يُنَجِّ يُصْرَفْ عنه العذابُ أو هولُ يومئذ ، ونظيره : " زيدٌ به مُرُور حسن " ، أقمت المصدر فبقي " عنه " منصوب المَحَلّ .

والتقدير : جاوزت زيداً مُرَّ به مُرُورُ حسن ، وأمَّا إذا جُعل " عنه " قائماً مقام الفاعل تعيَّنَ رفعُه بالابتداء .

وأعلم أنه متى قلت : مَنْصُوبٌ على الاشتغال ، فإنما يُقدَّر الفعل بعد " مَنْ " ؛ لأن لها صدر الكلام ، ولذلك لم أظْهِره إلاَّ مؤخّراً ، ولهذه العِلَّةِ منع بعضهم الاشتغال فيما له صَدْرُ الكلام كالاسْتِفهَامِ والشرط .

والتنوين في " يومئذٍ " عوضٌ عن جُمْلَةٍ مَحْذُوفةٍ تضمَّنها الكلام السَّابق .

والتقدير : يومئذٍ يكون الجزاء ، وإنَّما قلنا ذلك ؛ لأنه لم يتقدَّم في الكلام جملةٌ مُصَرَّحٌ بها يكون التنوين عَوَضاً منها ، وقد تقدَّم خلافُ الأخفش .

وهذه الجملة الشَّرطيَّةُ يجوز فيها وجهان : الاستئناف ، والوصف ل " عذاب يوم " ، فحيثُ جعلنا فيها ضميراً يعود على عذاب يوم ، إمَّا مِنْ " يُصَرف " ، وإمَّا مِنْ " عنه " جاز أن تكون صفةً وهو الظَّاهر ، وأن تكون مُسْتأنفةً ، وحَيْثُ لم نجعلْ فيها ضميراً يعود عليه - وقد عرفت كيفية ذلك - تعيَّنَ أن تكون مُسْتَأنَفَةً ، ولا يجوز أن تكون صِفَةً لخلوِّها من الضمير .

وَرجَّح بعضهم إحْدى القراءَتَيْنِ على الأخرى ، وذلك على عَادَتِهِمْ ، فقال أبو عَلِيٍّ الفارسي : قراءة " يَصْرِف " يعني المبنيَّ للفاعل أحْسَنُ لمناسبة قوله : " رحمه " ، يعني : أنَّ كُلاًّ منهما مَبْنيٌّ للفاعل ، ولم يقل : " فقد رُحِمَ " واختارها أبو حَاتِم ، وأبو عُبَيْد{[13411]} ، ورجَّحَ بعضهم قراءة المبني للمفعول بإجماعهم على قراءة قوله : { لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] يعني في كونه أتى بصيغة اسم المَفْعُول المُسْنَدِ إلى ضمير العذابِ المذكور أوَّلاً .

ورجَّحَهَا محمد بن جرير{[13412]} بأنها أقَلُّ إضماراً ، ومكي - رحمه الله - تَلَعْثَم في كلامه في ترجيحه لقراءة الأخوين ، وأتى بأمثلةٍ فَاسِدَةٍ في كتاب " الهداية " له .

قال ابن عطية{[13413]} : " وقد تقدَّمَ أوَّلَ الكتاب{[13414]} عن ثَعْلبٍ وغيره من العلماء أنَّ ترجيح إحدى القراءاتِ المتواترة على الأخرى بحيث تُضَعَّفُ الأخرى لا يجوز " .

والجملة من قوله : " فقد رحمه " في محلّ جَزْمٍ على جواب الشرط والفاء واجبة .

قوله : " وذلِكَ الفَوزُ " مبتدأ وخبر جيء بهذه الجُمْلَةِ مقرِّرةً لما تقدَّم من مضمون الجملة قبلها ، والإشارَةُ ب " ذلك " إلى المَصْدَرِ المفهوم من قوله : " يُصْرف " ، أي : ذلك الصرف .

و " المبين " يحتمل أن يكون مُتَعَدِّياً ، فيكون المفعول مَحْذُوفاً ، أي : المبين غيرَه ، وأن يكون قاصراً بمعنى يبين ، وقد تقدَّمَ أنَّ " أبان " ، يكون قاصراً بمعنى " ظَهَرَ " ، ومتعدّياً بمعنى " أظهر " .


[13399]:ينظر: الدر المصون 3/22، حجة القراءات ص (243)، الكشاف 2/10، النشر 2/257، البحر المحيط 4/91، السبعة ص (254)، التبيان 1/484 ـ 485، الزجاج 2/256، المشكل 3/247.
[13400]:ينظر: الدر المصون 3/22، حجة القراءات ص (243)، إتحاف فضلاء البشر 2/7، النشر 2/257.
[13401]:في ب: ودل.
[13402]:ينظر: الدر المصون 3/22.
[13403]:ينظر: الدر المصون 3/23.
[13404]:ينظر: المصدر السابق.
[13405]:ينظر: الدر المصون 3/23.
[13406]:ينظر: الإملاء 1/237.
[13407]:المصدر السابق.
[13408]:في ب: ممكن.
[13409]:ينظر: الدر المصون 3/23.
[13410]:في ب: وجهين.
[13411]:ينظر: الدر المصون 3/24 البحر المحيط 4/92.
[13412]:لم يحكها في التفسير وحكاها عنه أبو حيان في البحر 4/92 والسمين في الدر 3/24.
[13413]:ينظر: المحرر الوجيز 2/274.
[13414]:ينظر: تفسير قول الله تعالى: {مالك يوم الدين}.