المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ وَهۡنًا عَلَىٰ وَهۡنٖ وَفِصَٰلُهُۥ فِي عَامَيۡنِ أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ} (14)

هاتان الآيتان اعتراض أثناء وصية لقمان ، ووجه الطبري ذلك بأنها من معنى كلام لقمان ومما قصده ، وذلك غير متوجه لأن كون الآيتين في شأن سعد بن أبي وقاص حسب ما أذكره بعد يُضعِّفُ أن تكون مما قالها لقمان ، وإنما الذي يشبه أنه اعتراض أثناء الموعظة وليس ذلك بمفسد للأول منها ولا للآخر ، بل لما فرغ من هاتين الآيتين عاد إلى الموعظة على تقدير إضمار وقال أيضاً لقمان ثم اختصر ذلك لدلالة المتقدم عليه ، وهذه الآية شرك{[9359]} الله تعالى الأم والوالد منها في رتبة الوصية بهما ، ثم خصص الأم بدرجة ذكر الحمل ودرجة ذكر الرضاع{[9360]} فتحصل للأم ثلاث مراتب وللأب واحدة ، وأشبه ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال له رجل من أبر ؟ «قال : أمك . قال ثم من ؟ قال : ثم أمك . قال ثم من ؟ قال : ثم أمك . قال ثم من ؟ قال ثم أباك »{[9361]} فجعل له الربع من المبرة كالآية . { وهناً على وهن } معناه ضعفاً على ضعف ، وقيل إشارة إلى مشقة الحمل ومشقة الولاد بعده ، وقيل إشارة إلى ضعف الولد وضعف الأم معه ، ويحتمل أن أشار إلى تدرج حالها في زيادة الضعف ، فكأنه لم يعين ضعفين بل كأنه قال حملته أمه والضعف يتزيد بعد الضعف إلى أن ينقضي أمره ، وقرأ عيسى الثقفي «وهَناً على وهَن » بفتح الهاء ، ورويت عن أبي عمرو وهما بمعنى واحد ، وقرأ جمهور الناس «وفصاله » ، وقرأ الحسن وأبو رجاء والجحدري ويعقوب «وفصله » ، وأشار ب «الفصال » إلى تعديد مدة الرضاع فعبر عنه بغايته ، والناس مجموع على العامين{[9362]} في مدة الرضاع في باب الأحكام والنفقات ، وأما في تحريم اللبن فحددت فرقة بالعامين{[9363]} لا زيادة ولا نقص ، وقالت فرقة العامان وما اتصل بهما من الشهر ونحوه إذا كان متصل الرضاع في حكم واحد يحرم ، وقالت فرقة إن فطم الصبي قبل العامين وترك اللبن فإن ما شرب بعد ذلك في الحولين لا يحرم ، وقوله تعالى : { أن اشكر } يحتمل أن يكون التقدير «بأن اشكر » ، ويحتمل أن تكون مفسرة ، وقال سفيان بن عيينة من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى . ومن دعا لوالديه في دبر الصلوات فقد شكرهما ، وقوله تعالى : { إليّ المصير } توعد أثناء الوصية .


[9359]:تأتي (شرك) بمعنى (شارك)، يقال: شركته البيع والميراث أشركه شركة، فهو يريد أن الله تعالى جعل لكل من الأم والأب نصيبا في الوصية بهما.
[9360]:في بعض النسخ: "ثم خصص الأم بذكر درجة الحمل، وبذكر الرضاع".
[9361]:أخرجه البخاري، وأبو داود، وابن ماجه في الأدب، وأخرجه مسلم في البر، والإمام أحمد في مسنده (5-3،5). المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي).
[9362]:زيادة من القرطبي الذي نقل هذه الفقرة من كلام ابن عطية كاملة.
[9363]:في القرطبي: بالعام لا زيادة ولا نقص.