90- استثنى من المنافقين الذين يستحقون القتل لإفسادهم لجماعة المؤمنين أولئك الذين يرتبطون بقوم بينهم وبين المؤمنين ميثاق يمنع قتل المنتمين لأحد الفريقين ، أو كانوا في حيرة أيقاتلون مع قومهم الذين هم أعداء المسلمين ، وليس ثمة ميثاق ، أم يقاتلون مع المؤمنين ؟ فإن الأولين يمنع قتلهم لأجل الميثاق ، والآخرين يمنع قتلهم لأنهم في حرج ، وإن اللَّه - تعالى - لو شاء لجعلهم يحاربونكم ، فإن آثروا الموقف السلبي وسالموكم فلا يسوغ لكم أن تقتلوهم ، لأنه لا مسوغ لذلك .
قوله تعالى : { إلا الذين يصلون إلى قوم } . وهذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة ، لأن موالاة الكفار والمنافقين لا تجوز بحال ، ومعنى { يصلون } أي : ينتسبون إليهم ، ويتصلون بهم ، ويدخلون فيهم بالحلف ، والجوار . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أراد يلجأون إلى قوم .
قوله تعالى : { بينكم وبينهم ميثاق } أي : عهد ، وهم الأسلميون ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر الأسلمي قبل خروجه إلى مكة على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ، ولجأ إليه فلهم من الجوار مثل ما لهلال ، وقال الضحاك عن ابن عباس : أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق ، بني بكر بن زيد بن مناة كانوا في الصلح والهدنة ، وقال مقاتل : هم خزاعة . قوله تعالى :{ أو جاؤوكم } أي : يتصلون بقوم جاؤوكم .
قوله تعالى : { حصرت صدورهم } أي : ضاقت صدورهم ، قرأ الحسن ويعقوب : " حصرت " منصوبة منونة ، أي : ضيقة صدورهم ، يعني القوم الذين جاؤوكم وهم بنو مدلج ، كانوا عاهدوا قريشا أن لا يقاتلوا المسلمين ، وعاهدوا قريشاً أن لا يقاتلوهم . قوله تعالى : { أن يقاتلوكم } أي : عن قتالكم للعهد الذي بينكم .
قوله تعالى : { أو يقاتلوا قومهم } ، يعني : من آمن منهم ، ويجوز أن يكون معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ، ولا يقاتلون قومهم معكم ، يعني قريشاً قد ضاقت صدورهم لذلك . وقال بعضهم : " أو " بمعنى الواو ، كأنه يقول : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدورهم ، أي : قد حصرت صدورهم عن قتالكم والقتال معكم ، وهم قوم هلال الأسلميون ، وبنو بكر ، نهى الله سبحانه عن قتال هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهد للمسلمين ، لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد فله حكمهم في حقن الدماء .
قوله تعالى : { ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم } ، يذكر منته على المسلمين بكف بأس المعاهدين ، يقول : إن ضيق صدورهم عن قتالكم لما ألقى في قلوبهم من الرعب ، وكفهم عن قتالكم ، ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم مع قومهم .
قوله تعالى : { فإن اعتزلوكم } أي : اعتزلوا قتالكم .
قوله تعالى : { فلم يقاتلوكم } ، ومن اتصل بهم ، ويقال : يوم فتح مكة لم يقاتلوكم مع قومهم .
قوله تعالى : { وألقوا إليكم السلم } أي : الصلح فانقادوا واستسلموا .
قوله تعالى : { فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } أي : طريقاً بالقتل والقتال .
ثم استثنى من هذا الحكم - حكم الأسر والقتل - لهذا الصنف من المنافقين ، الذين يعينون أعداء المسلمين - من يلجأون إلى معسكر بينه وبين الجماعة الإسلامية عهد - عهد مهادنه أو عهد ذمة - ففي هذه الحالة يأخذون حكم المعسكر الذي يلتجئون إليه ، ويتصلون به :
( إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ) . .
ويبدو في هذا الحكم اختيار الإسلام للسلم ، حيثما وجد مجالًا للسلم لا يتعارض مع منهجه الأساسي . من حرية الإبلاغ وحرية الاختيار ؛ وعدم الوقوف في وجه الدعوة ، بالقوة مع كفالة الأمن للمسلمين ؛ وعدم تعريضهم للفتنة ، أو تعريض الدعوة الإسلامية ذاتها للتجميد والخطر .
ومن ثم يجعل كل من يلجأ ويتصل ويعيش بين قوم معاهدين - عهد ذمة أو عهد هدنة - شأنه شأن القوم المعاهدين . يعامل معاملتهم ، ويسالم مسالمتهم . وهي روح سلمية واضحة المعالم في مثل هذه الأحكام .
كذلك يستثني من الأسر والقتل جماعة أخرى . هي الأفراد أو القبائل أو المجموعات التي تريد أن تقف على الحياد ، فيما بين قومهم وبين المسلمين من قتال . إذ تضيق صدورهم أن يقاتلوا المسلمين مع قومهم . كما تضيق صدورهم أن يقاتلوا قومهم مع المسلمين . فيكفوا أيديهم عن الفريقين بسبب هذا التحرج من المساس بهؤلاء أو هؤلاء :
أو جاؤوكم ، حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم . .
