قوله عز وجل :{ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن } قال ابن عباس : شدة بعد شدة . وقال الضحاك : ضعفاً على ضعف . قال مجاهد : مشقة على مشقة . وقال الزجاج : المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والمشقة . ويقال : الحمل ضعف ، والطلق ضعف ، والوضع ضعف . { وفصاله } أي : فطامه ، { في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير } المرجع ، قال سفيان بن عيينة في هذه الآية : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات الخمس فقد شكر الوالدين .
وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق ؛ ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة . ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة :
( ووصينا الإنسان بوالديه ، حملته أمه وهنا على وهن ، وفصاله في عامين ، أن اشكر لي ولوالديك ، إلي المصير . وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ، وصاحبهما في الدنيا معروفا ، واتبع سبيل من أناب إلي . ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) . .
وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم ، وفي وصايا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا . ومعظمها في حالة الوأد - وهي حالة خاصة في ظروف خاصة - ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها برعاية الوليد من والديه . فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشىء لضمان امتداد الحياة ، كما يريدها الله ؛ وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن كل ما يملكان من عزيز وغال ، في غير تأفف ولا شكوى ؛ بل في غير انتباه ولا شعور بما يبذلان ! بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما هما اللذان يأخذان ! فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة ! فأما الوليد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولي الذاهب في أدبار الحياة ، بعدما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة ! وما يملك الوليد وما يبلغ أن يعوض الوالدين بعض ما بذلاه ، ولو وقف عمره عليهما . وهذه الصورة الموحية : ( حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين )ترسم ظلال هذا البذل النبيل . والأم بطبيعة الحال تحتمل النصيب الأوفر ؛ وتجود به في انعطاف أشد وأعمق وأحنى وأرفق . . روى الحافظ أبو بكر البزار في مسنده - بإسناده - عن بريد عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هل أديت حقها ? قال : " لا . ولا بزفرة واحدة " . هكذا . . ولا بزفرة . . في حمل أو في وضع ، وهي تحمله وهنا على وهن .
وفي ظلال تلك الصورة الحانية يوجه إلى شكر الله المنعم الأول ، وشكر الوالدين المنعمين التاليين ؛ ويرتب الواجبات ، فيجيء شكر الله أولا ويتلوه شكر الوالدين . . ( أن اشكر لي ولوالديك ) . . ويربط بهذه الحقيقة حقيقة الآخرة : ( إلي المصير )حيث ينفع رصيد الشكر المذخور .
ثم قَرَنَ بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين . كما قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] . وكثيرا ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن .
وقال هاهنا { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ } . قال مجاهد : مشقة وَهْن الولد .
وقال عطاء الخراساني : ضعفا على ضعف .
وقوله : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } أي : تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين ، كما قال تعالى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] .
ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ؛ لأنه قال تعالى في الآية الأخرى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } [ الأحقاف : 15 ] .
وإنما يذكر تعالى تربيةَ الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهارًا ، ليُذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه ، كما قال تعالى : { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [ الإسراء : 24 ] ؛ ولهذا قال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } أي : فإني سأجزيك{[22952]} على ذلك أوفر الجزاء .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد الله بن أبي شيبة ، ومحمود بن غَيْلان قالا حدثنا عبيد الله ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق{[22953]} عن سعيد بن وهب قال : قدم علينا معاذ بن جبل ، وكان بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إني [ رسول ] {[22954]} رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم : أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ، وأن تطيعوني لا آلوكم خيرًا ، وأن المصير إلى الله ، وإلى الجنة أو إلى النار ، إقامة فلا ظعن ، وخلود فلا موت .
{ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا } ذات وهن أو تهن { وهنا على وهن } أي تضعف ضعفا فوق ضعف فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها والجملة في موضع الحال ، وقرئ بالتحريك ويقال وهن يهن وهنا ووهن يوهن وهنا . { وفصاله في عامين } وفطامه في انقضاء عامين وكانت ترضعه في تلك المدة ، وقرئ " وفصله في عامين " وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان . { أن اشكر لي ولوالديك } تفسير ل { وصينا } أو علة له أو بدل من والديه بدل الاشتمال ، وذكر الحمل والفصال في البين اعتراض مؤكد للتوصية في حقها خصوصا ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام لمن قال من أبر أمك ثم " أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك أباك " . { إلي المصير } فأحاسبك على شكرك وكفرك .
هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان ، ووجه الطبري ذلك بأنها من معنى كلام لقمان ومما قصده ، وذلك غير متوجه لأن كون الآيتين في شأن سعد بن أبي وقاص حسب ما أذكره بعد يُضعِّفُ أن تكون مما قالها لقمان ، وإنما الذي يشبه أنه اعتراض أثناء الموعظة وليس ذلك بمفسد للأول منها ولا للآخر ، بل لما فرغ من هاتين الآيتين عاد إلى الموعظة على تقدير إضمار وقال أيضاً لقمان ثم اختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه ، وهذه الآية شرك{[9359]} الله تعالى الأم والوالد منها في رتبة الوصية بهما ، ثم خصص الأم بدرجة ذكر الحمل ودرجة ذكر الرضاع{[9360]} فتحصل للأم ثلاث مراتب وللأب واحدة ، وأشبه ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل من أبر ؟ «قال : أمك . قال ثم من ؟ قال : ثم أمك . قال ثم من ؟ قال : ثم أمك . قال ثم من ؟ قال ثم أباك »{[9361]} فجعل له الربع من المبرة كالآية . { وهناً على وهن } معناه ضعفاً على ضعف ، وقيل إشارة إلى مشقة الحمل ومشقة الولاد بعده ، وقيل إشارة إلى ضعف الولد وضعف الأم معه ، ويحتمل أن أشار إلى تدرج حالها في زيادة الضعف ، فكأنه لم يعين ضعفين بل كأنه قال حملته أمه والضعف يتزيد بعد الضعف إلى أن ينقضي أمره ، وقرأ عيسى الثقفي «وهَناً على وهَن » بفتح الهاء ، ورويت عن أبي عمرو وهما بمعنى واحد ، وقرأ جمهور الناس «وفصاله » ، وقرأ الحسن وأبو رجاء والجحدري ويعقوب «وفصله » ، وأشار ب «الفصال » إلى تعديد مدة الرضاع فعبر عنه بغايته ، والناس مجموع على العامين{[9362]} في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ، وأما في تحريم اللبن فحددت فرقة بالعامين{[9363]} لا زيادة ولا نقص ، وقالت فرقة العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع في حكم واحد يحرم ، وقالت فرقة إن فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرم ، وقوله تعالى : { أن اشكر } يحتمل أن يكون التقدير «بأن اشكر » ، ويحتمل أن تكون مفسرة ، وقال سفيان بن عيينة من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى . ومن دعا لوالديه في دبر الصلوات فقد شكرهما ، وقوله تعالى : { إليّ المصير } توعد أثناء الوصية .