محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ} (14)

{ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ } أي بالإحسان إليهما ، ولاسيما الوالدة . لأنه { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ } أي ضعفا فوق ضعف إلى الولادة . و { وهنا } حال من { أمه } أي ذات وهن . أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال . أي : تهن وهنا . وقوله { على وهن } صفة للمصدر . أي كائنا على وهن . أي تضعف ضعفا فوق ضعف . فإنها لا تزال يتزايد ضعفها . لأن الحمل كلما عظم ازدادت ثقلا وضعفا { وَفِصَالُهُ } أي فطامه { فِي عَامَيْنِ } ثم فسر الوصية بقوله سبحانه { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } أي بأن تعرف نعمة الإحسان وتقدر قدره . قال في ( البصائر ) : الشكر مبني على خمس قواعد : خضوع الشاكر للمشكور . وحبه له . واعترافه بنعمته . والثناء عليه بها . وأن لا يستعملها فيما يكره . هذه الخمسة هي أساس الشكر وبناؤه عليها . فإن عدم منها واحدة ، اختلت قاعدة من قواعد الشكر . وكل من تكلم في الشكر ، فإن كلامه إليها يرجع وعليها يدور . انتهى .

وقوله تعالى { إِلَيَّ الْمَصِيرُ } تعليل لوجوب الامتثال . أي إلي الرجوع ، لا إلى غيري ، فأجازيك على ما صدر عنك من الشكر والكفر .

تنبيهات :

الأول – قال الزمخشري : فإن قلت : قوله تعالى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } كيف اعترض به بين المفسر والمفسر ؟ قلت : لما وصى بالوالدين ، ذكر ما تكابده الأم وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدة المتطاولة ، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا ، وتذكيرا بحقها العظيم مفردا . ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {[6089]} ( لمن قال له من أبر ؟ ) : ( أمك ثم أمك ثم أمك . ثم قال بعد ذلك : ثم أباك ) . وعن بعض العرب {[6090]} أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه .

( أحمل أمي وهي الحمالة * ترضعني الدرة والعلاله * ولا يجازي والد فعاله ) .

الثاني – قال الحافظ ابن كثير : وقوله تعالى : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } كقوله {[6091]} : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } ومن ها هنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة ، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر . لأنه قال في الآية الأخرى {[6092]} : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهارا ، ليذكر الولد بإحسانها المتقدم إليه . كما قال تعالى {[6093]} : { وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا } .

الثالث – قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى توقيت الفصال بالعامين ؟ قلت : المعنى في توقيته بهذه المدة ، أنها الغاية التي لا تتجاوز . والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم ، إن علمت أنه يقوى على الفطام ، فلها أن تفطمه . ويدل عليه قوله تعالى {[6094]} : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } .


[6089]:أخرجه البخاري في: 78 – كتاب الأدب، 2 – باب من أحق الناس بحسن الصحبة، حديث رقم 2309، عن أبي هريرة.
[6090]:انظر الكامل للمبرد، الصفحة 292 من الجزء الأول (طبعة الحلبي).
[6091]:(2 / البقرة / 233),
[6092]:(46 / الأحقاف / 15).
[6093]:(17 / الإسراء / 24).
[6094]:(2 / البقرة / 233).