وواضح كذلك في هذا الحكم الرغبة السلمية في اجتناب القتال ؛ حيثما كف الآخرون عن التعرض للمسلمين ودعوتهم ؛ واختاروا الحياد بينهم وبين المحاربين لهم . وهؤلاء الذين يتحرجون أن يحاربوا المسلمين أو يحاربوا قومهم . . كانوا موجودين في الجزيرة ؛ وفي قريش نفسها ؛ ولم يلزمهم الإسلام أن يكونوا معه أو عليه . فقد كان حسبه ألا يكونوا عليه . . كما أنه كان المرجو من أمرهم أن ينحازوا إلى الإسلام ، حينما تزول الملابسات التي تحرجهم من الدخول فيه ؛ كما وقع بالفعل .
ويحبب الله المسلمين في انتهاج هذه الخطة مع المحايدين المتحرجين . فيكشف لهم عن الفرض الثاني الممكن في الموقف ! فلقد كان من الممكن - بدل أن يقفوا هكذا على الحياد متحرجين - أن يسلطهم الله على المسلمين فيقاتلوهم مع أعدائهم المحاربين ! فأما وقد كفهم الله عنهم على هذا النحو ، فالسلم أولى ، وتركهم وشأنهم هو السبيل :
( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم . فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم ، وألقوا إليكم السلم . فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً ) . .
وهكذا يلمس المنهج التربوي الحكيم نفوس المسلمين المتحمسين ، الذين قد لا يرضون هذا الموقف من هذا الفريق . يلمسه بما في هذا الموقف من فضل الله وتدبيره ؛ ومن كف لجانب من العداء والأذى كان سيضاعف العبء على عاتق المسلمين . ويعلمهم أن يأخذوا الخير الذي يعرض فلا يرفضوه ، ويجتنبوا الشر الذي يأخذ طريقه بعيدا عنهم ، فلا يناوشوة . . طالما أن ليس في هذا كله تفريط في شيء من دينهم ، ولا تمييع لشيء من عقيدتهم ؛ ولا رضى بالدنية في طلب السلم الرخيصة !
لقد نهاهم عن السلم الرخيصة . لأنه ليس الكف عن القتال بأي ثمن هو غاية الإسلام . . إنما غاية الإسلام : السلم التي لا تتحيف حقا من حقوق الدعوة ، ولا من حقوق المسلمين . . لا حقوق أشخاصهم وذواتهم ؛ ولكن حقوق هذا المنهج الذي يحملونه ويسمون به مسلمين .
وإن من حق هذا المنهج أن تزال العقبات كلها من طريق إبلاغ دعوته وبيانه للناس في كل زاوية من زوايا الأرض . وأن يكون لكل من شاء - ممن بلغتهم الدعوة - أن يدخل فيه فلا يضار ولا يؤذي في كل زاوية من زوايا الأرض . وأن تكون هناك القوة التي يخشاها كل من يفكر في الوقوف في وجه الدعوة - في صورة من الصور - أو مضارة من يؤمن بها - أي لون من ألوان المضارة - وبعد ذلك فالسلم قاعدة . والجهاد ماض إلى يوم القيامة .
ثم استثنى الله ، سبحانه من هؤلاء فقال : { إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } أي : إلا الذين لجؤوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة ، فاجعلوا حكمهم{[7973]} كحكمهم . وهذا قول السدي ، وابن زيد ، وابن جرير .
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جُدْعان ، عن الحسن : أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال : لما ظهر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - على أهل بدر وأُحُد ، وأسلم من حولهم قال سراقة : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي - بني مُدْلج - فأتيته{[7974]} فقلت : أَنْشُدُك النعمة . فقالوا : صه{[7975]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوه ، ما تريد ؟ " . قال : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم تَخْشُن{[7976]} قلوب قومك عليهم . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال : " اذهب معه فافعل ما يريد " . فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، [ ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم ]{[7977]} فأنزل الله : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ }
ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة ، وقال{[7978]} فأنزل الله : { إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم{[7979]} وهذا أنسب لسياق الكلام .
وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم .
وقد روي عن ابن عباس أنه قال : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ] } [ التوبة : 5 ] .
وقوله : { أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ]{[7980]} } الآية ، هؤلاء قوم آخرون من المُسْتَثنَين عن الأمر بقتالهم ، وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حَصِرَةٌ صدورهم أي : ضيقة صدورهم مُبْغضين{[7981]} أن يقاتلوكم ، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم ، بل هم لا لكم ولا عليكم . { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } أي : من لطفه بكم أن كفهم عنكم { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي : المسالمة { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا } أي : فليس لكم أن تقتلوهم ، ما دامت حالهم{[7982]} كذلك ، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين ، فحضروا القتال وهم كارهون ، كالعباس ونحوه ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وعبّر{[7983]} بأسره .
{ إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } استثناء من قوله فخذوهم واقتلوهم أي : إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ، ويفارقون محاربتكم . والقوم هم خزاعة . وقيل : هم الأسلميون فإنه عليه الصلاة والسلام وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، ومن لجأ إليه فله من الجوار مثل ماله ، وقيل بنو بكر بن زيد مناة .
{ أو جاؤوكم } عطف على الصلة ، أي أو الذين جاؤوكم كافين عن قتالكم وقتال قومهم ، استثنى من المأمور بأخذهم وقتلهم من ترك المحاربين فلحق بالمعاهدين ، أو أتى الرسول صلى الله عليه وسلم وكف عن قتال الفريقين ، أو على صفة وكأنه قيل : إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين ، أو قوم كافين عن القتال لكم وعليكم . والأول أظهر لقوله فإن اعتزلوكم . وقرئ بغير العاطف على أنه صفة بعد صفة أو بيان ليصلون أو استئناف .
{ حصرت صدورهم } حال بإضمار قد ويدل عليه أنه قرئ " حصرة صدورهم " وحصرات صدورهم ، أو بيان لجاءوكم وقيل صفة محذوف أي جاؤوكم قوما حصرت صدورهم ، وهم بنو مدلج جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مقاتلين والحصر الضيق والانقباض .
{ أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم } أي عن أن أو لأن أو كراهة أن يقاتلوكم . { ولو شاء الله لسلطهم عليكم } بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم . { فلقاتلوكم } ولم يكفوا عنكم . { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم } فإن لم يتعرضوا لكم . { وألقوا إليكم السلم } الاستسلام والانقياد . { فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم .
كان هذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هادن من العرب قبائل ، كرهط هلال بن عويمر الأسلمي ، وسراقة بن مالك بن جعشم ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف ، فقضت هذه الآية بأنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء أهل العهد فدخل في عدادهم وفعل من الموادعة فلا سبيل عليه ، وقال عكرمة والسدي وابن زيد : ثم لما تقوى الإسلام وكثر ناصروه نسخت هذه والتي بعدها بما في سورة براءة ، وقال أبو عبيدة وغيره : { يصلون } في هذا الموضع معناه ، ينتسبون ، ومنه قول الأعشى : [ الطويل ]
إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ : أَبَكْر بْن وَائِلٍ *** وَبَكْرٌ سَبَتْهَا والأُنُوفُ رَوَاغِمُ{[4184]}
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا غير صحيح{[4185]} ، قال الطبري : قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً وهم قرابة السابقين إلى الإسلام يقتضي بأن قرابة من له ميثاق أجدر بأن تقاتل ، فإن قيل : إن النبي عليه السلام لم يقاتل قريشاً إلا بعد نسخ هذه الآية ، قيل : التواريخ تقضي بخلاف ذلك ، لأن الناسخ بهذه الآية هي سورة براءة ، ونزلت بعد فتح مكة وإسلام جميع قريش .
وقوله تعالى : { أو جاءوكم } عطف على { يصلون } ، ويحتمل أن يكون على قوله : { بينكم وبينهم ميثاق } والمعنى في العطفين مختلف{[4186]} ، وهذا أيضاً حكم كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام ، فكان المشرك إذا اعتزل القتال وجاء إلى دار الإسلام مسالماً كارهاً لقتال قومه ، مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه لا سبيل عليه ، وهذه نسخت أيضاً بما في براءة . و { حصرت } : ضاقت وحرجت ، ومنه الحصر في القول ، وهو : ضيق الكلام على المتكلم ، وقرأ الحسن وقتادة «حصرة » كذا قال الطبري : وحكى ذلك المهدوي عن عاصم من رواية حفص ، وحكي عن الحسن أنه قرأ «حصرات » وفي مصحف أبيّ سقط { أو جاءوكم } ، و { حصرت } عند جمهور النحويين في موضع نصب على الحال بتقدير قد حصرت .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يصحب الفعل الماضي إذا كان في موضع الحال والداعي إليه أن يفرق بين تقدير الحال وبين خبر مستأنف ، كقولك جاء زيد ركب الفرس ، فإن أردت بقولك ركب الفرس خبراً آخر عن زيد ، لم تحتج إلى تقدير قد ، وإن أردت به الحال من زيد قدرته بقد ، قال الزجاج : { حصرت } خبر بعد خبر ، وقال المبرد : { حصرت } دعاء عليهم .
قال القاضي أبو محمد : وقال بعض المفسرين : لا يصح هنا الدعاء ، لأنه يقتضي الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم ، ذلك فاسد .
قال المؤلف : وقول المبرد يخرج على أن الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين تعجيز لهم ، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقير لهم ، أي هم أقل وأحقر ، ويستغنى عنهم ، كما تقول إذا أردت هذا المعنى : لا جعل الله فلاناً عليَّ ولا معي أيضاً ، بمعنى استغنى عنه واستقل دونه ، واللام في قوله : { لسلطهم } جواب { لو } ، وفي قوله : { فلقاتلوكم } لام المحاذاة والازدواج ، لأنها بمثابة الأولى ، لو شاء الله لقواهم وجرأهم عليكم ، فإذا قد أنعم الله عليكم بالهدنة فاقبلوها وأطيعوا فيها ، وقرأت طائفة «فلقتلوكم » وقرأ الجحدري والحسن «فلقتّلوكم » بتشديد التاء ، والمعنى فإن اعتزلوكم أي هادنوكم وتاركوكم في القتل ، و { السلم } هنا الصلح ، قاله الربيع ، ومنه قول الطرماح بن حكيم :
وذاك أن تميماً غادرت سلماً . . . لللأسد كل حصان رعثة الكبد
وقال الربيع : { السلم } هاهنا الصلح ، وكذا قرأته عامة القراء ، وقرأ الجحدري «السلّم » بسكون اللام ، وقرأ الحسن «السّلِمْ » بكسر السين وسكون اللام ، فمعنى جملة هذه الآية ، خذوا المنافقين الكافرين واقتلوهم حيث وجدتموهم ، إلا من دخل منهم في عداد من { بينكم وبينه ميثاق } والتزم مهادنتكم أو من جاءكم وقد كره قتالكم وقتال قومه ، وهذا بفضل الله عليكم ودفاعه عنكم ، لأنه لو شاء { لسلط } هؤلاء الذين هم بهذه الصفة من المتاركة عليكم { فلقاتلوكم } ، فإن اعتزلوكم أي إذا وقع هذا فلم يقاتلوكم ، فلا سبيل لكم عليهم ، وهذا والذي في سورة الممتحنة من قوله تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين }{[4187]} منسوخ بما في سورة براءة ، قاله قتادة وابن زيد وغيرهما .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى، فقال: {إلا الذين يصلون}، يعني التسعة المرتدين، {إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق}، يعني عهد خزاعة وبني خزيمة، وفيهم نزلت: {إلا الذين عاهدتم من المشركين} (التوبة: 4)، إن وصل هؤلاء التسعة إلى أهل عهدكم وهم خزاعة، منهم: هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جشم، وبنو مدلج، وبنو جذيمة، وهما حيان من كنانة، فلا تقتلوا التسعة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح هؤلاء على أن من يأتيهم من المسلمين فهو آمن، يقول: إن وصل هؤلاء وغيرهم إلى أهل عهدكم، فإن لهم مثل الذي لحلفائهم. ثم قال عز وجل: {أو جاءوكم}، يعني بني جذيمة، {حصرت صدورهم}، يعني ضيقة قلوبهم، {أن يقاتلوكم}، يعني ضاقت قلوبهم أن يقتالوكم، {أو يقاتلوا قومهم} من التسعة، ثم قال: {ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم}، يخوف المؤمنين، ثم قال: {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم}، يعني الصلح، يعني هلالا وقومه خزاعة، {فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} في قتالهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{إلاّ الّذِينَ يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}: فإن تولّى هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم فيهم عن الإيمان بالله ورسوله، وأبوا الهجرة، فلم يهاجروا في سبيل الله، فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، سوى من وصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم موادعة وعهد وميثاق، فدخلوا فيهم وصاروا منهم ورضوا بحكمهم، فإن لمن وصل إليهم فدخل فيهم من أهل الشرك راضيا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم، أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم، ولا تُغنم أموالهم... عن عكرمة،قال: نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف.
{أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقاتِلُوكُمْ أوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ} فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو: إلا الذين جاءوكم منهم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم. ويعني بقوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو أن يقاتلوا قومهم، والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام قد حصر، ومنه الحصر في القراءة.
وفي قوله {أوْ جاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقاتِلُوكُمْ أوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ} متروك ترك ذكره لدلالة الكلام عليه، وذلك أن معناه: أو جاءوكم قد حصرت صدورهم، فترك ذكر «قد» لأن من شأن العرب فعل
{ولو شَاءَ الله لَسلّطُهمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ}: ولو شاء الله لسلط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، فيدخلون في جوارهم وذمتهم، والذين يجيئونكم قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم عليكم أيها المؤمنون، فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين، ولكن الله تعالى ذكره كفهم عنكم. يقول جلّ ثناؤه: فأطيعوا الذي أنعم عليكم بكفهم عنكم مع سائر ما أنعم به عليكم فيما أمركم به من الكفّ عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاءوكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم.
{فإنِ اعْتَزَلُوكُمْ}: فإن اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكفّ عن قتالهم من المنافقين بدخولهم في أهل عهدكم أو مصيرهم إليكم، حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم، فلم يقاتلوكم، {وأَلْقَوْا إلَيْكُمْ السّلَمَ}: وصالحوكم. والسلم: هو الاستسلام، وإنما هذا مثل كما يقول الرجل للرجل: أعطيتك قيادي وألقيت إليك خطامي، إذا استسلم له وانقاد لأمره، فكذلك قوله: {وألْقَوْا إلَيْكُمْ السّلَمَ} إنما هو: ألقوا إليكم قيادهم واستسلموا لكم صلحا منهم لكم وسلما. {فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}: إذا استسلم لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم صلحا منهم لكم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً: أي فلم يجعل الله لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم طريقا إلى قتل أو سباء أو غنيمة، بإباحة منه ذلك لكم ولا إذن، فلا تعرضوا لهم في ذلك إلا سبيل خير. ثم نسخ الله جميع حكم هذه الآية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره: {فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}... إلى قوله: {فَخَلّوا سَبِيلَهُمْ إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
فإذا دعت حاجة الزمان إلى مهادنة الكفار من غير جزية يردونها إليه، فكل من انتسب إلى المعاهدين صار منهم واشتمل الأمان عليهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} استثناء من قوله: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} ومعنى {يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ} ينتهون إليهم ويتصلون بهم... والقوم هم الأسلميون، كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، وذلك أنه وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أنّ من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال.
وقيل: القوم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح {أَوْ جَآءوكُمْ} لا يخلو من أن يكون معطوفاً على صفة قوم، كأنه قيل: إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم، أو على صلة الذين، كأنه قيل: إلا الذين يتصلون بالمعاهدين، أو الذين لا يقاتلونكم، والوجه العطف على الصلة لقوله: {فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يقاتلوكم وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} بعد قوله: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} فقرّر أن كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض عنهم وترك الإيقاع بهم.
فإن قلت: كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء، واستحقاق إزالة التعرّض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالمكافين، لأنّ الاتصال بهؤلاء أو هؤلاء دخول في حكمهم، فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قوم، ويكون قوله: {فَإِنِ اعتزلوكم} تقريراً لحكم اتصالهم بالمكافين واختلاطهم بهم وجريهم على سننهم؟ قلت: هو جائز، ولكن الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام.
فإن قلت: كيف يجوز أن يسلط الله الكفرة على المؤمنين؟ قلت: ما كانت مكافتهم إلا لقذف الله الرعب في قلوبهم، ولو شاء لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه لم يقذفه، فكانوا متسلطين مقاتلين غير مكافين، فذلك معنى التسليط.
اعلم أنه تعالى لما أمر بقتل هؤلاء الكفار استثنى منه موضعين:
الأول قوله تعالى: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} وفيه مسائل:
المسألة الثانية:... اعلم أن ذلك يتضمن بشارة عظيمة لأهل الإيمان، لأنه تعالى لما رفع السيف عمن التجأ إلى من التجأ إلى المسلمين، فأن يرفع العذاب في الآخرة عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى والله أعلم.
الموضع الثاني في الاستثناء: قوله تعالى: {أو جآؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلونكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: {أو جاؤوكم} يحتمل أن يكون عطفا على صلة {الذين} والتقدير: إلا الذين يصلون بالمعاهدين أو الذين حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم، ويحتمل أن يكون عطفا على صفة «قوم» والتقدير: إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم عهد، أو يصلون إلى قوم حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم، والأول أولى لوجهين:
أحدهما: قوله تعالى: {فإن اعتزلوكمفلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} وإنما ذكر هذا بعد قوله: {فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم} وهذا يدل على أن السبب الموجب لترك التعرض لهم هو تركهم للقتال، وهذا إنما يتمشى على الاحتمال الأول، وأما على الاحتمال الثاني فالسبب الموجب لترك التعرض لهم هو الاتصال بمن ترك القتال.
الثاني: أن جعل ترك القتال موجبا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض، لأن على التقدير الأول يكون ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض، وعلى السبب الثاني يصير سببا بعيدا.
المسألة الثانية: قوله: {حصرت صدورهم} معناه ضاقت صدورهم عن المقاتلة فلا يريدون قتالكم لأنكم مسلمون، ولا يريدون قتالهم لأنهم أقاربهم... وقوله: {أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم} معناه ضاقت قلوبهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فهم لا عليكم ولا لكم.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن الذين استثناهم الله تعالى أهم من الكفار أو من المؤمنين؟ فقال الجمهور: هم من الكفار، والمعنى أنه تعالى أوجب قتل الكافر إلا إذا كان معاهدا أو تاركا للقتال فإنه لا يجوز قتلهم، وعلى هذا التقدير فالقول بالنسخ لازم لأن الكافر وإن ترك القتال فإنه يجوز قتله، وقال أبو مسلم الأصفهاني: إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر فقال: {إلا الذين يصلون} وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة، إلا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا إليه خوفا من أولئك الكفار، فصاروا إلى قوم بين المسلمين وبينهم عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص، واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه، لأنه يخاف الله تعالى فيه، ولا يقاتل الكفار أيضا لأنهم أقاربه، أو لأنه أبقى أولاده وأزواجه بينهم، فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه، فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم وإن كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: {ولو شاء الله لسلطهم عليكم} التسليط في اللغة مأخوذ من السلاطة وهي الحدة، والمقصود منه أن الله تعالى من على المسلمين بكف بأس المعاهدين، والمعنى: أن ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو لأن الله قذف الرعب في قلوبهم، ولو أنه تعالى قوى قلوبهم على قتال المسلمين لتسلطوا عليهم.
{فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم. واختلف المفسرون فقال بعضهم: الآية منسوخة بآية السيف، وهي قوله: {اقتلوا المشركين} وقال قوم: إنها غير منسوخة، أما الذين حملوا الاستثناء على المسلمين فذلك ظاهر على قولهم، وأما الذين حملوا الاستثناء على الكافرين فقال الأصم: إذا حملنا الآية على المعاهد فكيف يمكن أن يقال إنها منسوخة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
إن الكلام في المنافقين الذين في دار الشرك لا في دار الهجرة سواء كان نفاقهم بدعوى الإسلام أو بالولاء والعهد، وقد أركسهم الله وأظهر نفاقهم وشدة حرصهم على ارتداد المسلمين كفارا مثلهم، وأذن بقتلهم أينما وجدوا لأنهم يغدرون بالمسلمين فيوهمونهم أنهم معهم، ويقتلونهم إذا ظفروا بهم، واستثنى منهم من تؤمن غائلتهم بأحد أمرين:
أحدهما: أن يصلوا وينتهوا إلى قوم معاهدين للمسلمين فيدخلوا في عهدهم ويرضوا بحكمهم، فيمتنع قتالهم مثلهم.
وثانيهما: أن يجيئوا المسلمين مسالمين لا يقاتلونهم ولا يقاتلون قومهم معهم بل يكونون على الحياد وهذا هو قوله تعالى: {أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم} أي جاءوكم قد ضاقت صدروهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فلا تنشرح لأحد الأمرين...
ولما كان الكف عن هؤلاء مما قد يثقل على المسلمين لما جرت عليه عادة العرب من الشدة في أمر المعاهدين والمحالفين وتكليفهم قتال كل أحد يقاتل مخالفيهم ولو كانوا من الأهل والأقربين قال تعالى مخففا ذلك عنهم ومؤكدا أمر منع قتال المسلمين. {ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} أي إن من رحمته تعالى بكم أن كف عنكم بأس هاتين الفئتين وصرفهم عن قتالكم ولو شاء أن يسلطهم عليكم لسلطهم فلقاتلوكم، وذلك بأن يسوق إليهم من الأخبار ويلهمهم من الآراء ما يرجحون به ذلك. ولكنه بتوفيقه ونظامه في الأسباب والمسببات، وسننه في الأفراد وحال الاجتماع، جعل الناس في ذلك العصر أزواجا ثلاثة:
السليم والفطرة الأقوياء الاستقلال وهم الذين سارعوا إلى الإيمان.
المتوسطون وهم الذين رجحوا مسالمة المسلمين فلم يكونوا معهم من أول وهلة ولا أشداء عليهم.
الموغلون في الضلال والشرك والراسخون في التقليد والمحافظة على القديم وهم المحاربون. وإذا كان وجود هؤلاء المسالمين بمشيئة الموافقة لحكمه وسننه فلا يثقل عليكم اتباع أمره بترك قتالهم {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} أي فإن اعتزلكم أولئك الذين يمتون إليكم بإحدى تينك الطريقتين فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم أي أعطوكم زمام أمرهم في المسالمة بحيث وثقتم بها وثوق المرء بما يلقى إليه، فما جعل الله لكم طريقا تسلكونها إلى الاعتداء عليهم، فإن أصل شرعه الذي هداكم إليه أن لا تقاتلوا إلا من يقاتلوكم، ولا تعتدوا إلا على من اعتدى عليكم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم استثنى من هذا الحكم -حكم الأسر والقتل- لهذا الصنف من المنافقين، الذين يعينون أعداء المسلمين -من يلجأون إلى معسكر بينه وبين الجماعة الإسلامية عهد- عهد مهادنه أو عهد ذمة -ففي هذه الحالة يأخذون حكم المعسكر الذي يلتجئون إليه، ويتصلون به: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق).. ويبدو في هذا الحكم اختيار الإسلام للسلم، حيثما وجد مجالًا للسلم لا يتعارض مع منهجه الأساسي. من حرية الإبلاغ وحرية الاختيار؛ وعدم الوقوف في وجه الدعوة، بالقوة مع كفالة الأمن للمسلمين؛ وعدم تعريضهم للفتنة، أو تعريض الدعوة الإسلامية ذاتها للتجميد والخطر. ومن ثم يجعل كل من يلجأ ويتصل ويعيش بين قوم معاهدين- عهد ذمة أو عهد هدنة -شأنه شأن القوم المعاهدين. يعامل معاملتهم، ويسالم مسالمتهم. وهي روح سلمية واضحة المعالم في مثل هذه الأحكام. كذلك يستثني من الأسر والقتل جماعة أخرى. هي الأفراد أو القبائل أو المجموعات التي تريد أن تقف على الحياد، فيما بين قومهم وبين المسلمين من قتال. إذ تضيق صدورهم أن يقاتلوا المسلمين مع قومهم. كما تضيق صدورهم أن يقاتلوا قومهم مع المسلمين. فيكفوا أيديهم عن الفريقين بسبب هذا التحرج من المساس بهؤلاء أو هؤلاء: أو جاؤوكم، حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم.. وواضح كذلك في هذا الحكم الرغبة السلمية في اجتناب القتال؛ حيثما كف الآخرون عن التعرض للمسلمين ودعوتهم؛ واختاروا الحياد بينهم وبين المحاربين لهم. وهؤلاء الذين يتحرجون أن يحاربوا المسلمين أو يحاربوا قومهم...
ويحبب الله المسلمين في انتهاج هذه الخطة مع المحايدين المتحرجين. فيكشف لهم عن الفرض الثاني الممكن في الموقف! فلقد كان من الممكن- بدل أن يقفوا هكذا على الحياد متحرجين -أن يسلطهم الله على المسلمين فيقاتلوهم مع أعدائهم المحاربين! فأما وقد كفهم الله عنهم على هذا النحو، فالسلم أولى، وتركهم وشأنهم هو السبيل: (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم. فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم. فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً).. وهكذا يلمس المنهج التربوي الحكيم نفوس المسلمين المتحمسين، الذين قد لا يرضون هذا الموقف من هذا الفريق. يلمسه بما في هذا الموقف من فضل الله وتدبيره؛ ومن كف لجانب من العداء والأذى كان سيضاعف العبء على عاتق المسلمين. ويعلمهم أن يأخذوا الخير الذي يعرض فلا يرفضوه، ويجتنبوا الشر الذي يأخذ طريقه بعيدا عنهم، فلا يناوشوه.. طالما أن ليس في هذا كله تفريط في شيء من دينهم، ولا تمييع لشيء من عقيدتهم؛ ولا رضى بالدنية في طلب السلم الرخيصة!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الاستثناء من الأمر في قوله: {فخذوهم واقتلوهم} أي: إلاّ الذين آمنوا ولم يهاجروا. أو إلاّ الذين ارتدّوا على أدبارهم إلى مكة بعد أن يهاجروا، وهؤلاء يصلون إلى قوم ممّن عاهدوكم، فلا تتعرّضوا لهم بالقتل، لئلاّ تنقضوا عهودكم المنعقدة مع قومهم. ومعنى (يَصلُونَ) ينتسبون،... ويحتمل أن يكون بمعنى التحق، أي إلاّ الذين يلتحقون بقوم بينكم وبينهم ميثاق، فيدخلون في عهدهم، فعلى الاحتْمال الأول هم من المعاهدين أصالة وعلى الاحتمال الثاني هم كالمعاهدين لأنّ معاهَد المعاهَد كالمعاهَد. والمراد ب (الذين يصلون) قوم غير معيّنين، بل كلّ من اتّصل بقوم لهم عهد مع المسلمين،... وأمّا قوله: {إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق} فالمراد به القبائل التي كان لهم عهد مع المسلمين...
ومعنى {أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم} الخ: أو جاءوا إلى المدينة مهاجرين ولكنّهم شرطوا أن لا يقاتلوا مع المؤمنين قومهم فاقْبَلُوا منهم ذلك. وكان هذا رخصة لهم أوّل الإسلام،... و {حصرت} بمعنى ضاقت وحرجت. و {أن يقاتلوكم}... أي ضاقت عن قتالكم، لأجل أنّهم مؤمنون لا يرضون قتال إخوانهم، وعن قتال قومهم لأنّهم من نسب واحد، فعظم عليهم قتالهم. وقد دلّ قوله: {حصرت صدورهم} على أنّ ذلك عن صدق منهم. وأريد بهؤلاء بنو مدلِج: عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقد عذرهم الله بذلك إذ صدَقوا، وبيّن الله تعالى للمؤمنين فائدة هذا التسخير الذي سَخَّر لهم من قوم قد كانوا أعداء لهم فصاروا سلماً يودّونهم. ولكنّهم يأبون قتال قومهم فقال: {ولو شاء الله لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم}. ولذلك أمر المؤمنين بكفّ أيديهم عن هؤلاء إن اعتزلوهم ولم يقاتلوهم، وهو معنى قوله: {فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً} أي إذْنا بعد أذْن أمر المؤمنين بقتال غيرهم حيث وجدوهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
المعنى: لكن لا تأخذوا ولا تقتلوا أحدا من هؤلاء الذين يصلون بالانتماء أو الرعوية إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد موثق، لا يصح النكث فيه، ولا الخروج على أحكامه، أو التمرد على مقتضاه، فهؤلاء يعاملون كالدولة التي ينتمون إليها، والأقوام الذين يصلون أمورهم بهم، ولا يصح أن يقتلوا أو يؤسروا؛ لأن قتلهم أو أسرهم نقض للعهد الذي وثق وأكد،... وإن قوله تعالى: {يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق}، يدخل في مضمونه طائفتان: أولهما: طائفة تكون رعية لدولة بينكم وبينهم عهد وميثاق، فإنه لا يشترط لنجاتهم أن يخرجوا إليكم مهاجرين، فإنهم آمنون بمقتضى العهد والميثاق، فإن أعلنوا الإسلام، لا يستراب في أمرهم. والثانية: من يتصلون بعهد أو ميثاق أو ولاء ممن كان بينكم وبينهم عهد، فإن لهم من يكونون رعية لمعاهديكم، وإن هذا الصنف يصح أن ينطبق على من لا يظهرون الإسلام ولكن يعلنون السلام. وهناك صنف لا ينتمي لقوم ذوي عهد، ولكنه لا يقاتل قومه لعذر عنده، ويخرج إلى المؤمنين مخلصا لله الدين أو ملقيا بالسلام، وهم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {أو جاءوكم حَصِرَت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم} هذا فريق آخر ممن يعلنون الإسلام في وسط أقوامهم أو لا يعلنونه ولا يقاتلون مع المؤمنين، وهؤلاء ينتمون إلى قوم يقاتلون المؤمنين، وهو في حال حرب، فهؤلاء يعلنون إسلامهم ويجيئون إلى المسلمين معلنين الإسلام، ولكنهم يكونون في ضيق وحرج، فلا يستطيعون قتال أقوامهم، خشية على ذرياتهم أو ذوي أرحامهم، أو أموالهم، ويريدون أن يتذرعوا بالامتناع عن قتال قومهم فإنه يقبل منهم الاعتزال. ومعنى {حصرت صدورهم} ضاقت...
{ولو شاء الله لسلَّطهم عليكم فلقاتلوكم} أي أنه من رحمة الله بكم أن قلل أعداءكم، وأضعف شأن الذين يقاتلونكم، بأن يخرج من بين صفوفهم من يسالمونكم، وإن الله ناصركم في هذا بأمرين: بتقوية جمعكم، وإضعاف شأن عدوكم، ولو شاء سبحانه أن يكونوا جميعا عليكم ولا يخرج منهم من يسالمكم، وجعل أولئك الذين يمدون يد السلام مسلطين عليكم بالقتل والقتال، لكان ذلك، وليس في مصلحتكم، فاختاروا ما أمركم الله به، وهو مسالمة أولئك الذين يسالمونكم، وقد خرجوا من بين أقوامهم. ولقد أكد سبحانه هذا المعنى بقوله تعالى: {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا} أي فاقبلوا من هؤلاء المسالمة، إن اعتزلوا قتالكم ولم يكونوا مع أعدائكم عليكم، ولم يريدوا أيضا أن يكونوا معكم على أقوامهم، وألقوا إليكم السلام غير معاندين، ولا مخالفين، فاقبلوا ذلك منهم ولا تحاربوهم لأنهم لا يقاتلونكم ولا يؤلبون عليكم، ولا يعتدون،... وفي النص الكريم إشارتان لفظيتان: أولهما- قوله سبحانه: {فما جعل الله لكم عليهم سبيلا}، إذ التعبير ب "عليهم "يومئ إلى أن قتالهم اعتداء عليهم، وما جعل الله لكم حق الاعتداء، فالمعنى: ما جعل الله سبحانه لكم سبيلا للإعتداء ب "عليهم". الثانية- التعبير بلفظ السلم بدل السلام للإشارة إلا معنى التسليم، لا مجرد الأمن والسلام، لأن السلم يفيد معنى التسليم، فهم ألقوا إليكم الأمن وتسليم القيادة لكم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد أن أمر القرآن الكريم المسلمين في الآيات السابقة باستخدام العنف مع المنافقين الذين يتعاونون مع أعداء الإِسلام، تستثني هذه الآية من الحكم المذكور طائفتين:
من كانت لهم عهود ومواثيق مع حلفائكم (إلاّ الذين يصلون إِلى قوم بينكم وبينهم ميثاق).
من كانت ظروفهم لا تسمح لهم بمحاربة المسلمين، كما أنّ قدرتهم ليست على مستوى التعاون مع المسلمين لمحاربة قبيلتهم (أو جاؤوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم). (ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم). وهذا تذكير للمسلمين بعدم نسيان الله في كل انتصار، وأن يتجنّبوا الغرور والعجب حيال ما لديهم من قوّة، وأن لا يعتبروا العفو عن الضعفاء خسارة أو ضرراً لأنفسهم. وتكرر الآية في ختامها التأكيد بأنّ الله لا يسمح للمسلمين بالمساس بقوم عرضوا عليهم الصلح وتجنبوا قتالهم، وإن المسلمين مكلفون بأن يقبلوا دعوة الصلح هذه، ويصافحوا اليد التي امتدت إِليهم وهي تريد الصلح والسلام (فإِن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إِليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا)...